قول الحقيقة وإزعاج الناس أفضل من الكذب لإرضاء الناس”، باولو كويلو
قراءة في «حياة ثقيلة» 
خالد ايما (ملف/139)

خالد إيما

إشارة:

مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.    

أسرة موقع الناقد العراقي

ثقل الحياة الذي لا يطاق او لا يحتمل، هذه اللعنة المخيفة بما تورثه من حروب وضياع وخراب واعتقالات هي من شَرعَ للروائي سلام إبراهيم ان يروي ويقول لنا أشياء لا يمكن أن تقولها سوى الرواية على اعتبار أن “الرواية قبل كل شيء تتفحص لغز الوجود… تتفحص البعد التاريخي للوجود الإنساني”، وهذا ما نستشفه في قراءتنا للحياة وما بعد الحياة التي ربما هي الأخرى تكون ثقيلة بحساباتها الدقيقة لكل أفعالنا وإعمالنا، وبالتالي هناك حساب ما بين وجودنا كأحياء، وما بين وجودنا الآخر كأموات، ومن هذا المنطق الخيميائي القلق والمخيف الذي تشبع به النص النوستالجي (حياة ثقيلة) يحاول الروائي ان يعتمد الماضي كورقة رابحة من خلال استدعائه لبعض الشخصيات الميتة وإحيائها من جديد، سيما وان هذه الشخصيات تعدُ محورا رئيسيا مكن الروائي من سرد تفاصيل حياته التي دائما ما تجيء الينا كقراء على هيئة سيرة ذاتية كاتبها وبطلها وراويها سلام إبراهيم، الروائي الذي أدمن الذاتية وأصبح من روادها النرجسيين، هؤلاء الذين عشقوا  أنفسهم وصورهم وكتاباتهم وحواراتهم ولقاءاتهم، ناهيك عما يفعلونه من أزمات قد تكون بعضها وهمية، تبدأ من الحياة وتنتهي بالحياة على حساب بعض الشخصيات الواقعية المستلبة بالحياة، وربما على حساب الجسد وما يحمله من ثيمات قوية يمكن من خلالها تنشيط مفهوم النص بفنتازيا جنسية، وبالتالي التخفيف من ثقل النص الروائي وما يحمله من ترسانة ثقيلة بمعدات واليات موت اكتسحت كل ما موجود من بياض وأحلام وأمنيات وأماكن سرية، موت أفزع ذائقتنا وتشهينا كقراء وفق رؤية النص الضيقة (أينما نكون يكون الموت حاضرا معنا).

على ما يبدو، نجد الروائي سلام إبراهيم وفق نصه هذا قد تعامل بحيادية وجدية تامة مع أجساد الموتى من أقربائه ومعارفه الذين ماتوا موتا طبيعيا، او مع قتلى الحرب في الجبهة والجبل من زملائه الجنود او الثوار، وهذه خاصية تميز بها الروائي لتكون له حكايات طويلة مع الموت، فلولاه لما استطاع سلام إبراهيم ان يقول شيئا. وملامح ذلك واضحة اذ نجد في كل فصل هناك موت معلن لكل شخصية استدعاها ابتداء من شخصية احمد أبو البدلي (المضاجع بالتناوب)، وشخصية سعد، وانتهاء بموت عبد الحسين داخل (أيييييييييييييي خلصت)!

بأرخنة الموت صار الروائي مؤرخا وثائقيا، وليس مكتشفا للوجود لحقيقة النص وما يبثه من موت معلن للحياة بكل ما فيها من حضارة، وتأريخ، وقيم، وأعراف، وتقاليد، وجمال، وثقافة، ولا أعرف بالضبط لماذا يحيلني ذلك إلى أن أتذكر “حفار القبور” الكاريزما الغريبة التي دائما ما تحفر في الأرض لتدفن شخصياتها وفق قياسات يحددها جسد الميت… الجسد الذي يخضع لطقوس وفسلجة دفن معلنة أمام الملأ، وعلى الرغم من قسوة المشهد (الدفن) نجد في الممارسة حرفة ورائحة وتجل يفتقر إليها الروائي في مشغله السردي المصاب بفايروس التصحر. هذا الأخير هو من جعل  “سلام إبراهيم” يثرثر (أنا ثرثار، لا أسرار عندي، بل فاضح أسرار). ويقر بثرثرته الوثائقية كعادته عن شخصيات  وأمكنة وأحداث وسيرة ذاتية اعتدنا عليها، وربما هي من اعتاد علينا لكثرة اجترارها، وهذا يشكل لنا أزمة تلقي تجاه نص سلام إبراهيم الأسكولائي. النص الذي يبحث عن قارئ بسيط (انطباعي) قارئ لا يحتاج إلى أن يكون استدلاليا، ولا نموذجيا أو حداثويا لاعتبارات يضعها أو بالأصح يفتقر اليها الروائي أثناء كتابة الرواية، سيما وان القارئ الآن أصبح وفق حداثوية الفهم القرائي (البارتي) منتجا آخر للنص، وربما مستوردا للمعاني، ولا نريد لقراءتنا ان تجتر كل ما موجود من حكاية وأساطير داخل النص، ولا تتأثر بالمطبات البلاستي/ روائية التي أدمن عليها بوعي مزمن.

أدعو “سلام إبراهيم” للعودة من جديد لقراءة بورخس، وسارماغوا، وكونديرا، وبالأصح “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي الطيب الصالح، لعله يطلع على الحياة بما فيها من كتابة وجمال وأسرار وفوضى، ويدرك جيدا ما توصلت إليه الرواية اليوم من تقنيات وحرفة في الصنعة ليس في السرد فقط وإنما في قوة الفولتية الروائية بما فيها من خيال وتخيل وما بعدية، وواقعية سحرية ربما تغوينا بمتعة القراءة وما بعد القراءة تفوق ما بجعبته من ثرثرة (سرد) عقيمة همها الأول والأخير ان تأتي بسلام إبراهيم كاتبا وراويا ورائيا وبطلا سوبرمانيا يستلذُ بسيرته الحسنة بما فيها من اعتقالات وولع جنسي، ومغامرات مراهقة تنتشي بسطوة الأسرار وخفايا منطقة الحي العصري، وهذا بحد ذاته يعلنُ عن هوية “سلام إبراهيم” الروائية وتحركاته على مختلف نصوصه الروائية المتقابلة المتشابهة في اللون والطعم والرائحة، ولكن الشيء الذي يبقى ثابتا هو متعة القراءة وما بعد القراءة التي لم نصل إليها إطلاقا في هذه الرواية.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *