ما من أحد هدأ روعي إلاّ تلك المرأة الغامضة، لم أرغب أن يخوض في تأويل رؤياي أحد، كتمت أمري، وقفلت على لساني، خشية أن أسقط في حبائل واشٍ متربص بي، ريب المنون، يقنصني بأذنين كلبيتين، وعينين صقريتين، ليفسر حلمي وفق ما يشتهي قبل أن يعد تقريره، ويهديني قرباناً للسلطة مقابل حفنة تشكرات.
عرّافون ورجال دين ونسوة يدعون أنهم للرؤيا يفسرون، تجنبتهم، واثقاً، أنهم سيقولون لي جملة خادرة: أضغاث أحلام.
***
كنت هلعاً أجوب الشوارع، لا رغبة لي سوى تهدئة جسدي من الضجيج المتفاقم، في محاولة التملص من الكابوس الخانق لإرادتي، والعودة من جديد لمزاولة كتاباتي، بعد أن وجدت نفسي تهرب مذ رأيت ما رأيت.
نادتني تلك المرأة، كانت في الستين من عمرها، خلتها من السائلات، تلك الحشود النسائية اللواتي برزن إلى واجهة الأيام، يجبن الأزقة والطرقات والأسواق بحثاً عن محسنين لله.
ـ أراك كمن أضاع شيئاً!
ـ فعلاً مثلما تقولين.
ـ فتاة مثلاً؟
ـ ذهبتِ بعيداً.
ـ لا تخف.. بإمكاني أن أجعلها طائعة تأتيك.
ـ سحّارة.
ـ معاذ الله.
ـ صاحبة خرزة.
ـ اقرأ خطوط الكف، وما يقوله الفنجان، أفك ألغاز النجوم والكواكب، وما في العيون من أسرار وخفايا.
ـ إذن.. أنتِ ضالّتي المنشودة.
***
كانت تجلس على رصيف الشارع الرئيس المحاذي لوادي بلدتنا جلبلاء، ربما مررت بها كثيراً، ورصدتني جيداً قبل أن تباغتني بجرس صوتها الوسنان، خلتها متسولة، كانت تتلفع بعباءة سوداء، تجلس لصق شجرة سدر، جلست أمامها، ورأيت في عينيها بريق رغبة وأمواج شهوات تتفاعل لتندفع، مسكت كفّي اليمين، وغرزت عينيها في عيني.. قالت:
ـ قل إن شاء الله.
سحبت كفي، وأنا أرتعش من سطوتها الغامضة، ورائحة أغوارها اللاذعة.
ـ ليس كما تظنّين.
ـ لا تخشى من نظراتي، كأنني رأيتك، لا أدري أين؟
ـ ربما أشبه زبوناً مر بك.
ـ لن أخطأ، لا.. لا.. لن أخطأ يا ولد.
ـ دعينا من الظنون، رأيت حلماً تعذر تأويله.
هزّت رأسها، ووضعت إبهامها على خدها، سحبت نفساً عميقاً، حررت آهة، وتمتمت هامسة:
ـ ماذا رأيت؟
ـ رهط أشباح ينشدون صلبي.
ـ بلا سبب؟
ـ لا أعرف!
ـ ألم أقل لك أنني رأيتك، إذاً أنت هو.. أنت هو..
***
دولة واحدة رفضت منح صوتها لصالح القرار الأممي، حصل لغو كاد أن يتحول إلى عراك بالأيدي في قاعة غصّت بسفراء الأمم تحت أنظار البشر المراقب لما يجري من حدث جلل منقول عبر الفضائيات وشبكات الإنترنت.
في ظرف أسبوع واحد، بدأت السفن العملاقة تنطلق من شتى موانئ البلدان المتاخمة على ضفاف البحار والمحيطات، مترنحة بأثقالها وهي تشق متاهات البحار والمحيطات المضببة، في جزيرة متوهجة بالأنوار، تستقيم عمارات سكنيّة، تتناثر حدائق مرتسمة بدقة ترفل بخضرة أشجار وتشكيلات ورود وجداول ماء رقراق، تنويعات من طيور غريبة يتداخل الهديل بالتغريد وتتماوج نسمات رطبة ومنعشة ترقص لها الأفنان، صوت كمان يسحر الفضاء الهادئ بلا انقطاع، كل عمارة مدينة، ترفرف راية فوقها، وكل راية تمثل دولة قاطنيها.
تم توزيع السجناء كلٌ حسب دولته، ليسوا سجناء بالأحرى، بل مبعدون عن أوطانهم، بعدما عمّت الفوضى، وحصلت حروب طحنت البشر، واجتمعت آراء دعاة حقوق الفرد على ضرورة صياغة مسوّدة قرار في هيئة إدارة شؤون الأمم لإنقاذ الأدباء من مخالب الإبادة الجماعية والملاحقات السرطانية من لدن ساسة بلدانهم، بعدما قامت فئات سريّة بتمرير شائعات، إن سبب بلاء العباد على وجه البسيطة، وسر تواصل الحروب هم الأدباء، مثيرو الفتن، ومشعلو الحرائق، ونافخوا الروح في الرماد، بعد نقاش حاد وتنازلات من لدن أصحاب النزعات التمجيدية للتخلي عن شعراءهم، تم وضع جزيرة الأحلام منتجع الملوك والرؤساء الأثرياء تحت تصرف هيئة الأمم لتحويلها إلى قارة ثامنة، على أن يتم إبعاد الأدباء قسراً كي يمارسوا مهنتهم وفق ما يشتهون بعد توفير مناخات الحرية، مع كل وسائل الترفيه، مطابع تطبع بلا رقيب أو توسط، كل شيء مهيّأ وفق ما يتخيله أصحاب الأحلام العريضة، يجلس الأديب في غرفته ويكتب على جهاز الحاسب، إشارات لاسلكية تمتد من كل جهاز حاسوب إلى أسنان المطابع، كل حسب لغته، لتخرج الكتب منزّهة من الحماسيات الفارغة، والمفردات التدميرية للعقل البشري، كتابات تصب مضامينها في بؤرة توحيد البشر، وغرس روح الجمال على وجه البسيطة، كل شيء مرتب بدقة متناهية، لا داعي أن ينشغل المبدع بروتينيات الحياة، مطاعم خمس نجوم، تدق ساعة في كل عمارة فتنطلق الجموع، كل فئة إلى مطعمها الخاص، ليس هناك حساب نقدي، يتم ذلك وفق نظام دقيق، هناك بطاقات ممغنطة ذكية يتم إدخالها إلى فم جهاز لأجراء حسابات آليّة، يتم استقطاعها من مستحقات التأليف المتراكمة في بنوك مؤهلة أن تعمل ذاتياً، صالات مسارح لعرض النشاطات وإقامة الاحتفالات وبثها عبر شبكة المعلومات العالمية الإنترنت، ملاهي ومشارب ومتنزهات ومسابح ورياض أطفال، تحولت الكتابات إلى مناجم ذهب بعد زوال عامل الخوف، وصار كل كاتب يمتلك حصانة عالمية، له الحق في تعرية من توارى خلف الأقنعة، وبدأت وسائل الاتصال تجني أرباحاً بلا حدود، صار العالم كلّه يسهر أمام الكومبيوترات، وهم يلتهمون كنوز إبداعية دفعتهم لنبذ كل ما هو قديم.
تخلصت الحكومات المتفتحة من دبيب الأدباء الفارّين وطالبي اللجوء، وتوقفت مطاردات رجال المخابرات، وظاهرة الاغتيالات المتنامية لكل أديب لا يصالح رئيسه، أو لا يوظف قلمه لصالح سياسته، وجاء ضمن القرار الأممي، بندٌ يجبر الحكومات القادمة على ترحيل كل من يغدو أديباً في قوادم السنين، بعد تقديم كتاب إبداعي يؤكد أهليته للسكن في القارة الثامنة، مما دفع بالناس البحث عن السبل التي تصنع من الإنسان قاصاً أو روائياً أو مسرحياً أو شاعراً في أسوء الاحتمالات، تفشت ظاهرة بيع وشراء المطبوعات في السوق السوداء من قبل أناس سأموا العيش كعبيد، خمدت حدة التناحر السياسي، وانحسرت الأضواء الكاشفة عن ملامح الطغاة، تقدم بعض الأدباء بقرار إلى هيئة رئاسة شؤون القارة الثامنة، ضرورة تغير الزمن استجابة لمقتضيات المرحلة، تم تحويل الليل إلى عمل والنهار إلى نوم وراحة، كون الليل ينابيع تمنح رقراق الأفكار، خلاف النهار لا تأتي إلاّ بالأكاذيب والمشاهد المختلقة، ووصل الأمر ليصرخ شاعر في ذكرى مرور سنة على تأسيس القارة الثامنة: لا حياء في الأدب!. نال رضى الحشود المحتفلة وتم المصادقة شفهياً على دعوة الشاعر، فتعرت الحياة جملة وتفصيلا، صار كل شيء على فطرته، انجرف ذلك إلى الخيال، وشاع أدب وحدوي خال من تلفيق وتخمين ورموز، ألقت الأجساد أسمالها، فاختلط الرجال بالنساء، ولم يعد هناك عيب وحياء، من جديد بدأ اللغط يتصاعد، يوم بدأت الدولة المناهضة للفكرة بتمويل مشاريع سريّة وشراء الذمم المستفلسة لسن قرارات توقف زحف الظواهر القادمة من وراء المحيطات، والتي بدأت تفك مفاصل الحضارات القديمة، في وقت بدأت أصوات الناس ترتفع وتطالب بلا خوف بتمزيق كل ما هو تليد، واستبدال المناهج وفق التيارات المتنامية استجابة لمتطلبات العصر، خلت مسارح الدوّل من الناس، وفرغت الشوارع من التجمهرات، وقفلت المزارات أبوابها، وسكتت المآذن، وهجر الناس المقاهي، لم يعد هناك من يذهب إلى المدرسة، صار العلم يأتي مجاناً، والشباب بدأوا يتحولون إلى كتابة الشعر كونه، الطريق السهل إلى دنيا الحرية والنعيم الأبدي والتخلص من الحياة الساذجة.
صارت القارة الثامنة أكثر قوّة ومالاً، وبدأت النفوس تطمح في سيادة العالم، بعدما استعمروا الرؤوس، وسلبوا النفوس، وجمعوا الفلوس، لم تحتمل الدولة الوحيدة، والتي ظلّت تعاند كل إجماع أممي، ومضت تبذل ما تملك من غالي ونفيس إزاء ما يجري أمام خرس الساسة، بدأت تهيئ أنيابها وتمد مخالبها، وفعلاً حصل ما كان غير متوقع، كانت القارة هاجعة في النهار لحظة حدث زلزال وعم غبار برتقالي، وكل شيء ذاب في لمح البصر، ذلك كل ما حدث بالضبط.
ـ قلت لي أنك شاعر؟
ـ مذ رأيت ما رأيت لم أعد أشعر بشيء يشعرني أنني كنت شاعراً.
ـ وهل كنت الناجي الوحيد من الغبار الذري؟
ـ رأيت بعضهم يتوارون داخل مجاري المياه.
ـ وكيف كانوا الذين تبعوك؟
ـ أشباح تمد مخالب حديدية، رأيت كيف بقروا بطن كل من مسكوه وكيف التهموا أحشاءه.
ـ وماذا رأيت أيضاً؟
ـ ساد العالم عماء وغبار وظلام أبدي.
ـ لا تقصص رؤيتك على أحد، وخبئ كتبك وكتاباتك.
***
بعد مرور أسبوعين على حرق مكتبتي ودفاتري الشعرية، كان الوقت صباحاً، أقتحم رهط رجال الأمن منزلي، غربلوا الموجودات وتم اقتيادي إلى مكان مرعب، وقعت تعهداً على أن لا أكتب شعراً، ولا أحمل كتباً أثناء تجوالي اليومي داخل سوق البلدة.
تحسين كرمياني: القارة الثامنة
تعليقات الفيسبوك