فاروق مصطفى: محنة الكتابة في السبعين

يظل الكاتب يكتب صفحاته الطوال طالما ان هنالك موضوعات ملقاة على قارعة الطريق ، يلتقطها وينقلها الى عالم الورق ، او ذكرياته التي تكويه حتى العظام فهو بكتابته اياها يحييها و يمنحها حياة جديدة ، و مرات يتصور ان تجارب مهمة ظللته فهو يريد الوقوف عندها و نقل حكمها و ماجرياتها الى الاخرين فالكتابة تستمر اذا كانت هناك دوافع تدفع الكاتب اليها و اصعب ما يخشاه هو انتفاء هذه البواعث الكتابية ، فعندذاك يحس ان المعين الذي يمتاح منه يدب فيه الجفاف و يعتوره اليباس فهنا تبدأ محنة الاديب الذي تنفس الكتابة و جعلها مّحياه ، يحس ان التنمل يسري في انامله و مداد دواته يتبخر ، و الشيء الذي كان يعيش به و يكرس العمر له و يأمل ازهاره يحاول مغادرته و تركه في هذا العراء المتناهي حيث يضمحل عالمه الكتابي و يلج هذا البوار من الضياع و الاظلام و التخبط في متاهات وحدته الطويلة فيشرع في التفكير في ايجاد دوافع و وسائل تجدد طاقته الكتابية و تلهمه المزيد من عوالم الابداع يرحل الى بلاد مجهولة و اراضٍ جديدة لعل هذا الرحيل يكشف امامه طرق لم يعرفها من قبل و تحثه في معانقة احلام لم يكتشفها و ترفد ادواته الكتابية بانساغ دافقة ، و هذا ما حصل مع العديد من كتاب امريكا عندما وفدوا الى الحاضرة الفرنسية في عشرينات القرن المرتحل امثال همنغواي و فيتزجرالد و غيرهما ثم العديد من الكتاب الغربيين عندما اختاروا مدينة ( طنجة ) المغربية ملاذا جديداً لهم و اغرقوا انفسهم في ملذات و مباهج الحياة المغربية بطقوسها و عاداتها و فنونها الشعبية اذكر من هؤلاء : جان جينيه ، تنيسي وليامز و بول بولز ، الا اننا نجد شاعراً مثل ( ارتور رامبو ) يسكت عن قول الشعر و هو في التاسعة عشرة من عمره بالرغم انه في قمة نضوجه الشعري سكت عن الشعر و لم يعد اليه ثانية حتى توفاه الله و بقي هذا الغموض مكتنفا حياة هذا الشاعر الجوال المغامر الى ايامنا هذه .

دخلت السبعين و انا قلق من تيبس مدادي و النبع الذي ظل يغذي كتاباتي هو الاخر يترشرش و يلج الى اعطافه النفاد ، فعند ذاك تصيبني الحيرة فمن اين احتطب موضوعاتي ؟ و هل كهولتي قادرة برفدها بدماء حارة جديدة ؟ ان رتابة الايام تعتم سبلك و انت تبحث عن غوايات تمنحك طزاجتها حتى تسترسل في عالم الكتابة بالرغم من كل عذاباتها و اوجاعها الا ان اجتراع كاس اوصابها فيه لذة ما بعدها لذة و شهوة وحشية لاستطعام ذواقه اللذيذ ، و هنا اتذكر الكاتب ( كازانتاكيس ) صاحب ( الطريق الى غريكو ) و هو يتضرع الى الله مع قدمة كل صباح ان يمد في عمره يوما اخر حتى يواصل كتاباته و يصل ما انقطع منها و يديم خلق عوالمه الروائية لان في هذا البناء حياته و هو يعيد تشييدها كما يحلم و يتمنى . ان حلم الكاتب هو العثور على مفاتيح الابداع كي يلمس جمرته و لا ضير في ان تحترق اصابعه المهم اضاءة قناديل الفرح و ابصار ما لايبصر و تاتيني قولة في راسي للكاتبة الفرنسية ( مارغريت دوراس ) و المتوفاة عام 1996 : ( الكتابة و لاشيء اخر ) حتى ان الكلمات كانت تستيقظ و تزهر في حدائق احلامها و كلنا نتذكر كلماتها المهومة ( حين انام اكتب ايضا ) اذن لا بديل عن هذا الجميل الرائع الذي ننشئ عبره عوالمنا التي تصعد و تهبط ، تمحل و تفيض ، تأسى و تفرح و نحن نمشي في هذا النفق الطويل بحثا عن تلك الكوة المغزوة بضفائر الضياء .

تاتيني موضوعات كتاباتي عادة في الساعات المتقدمة بعد منتصف الليل ، تجيئ على شكل ابخرة تهوم في راسي ابقى اقلبها و اغربلها ، افكار لا ادري كيف تقتعد رفوف ذاكرتي تغريني ان امسكها و عدم السماح لها من الانفلات و التسرب هنا و هناك الا انني احس انها تسيل من خلل اصابعي فاخرج من احلامي و اراها تغادر غرفتي و انا اقتفي اثارها و بالرغم من تعبي و اثقال اعوامي السبعين اجري خلفها علّي امسكها ، ترى ما الذي استطيع ان اصنعه و انا خالٍ من الاوراق و المداد لهذا ساهرول خلف نصوصي الهاربة هذا ان اسعفتني قدماي المضنكتان و بياض الصبح يغمر نافذتي تدريجيا بنوره الدفاق انه صباح اخر يفترش الطرقات مغتسلة بسكينته البيضاء .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *