إشارة:
بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال حسن” ، وبعد أكثر من ثلاثين كتابا أصدرها بجهده الخلاق الفذّ ، ها هو يتحفنا بمخطوطة كتاب جديد هو “حكايات للفتيان – حكايات عربية” وهو في مجال أدب الطفل الذي يتقلص كتّأبه –للأسف- يوما بعد آخر ليبقى طلال حسن حامل رايته ومضيء شعلته في هذه المرحلة المدلهمة التي يُخرّب فيها العقل العراقي. باعتزاز كبير تنشر أسرة موقع الناقد العراقي فصول هذه المخطوطة في حلقات مع التمنيات لمبدعنا الكبير بالصحة الدائمة والإبداع المتجدد.
أُسرة موقع الناقد العراقي
الثأر
” 1 “
ـــــــــــــــــ
كدتُ أغفو ، عند الفجر ، عندما دخلتْ عليّ المرأة العجوز ، صاحبة المنزل الأشبه بالخربة ، الذي استأجرت غرفة فيه ، وقالت لي : انهض ..
واعتدلتُ في فراشي ، وتساءلتُ : ما الأمر .
ونظرت المرأة العجوز من الكوة الصغيرة للغرفة ، وقالت لي : تعال انظر .
ونهضتُ من فراشي ، ونظرت من الكوة ، وإذا عدد من الفرسان ، يزيدون عن العشر ، على خيولهم ، وفي أيديهم رايات سوداء .
وتراجعتُ بسرعة عن الكوة الصغيرة ، فنظرت العجوز إليّ ، وقالت بصوتها الشائخ : إنهم فرسان السفاح ، خرجوا من الكوفة ، يريدون البصرة .
وهربتُ بعينيّ المتعبتين الخائفتين من المرأة العجوز ، دون أن أتفوه بكلمة ، فتابعت قائلة : إنهم منذ أيام عديدة، يطوفون الكوفة ومحيطها ، لابدّ أنهم يبحثون عن رجل ما ، والويل له إذا قبضوا عليه .
وعدتُ إلى فراشي ، وتمددتُ فيه ، وقلت وكأنما أحدث نفسي : الوقت مبكر ، والشمس لمّا تشرق بعد ، فلأنم بعض الوقت ، أريد أن أرتاح .
واتجهت العجوز إلى الخارج ، وهي تدمدم : لابد أنّ هؤلاء الفرسان ، براياتهم السوداء ، يبحثون عن الهاربين من بني أمية .
وتوقفت عند الباب ، والتفتتْ إليّ ، وقالت : يُقال إنهم يبحثون عن رجل بعينه ، وقد رصدوا جائزة ثمينة لمن يدل عليه ، ليتني أعرف مكانه .
وأضافت المرأة العجوز بصوتها الشائخ ، وهي تخرج ، وتصفق الباب وراءها : يُقال أن اسمه .. إبراهيم بن سليمان .. نعم هذا هو اسمه .. إبراهيم ابن سليمان .
وأغمضتُ عينيّ المتعبتين ، وحاولت أن أنام ، لعلي أرتاح قليلاً ، لكن دون جدوى ، آه لو تعرف هذه العجوز ، التي لن تشبع عيناها الجشعتين إلا من حفنة من التراب ، أن إبراهيم بن سليمان ، حبيس إحدى غرفتي بيتها المتهدم ، لطارت إلى الفرسان ، وسلمتني لهم ، لتحظى بالجائزة الكبرى .
ونهضتُ من فراشي ، ونظرتُ عبر الكوة الصغيرة ، لا فرسان ، ولا رايات سوداء ، ليس هناك غير رمال صحراء جرداء تمتد حتى الأفق .
وابتعدتُ عن الكوة الصغيرة ، لكني لم أعد إلى فراشي ، إن الآفاق المتباعدة ، التي جبتها شبراً شبراً ، منذ أن بدأت الهرب ، بعد انتصار الرايات السوداء ، بدأت تضيق شيئاً فشيئاً ، وسأقع بين أيديهم عاجلاً أو آجلاً ، هروب .. هروب .. هروب .. إلى أين ؟ وإلى متى ؟ لكن هذا لابد منه ، وإلا .. آه إذا أمسكوا بي .. إن سيوفهم لن ترحمني .
ولملمت بعض حاجياتي وما أقلها ، وكمنت خلف باب غرفتي ، ورحت أراقب المرأة العجوز من شق في الباب ، وعند شروق الشمس ، رأيتها تحمل جرتها ، وتخرج من البيت ، لابدّ أنها ستذهب إلى البئر ، وتأتي بما تحتاجه من الماء .
وانتهزتُ هذه الفرصة ، وتسللتُ من البيت ، الذي يقع في طرف القرية ، فمضيتُ مسرعاً ، لا ألوي على شيء، ورحتُ أتوغل في عمق الصحراء .
” 2 “
ــــــــــــــــــ
خلال أيام وأيام وأيام ، تنقلتُ من مكان إلى مكان ، من هذه الصحراء الموات ، أتجنب ما فيها من واحات وخيام وحتى عابرين ، أنام في العراء ، ملتحفاً بسماء حية تنبض بالنجوم المضيئة .
ومن بعيد ، ربما من داخلي ، يتناهى إليّ عواء ذئب متوحد جائع ، يبحث في هذا الموات عن فريسة ، يُسكت بها جوعه الأبديّ ، وأكثر من مرة ، تمنيتُ لو يأتي هذا الذئب ، ويسكت جوعه بجوعي لعلي أرتاح .
وعند الفجر ، في أحد الأيام ، وأنا متمدد تحت نخلة عجفاء ، بعيدة عن إحدى الواحات الضائعة وسط الصحراء ، أفقت على وقع حوافر حصان ، وكلّ ظني أنني أحلم ، وحين فتحتُ عينيّ ، رأيت رجلاً ملثماً ، يحدق فيّ من على حصانه .
سألني الرجل الملثم : من أنت ؟
ولذت بالصمت برهة ، ثم قلتُ : كما ترى ، رجل عابر في هذه الصحراء .
وحدق الرجل الملثم فيّ ملياً ، ثم قال بصوت محايد : يوم أمس ، رأيت فرساناً يحملون الرايات السوداء ، يجوبون هذه الأصقاع .
وصمت الرجل الملثم برهة ، لذت خلالها بالصمت ، فتابع الرجل الملثم قائلاً : أهلي يقيمون حالياً في واحة قريبة ، سآخذك معي إلى هناك ، إذا كنت بحاجة إلى مأوى ، ولو لأيام .
ونظرتُ إليه ، وقلتُ : أشكرك جزيل الشكر ، إنني قاصد أهلي ، وسأواصل السير إليهم غداً ، مع شروق الشمس .
وتلفت الرجل الملثم حوله ، ونظر إليّ ، وقال : رافقتك السلامة حيثما ستذهب .
ولكز حصانه ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : لا تبقَ هنا، فهذا المكان خطر .
ولم يكد الرجل الملثم يغيب ، على حصانه في الرمال ، حتى نهضتُ من مكاني تحت النخلة العجفاء ، ولملمتُ أغراضي ، لابدّ أن أمضي مبتعداً عن هذا المكان الخطر، كما قال الرجل الملثم ، لكن إلى أين ؟
واستبدّ بي الوهن واليأس ، إنني منذ فترة طويلة ، أهرب من مكان إلى مكان ، وسط هذه المتاهات الموات القاتلة ، وخيل إليّ أول الأمر ، أن الصحراء يمكن أن تكون ملاذاً آمناً ، لكن هيهات ، لا أمان لي في أي مكان، مادمتُ على قيد الحياة .
وتوغلت في أعماق الصحراء ، تأخذني رمال لتسلمني إلى رمال ، فتسلمني هي الأخرى إلى رمال ، آه لقد عشتُ طوال حياتي ، في فيء القصور والبساتين والمياه الآمنة العذبة ، والآن ليس حولي ، على مدّ البصر ، غير رمال .. رمال .. رمال .
” 3 “
ـــــــــــــــــ
دخلت مدينة الكوفة ، رغم أنني حاولتُ دائماً أن أتجنبها ، وعند ظاهر المدينة ، لاح لي قصر يمتدّ على مساحة كبيرة ، تحيط به حديقة واسعة غنّاء .
وتوقفتُ تحت نخلة قريبة من القصر ، ومرتْ بي امرأة طيبة الملامح ، وتوقفت بعد أن تجاوزتني ، وحدقتْ فيّ، وقالت : أيها الرجل ، يبدو أنك غريب .
ورمقتها بنظرة سريعة ، ثم غضضتُ نظري عنها ، وقلتُ بصوتي المتعب : نعم ، أيتها المرأة ، إنني لستُ من هذه المدينة .
واقتربت المرأة مني ، وهي تدقق النظر فيّ ، وقالت : رغم ثيابك ، والغبار الذي يعلوك ، لا يبدو أنك من أهالي البوادي والصحراء .
لذتُ بالصمت ، وعيناي بعيدتان عن المرأة ، يا إلهي ، ما العمل ، كلما أردتُ أن أتخفى ، جاءني من يريد أن يعرفني ، عامداً أو عن غير عمد .
ومالتْ عليّ المرأة ، وقالت وهي تشير إلى القصر الكبير : إنني من هذا القصر ، سآتيك ببعض الطعام ، إذا كنتَ جائعاً .
ونظرت إليها بعينيّ المتعبتين ، وقلتُ لها بصوت فيه شيء من اللوم : أشكركِ ، يا سيدتي ، لا حاجة بي إلى الطعام ، إنني لستُ متسولاً .
وبدل أن تنصرف المرأة عني ، قالتْ بصوت يشي بهدوئها وطيبتها : ليس المتسول وحده بحاجة إلى الطعام، يا رجل ، أنت غريب عن هذه المدينة ، وتبدو متعباً جداً ، وربما أنتَ جائع أيضاً .
وقلت لها بهيئة من يريد أن ينهي الاستمرار في الكلام : أشكركِ ، وقفت هنا ، تحت هذه النخلة الوارفة ، لأرتاح قليلاً ، ثم أواصل طريقي .
ورمقتني المرأة بنظرة متعاطفة ، ثم مضت مبتعدة ، وهي تقول : رافقتك السلامة حيثما تذهب ، وإذا احتجت إلى شيء ، فاطرق باب القصر .
وتابعت المرأة بعيني المتعبتين ، وقد اشتدّ وهني ، حتى غدوت لا أكاد أقوى على الوقوف ، وبدا لي وكأنني سأتهاوى على الأرض ، ورأيتها تدفع باب القصر ، وتدلف إلى الداخل .
وهممتُ أن أواصل طريقي ، وإن كنتُ أشعر ، بأنّ قدميّ لم تعودا تقويان على حملي ، لكني كنتُ مصمما على الابتعاد عن هذا المكان .
وتوقفتُ ، وقلبي يخفق بشدة ، حين سمعت وقع حوافر خيل تقترب مني ، وتوقف قربي حصان ، يعتلي صهوته فارس صارم السحنة ، وإن كان على ما يبدو متعباً ، فحدق فيّ ، وقال : السلام عليكم .
وأجبته ، وقلبي يزداد خفقانه : وعليكم السلام .
وقال الفارس : تبدو متعباً وخائفاً ..
وقبل أن يسترسل في كلامه ، قلتُ له : جئتُ من مكان بعيد ، وأنا متعب فعلاً ، و ..
وصمتُ لاهث الأنفاس ، فقال لي الفارس ، وهو ما زال يحدق فيّ : ألكَ حاجة ؟
ماذا أقول له ؟ هل أقول له إنني مطارد ، لا يقرّ لي قرار ، لا في الليل ولا في النهار ، لكني هززتُ رأسي، فقال الرجل : تبدو خائفاً ، ولعلك هارب من أمر ما ، هذا شأنك ، لكن تعال وارتح عندي آمناً مكرماً .
والتفت إلى من معه ، قبل أن يلكز حصانه : أحضروه إلى القصر هيا ، أحضروه .
وترجل أحدهم عن حصانه ، وقال : أمرك مولاي .
اتسعت عيناي ، مولاي !
وأردتُ أن أعتذر من الرجل ـ الأمير ، لكن الفارس الذي ترجل ، أخذ بيدي ، وقال لي : ستكون ضيفاً معززاً عند الأمير ، تعال معي إلى داخل القصر .
وحين دخلنا باحة القصر ، ترجل الأمير متعباً مقطباً عن حصانه ، والتفت إليّ ، ثم قال لأحد أتباعه : لتخصص غرفة الحديقة لهذا الرجل ، ولتكن إحدى الجواري في خدمته .
وانحنى الرجل له ، وقال : أمر سيدي .
وأخذني الرجل إلى غرفة واسعة ، في طرف الحديقة الواسعة ، مؤثثة أجمل تأثيث ، وقال لي : هذه غرفتك ، وسيقدم لك فيها كلّ ما تحتاج إليه .
وخرج الرجل ، وتركني وحيداً في الغرفة ، ولأول مرة، منذ فترة بدت لي دهراً ، صرت في مكان نظيف مرتب، يذكرني بالعالم الذي فقدته إلى الأبد ، لكن أهذه الغرفة جنة أم .. فخ ؟
” 4 “
ـــــــــــــــــ
جاءني خادم مُسنّ بالطعام ، عند المساء ، وقال لي بنبرة أبوية طيبة : بنيّ ، كلْ هذا الطعام كله ، فأنت على ما يبدو بحاجة إلى الطعام والراحة .
وجلست إلى الطعام ، ورحت آكل ببطء ، وقلت للخادم العجوز : أشكرك ، يا عم ، إنني بحاجة إلى الطعام فعلاً، لكني بحاجة إلى الراحة أكثر .
وأكلتُ بضعة لقيمات ، لكني سرعان ما سحبتُ يدي ، فقد شعرتُ بالغثيان ، رغم أن الطعام كان شهياً ولذيذاً جداً ، وتمددتُ في فراشي لعلي أرتاح ، وحين جاء الخادم العجوز ، نظر إلى صحاف الطعام ، وقال لي متعجباً : أنت لم تأكل شيئاً .
فرفعت نظري إليه ، وقلتُ بصوت واهن : أكلتُ ما يكفيني ، أشكرك .
ومدّ الخادم المسنّ يده ، وتحسس جبهتي ، ثم قال : حرارتكَ مرتفعة ، يبدو أنك مريض .
وأشحت عنه بعينيّ ، وقلتُ له : كلا ، إنني متعب بعض الشيء ، وسأرتاح إذا نمتُ .
لكني لم أرتح ، رغم أنني نمت تلك الليلة ، وإن كان نوماً مضطرباً ومتقطعاً ، ويبدو أنني كنتُ مريضاً فعلاً، فقد تراءى لي ، وكأنّ ذلك في المنام ، أن رجلاً ، ربما كان طبيباً ، عاينني معاينة دقيقة ، ومعه امرأة وأكثر من خادم ، وربما معهم أيضاً .. الأمير نفسه ، ترى ماذا يجري ؟ آه من يدري .
وفتحتُ عينيّ المتعبتين ، ذات ليلة ، وإذا امرأة قد مالت عليّ ، وهي تحدق فيّ ، من هذه المرأة ؟ وتفرستُ فيها ملياً ، إنها تشبه المرأة ، التي تحدثت إليّ أمس ، تحت تلك النخلة ، القريبة من القصر .
وقبل أن أتبينها جيداً ، جاءني صوتها ، تقول : حمداً لله، الطبيب نفسه لم يصدق أنك ستنجو ، وها أنت قد نجوت، إنك الآن بخير .
عندئذ عرفت أنها المرأة نفسها ، وحاولتُ أن أعتدل ، فمدت يدها ، وأبقتني في مكاني ، وهي تقول : ابقَ في فراشكَ ، ما زلت متعباً ، إنني أرعاك منذ أيام ، بأمر من الأمير نفسه ، وبإشراف الطبيب .
ونظرتُ إليها ممتناً ، وقلتُ لها : أشكركِ ، لا أعرف كيف أجازيك ، على معروفك الطيب هذا .
فابتسمت لي ، وقالت : تماثل للشفاء ، وعد إلى صحتك وعافيتك ، وهذا أفضل جزاء لي .
وتماثلتُ للشفاء ، والمرأة حولي لا تفارقني ، إلا في الليل ، عندما أستغرق في النوم ، وذات يوم ، وقد انتهيتُ من تناول طعام الغداء ، الذي جاءتني به على عادتها كلّ يوم ، قلت لها : أشكركِ يا ..
وسكتّ ، ثم قلت : عفواً ، أنتِ ترعيني منذ أيام وأيام ، وأنا لم أعرف اسمكِ .
وابتسمت المرأة ، وقالت : اسمي جوهرة .
فقلتُ لها : أنتِ جوهرة بحق .
وابتسمت فرحة ، وقالت : أشكرك .
وتابعت قائلاً لها : الحقيقة ، يا جوهرة ، أنني لولاك ، ولولا رعايتك لي ، لربما هلكت .
ونظرت جوهرة إليّ ، وقالت : كل ما قدمته لك ، كان بأمر من سيدي الأمير نفسه .
وأطرقت رأسي لحظة ، وقلتُ بصوتي الواهن : الأمير على ما يبدو ، رجل طيب للغاية ، فليوفقه الله ، ويحقق له ما يسعى إليه ويتمناه .
ونظرت جوهرة إليّ ، وقالت : ما يسعى إليه سيدي الأمير ، يشكل جوهر حياته ، ولن يهدأ له بال ، ولن يرتاح ، إذا لم يحققه .
وصمتت جوهرة ، ثم قالت : سيدي لم يسألك ، ولن يسألك ، من أنت ، وكذلك أنا ، هذا سرك ، وليس من حق أحد ، أن يحاول معرفته ، ولكن يبدو لي ، أنك من عائلة كريمة و ..
وربما أرادت جوهرة أن تسترسل ، لكنها أحجمت ، وتوقفت عن الكلام ، فنظرت إليها ، وقلت لها : ألاحظ أن الأمير ، هذا الإنسان الطيب ، وفضله عليّ لا يُنسى، حزين مهموم آسف ، يخرج كلّ يوم ، على رأس عدد من الفرسان ، ويغيب النهار كله ، ويعود عند المساء متعباً ، وقد ازداد حزنه وأسفه .
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : إنني متأثر جداً لحاله ، ويبدو لي أنه يبحث عن شيء ، له خطره وأهميته الكبيرة عنده، لكنه لا يجده له أثراً .
ونظرت جوهرة إليّ ، وقالت : نعم ، إنه يبحث عن مهمة عمره ، عن ضالته ، ولن يتوقف أو يهدأ له بال ، حتى يجد ضالته ، وينجز تلك المهمة .
وخفق قلبي بشدة ، لا أدري لماذا ، فحدقت فيها بعيني القلقتين ، وسألتها : عمن يبحث بالضبط ؟
وحدقت جوهرة فيّ صامتة ، فتابعت قائلاً بصوت بدا لي مضطرباً بعض الشيء : عسى أن أخفف عنه ، أو أدله على بغيته ، من يدري .
وقالت جوهرة ما زلزل كياني : إنه يبحث عن قاتل أبيه، ولن يرتاح حتى يجده .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إنه لم يرَ قاتل أبيه ، لكنه يعرف اسمه ، .. القاتل هو .. إبراهيم سليمان .
” 5 “
ــــــــــــــــ
تناهى إليّ وقع حوافر الخيل ، قبيل مساء ذلك اليوم ، فنهضت إلى النافذة الصغيرة ، المطلة على حديقة القصر ، ورأيت الباب الخارجي قد فتح على سعته ، والأمير وثلة فرسانه ، يدخلون على خيولهم .
ونظرتُ إلى الأمير ، عبر النافذة الصغيرة ، وهو يترجل عن حصانه ، ها هو كما يعود ، كلما خرج مع فرسانه ، متعباً آسفاً ومحبطاً ، وسرعان ما خفّ سائس إليه ، وأخذ بزمام حصانه ، وبخطوات متعبة سار الأمير ، ودلف إلى القصر .
وبعد صلاة العشاء بقليل ، خرجتُ من غرفتي ، في أقصى حديقة القصر ، وقد عقدتُ العزم على وضع حدٍ للقضية ، واتجهت قدماً نحو مدخل القصر ، وهناك اعترضني حارس ، وقال لي بحزم : توقف .
فتوقفت ، وقلتُ له : أريد أن أرى الأمير .
وسألني الحارس : هل استدعاك الأمير ؟
أجبته : لا ، لم يستدعني ، وإنما لي حاجة عنده .
وحدق الحارس ملياً فيّ ، ثم قال : ابقَ هنا ، سأطلب لك الإذن من الأمير أولاً .
ودخل الحارس القصر ، وأغلق الباب وراءه ، وسرعان ما عاد من الداخل ، وقال لي بصوت أقلّ حزماً : الأمير سيقابلك الآن ، تعال معي .
وسار الحارس أمامي ، في أحد ممرات القصر ، ووقف أمام أحد الأبواب ، وطرقه برفق ، وعلى الفور ، جاءنا صوت الأمير : ادخل .
ودفع الحارس الباب ، وهمس لي : تفضل .
ودخلتُ إلى الغرفة ، وقلبي يخفق بشدة ، وسمعت الحارس يغلق الباب ورائي ، ونهض الأمير حين رآني، وقال : أهلاً ومرحباً .
وتوقفتُ أمامه ، وقلتُ : أهلاً بك أيها الأمير .
وحدق الأمير فيّ ، وقال : طلبت أن تراني ، وقلتَ أن لك حاجة ، تفضل ، قل حاجتك .
وبدل أن أتكلم ، رحت أنظر إليه ، ولما طال صمتي ، قال : لقد تعافيت الآن ، وربما تريد أن تغادرنا إلى أهلك، مهما يكن ، البيت بيتك ، ابقّ هنا ما تشاء ، ولن تلقى عندنا إلا ما يسرك .
قلت بصوت متحشرج : أشكرك ، أيها الأمير ..
وصمت ، فحدق الأمير فيّ ، وقال : يبدو أن لديك ما تريد أن تقوله لي ، تفضل ، قل ما تشاء .
وتابعتُ كلامي قائلاً بنفس الصوت المتحشرج : أراك تركب كلّ يوم ، مع ثلة من الفرسان ، وتعود آخر النهار، متعبً آسفاً ، كأنك تطلب شيئاً فاتك .
وقطب الأمير حاجبيه ، وهو يحدق فيّ ، وقال بصوت مفعم بالغيظ والغضب : أحدهم قتل أبي ، منذ سنين ، وبلغني أنه متخفٍ في محيط الكوفة ، وأنا أطلبه حتى أجده ، واثأر لأبي منه بسيفي هذا .
فنظرتُ إليه ، وقلتُ : علمت من المرأة التي ترعاني ، أن اسم قاتل أبيك هو.. إبراهيم بن سليمان .
وتقادحت عينا الأمير غضباً ، وقال : نعم ، هذا اسمه ، لكني لا أعرفه ، ولم أره من قبل .
وتقدمت خطوة من الأمير ، وقلتُ له : أيها الأمير ، لقد رعيتني ، وأنقذت حياتي ، ومن حقك عليّ أن أدلك على قاتل أبيك مهما كان ، إنني .. أعرفه .. أعرف قاتل أبيك.. وأعرف أين هو الآن .
ولاذ الأمير بالصمت ، وقد اشتعلت عيناه بالغضب ، فمددتُ يدي ، وأخذت سيفه ، وكان على منضدة قريبة مني ، وقدمته للأمير ، وقلت له : قلت لي ، أنك ستثأر لأبيك بهذا السيف ..
وأمسك الأمير بالسيف مذهولا ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فتابعت قائلاً ، وأنا أشير إلى نفسي : أنا أيها الأمير .. إبراهيم بن سليمان .
وتمتم الأمير مصدوماً ، وكفه تقبض على السيف بقوة : أنتَ ! أنت إبراهيم بن سليمان ؟
فأجبته : نعم أنا .
ولبث الأمير يحدق فيّ ، والسيف في يده ، وبدل أن يطعنني بالسيف ، راحت النيران تتراجع في عينيه ، حتى كادت تخبو ، ثم أطرق رأسه ، وقال وهو يغالب ما في نفسه : يا ويلي ..
وألقى الأمير السيف من يده ، ونظر إليّ ، وقال : لن أقتلك ، وإن كانت هذه منية حياتي ، فأنت في بيتي ، ضيفي ، في حماي ..
وصمت لحظة ، ثم أشاح بوجهه عني ، وقال : امضِ .. امضِ بعيداً .. لا أريد أن تقع عيناي عليك يوماً .. لا هنا ولا في أي مكان .. أنا لا آمن عليك من نفسي .. امضِ
امضِ بسرعة دون توقف .
ومضيتُ ، مضيتُ بسرعة ، وقد تخلصت من موت محقق ، لأواجه حياة أشبه بالموت البطيء ، في متاهات الصحارى الخالية حتى من السراب .
19 / 4 / 2020