للرثاء حضور قوي في مدونة الشعر العربي قديما وحديثا الى اليوم ، وقصائده هي الأصدق بين الأغراض الشعرية لخلوها من الكذب و الزيف والنفاق . والرثاء هو أحد أبرز مواضيع الشعر العربي و العالمي . و القصيدة المرثاة Elegy قصيدة مبنية على مشاعر الحزن و الأسى على فقد النفس أو القريب أو الصديق . في الشعر العربي كتب المرثاة شعراء كثيرون منهم : أبو ذؤيب الهذلي في رثاء اولاده و الخنساء في رثاء أخيها و مالك ابن الريب في رثاء نفسه ، كما كتب شعراء الغرب في الرثاء منهم : الشاعر الانجليزي Thomas Gray ) ) توماس كراي قصيدة
(ِ مرثاة مكتوبة في فناء كنيسة ريفية ) وكتب فكتور هوغو قصيدة رثاء ينعى فيها ابنته .
من تحولات الحداثة الشعرية خلال العقود الاخيرة هو اختفاء شعر المراثي لفترة ما بعد ان كان من المواضيع الهامة في الشعر العمودي . أستعاد شعر المراثي وجوده بعد ان ادرك الشعراء ان مظاهر الموت أكثر درامية من مظاهر الحياة بعد شيوع امراض العصر و أوبئتها .
مذ خلقنا ونحن نضطرب عند ذكر الموت ونحن نراه يحصد بالأرواح الواحدة تلو الأخرى . ولأن الفطرة السليمة أن يتشبث الإنسان بالحياة ، لم يجد الإنسان بديلا عن الشعر والفن ليواجه به الموت الرهيب . والشعر خير ما يعبر به الإنسان عن شجونه وأحزانه متجلدا بالصبر الجميل ليتجاوز به حالة الفقد والغياب ، فيسعى بمراثيه إلى تخليد الرّاحلين عبر القوافي والأشعار .
وها نحن إزاء قصيدة ( لامية ) تفيض أسىً وحزنا ، إنها مرثية الشاعر الدكتور سعيد جاسم الزبيدي في ابن عمته ( أبا منار ) التي بثّ فيها عصارة أحزانه وأشجانه تخليدا لذكرى فقيده رحمه الله تعالى .
نص القصيدة :
—————-
ابا منار خبا في صدرِنا أملُ
وحال بيني وبين الملتقى الأجلُ
لأستعير من الايام لي مدداً
بساعةٍ منك فيها العينُ تكتحلُ
قد كنت آتيك من نزوى اضجُ أسىً
والتظي غربةً فيها واشتعلُ
واشتكي حدَّ حرّ الدمعِ يوجُعني
فاستحي كيف أُخفيها واحتملُ
فتنبري تنزعُ الآهاتِ لاهبها
كأنكَ الغيثُ جلَّ الجائدُ الهطلُ
مذكراً ما يعانيه ذوو فطنٍ
إن بالعراق ،وأن شطّت بهم سبلُ
كلٌ لديه بما يُغنيه من ألمٍ
أشدُ مضاً له أن يعلو السَفلُ
وقلت لي مرةً : إنّا سواسيةٌ
نشقى ، وذا دأبنا او دأبُ من عقَلوا
ماذا اقول وكم كانت طفولتُنا
ممزوجةً بهمومٍ كُلها عللُ
لم تثننا عن طموحٍ شوطهُ عَثَرٌ
وليس يؤمن في خطواتنا الزللُ
وكم سبقنا هنا الاقرانَ عن ثقةٍ
وصار يُضربُ في أجيالنا المثلُ
وكم وكم لستُ أُحصي ايَّ مأثرةٍ
فكلُ عمُرك لم يقعد بكَ الكللُ
ولم تخنكَ الى نَيلِ العُلا قدمٌ
وما اشتكيت وأنت المفردُ الرجلُ
جئتُ المحاويلَ مذبوحاً امجُّ دماً
من جُرحِ (نورس)او فقدان من أصلُ
ولا أعتراض على أمرٍ جرى قَدراً
قد خطه الله وانقادت له الرسلُ
ابا منار، أحظي الآن تسبقني
اعدُّ بَعدك أيامي وترتحلُ
قد كنتُ ارجو اذا ما الموتُ ادركني
تقيم لي مجلساً بالذكرِ يكتملُ
لكنما حكمةٌ في الموت نجهلها
لا اللاحقون لهم رأي ولا الأوَلُ
وليس بعدك سلوان نلوذُ به
الا الدموعُ أذا ما اسعفت مقلُ
وفي النبي وآل البيت اسوتنا
ستلتقيهم وفيهم يُصطفى العملُ
وللمحاويل عذري إن قافيتي
تُضاعف الحزنَ وأسودت بها الجملُ
غدا اذا جيءَ بي نعشا فأسالها
هل تعذرين اغترابي أنني خجلُ
ابا منار وداعاً لا لقاء له
فقد خبا عندنا من بعدك الأملُ
لُذّ بالحسين الذي في بعض تربتهِ
شفاعةٌ وبها ندعو ونبتهلُ
*****
قرأت القصيدة من الداخل وحاولت استنطاق النص الشعري لتجاوز الحدود السطحية و الشكلية له وتحليل الصورة التي تترجم وجدان الشاعر واحاسيسه بفقدان ابن عمته و رفيق طفولته سيما انهما بنفس السن . أبدى الشاعر الدكتور سعيد الزبيدي اهتماما بمطلع القصيدة لخلق فضاءه الشعري و التأثير في المتلقي وشده لمضمون القصيدة .
ترتكز القصيدة على شعور وجداني انفعالي يتعلق بالتعبير بمفردات لها دلالات الحزن والاسى من قبيل :
أشتكي / الدمع / الآهات / الم / هموم / علل / مذبوح/ دم / جرح / فقدان /
الموت / الدموع /الحزن / نعش
وبعبارات الحيلولة دون تحقيق لقاء و الحيلولة دون تحقيق الرغبة في رؤية الفقيد قبل الرحيل .
ابا منار خبا في صدرِنا أملُ
وحال بيني وبين الملتقى الأجلُ
لأستعير من الايام لي مدداً
بساعةٍ منك فيها العينُ تكتحلُ
كما ترتكز القصيدة على ( التأبين) ونلمس فيه هروب الشاعر من لحظة الفقد إلى الماضي الذي يجد فيه الشاعر مأوىً للتذكر والاشباع الوجداني ، ولتحقيق هذه الرغبه لجأ الشاعر الدكتور سعيد جاسم الزبيدي الى استخدم تقنية الاسترجاع flashback لاستعادة ذكريات مخزونة في اللاوعي :
وقلت لي مرةً : إنّا سواسيةٌ
نشقى ، وذا دأبنا او دأبُ من عقَلوا
ماذا اقول وكم كانت طفولتُنا
ممزوجةً بهمومٍ كُلها عللُ
لم تثننا عن طموحٍ شوطهُ عَثَرٌ
وليس يؤمن في خطواتنا الزللُ
وكم سبقنا هنا الاقرانَ عن ثقةٍ
وصار يُضربُ في أجيالنا المثلُ
وكم وكم لستُ أُحصي ايَّ مأثرةٍ
فكلُ عمُرك لم يقعد بكَ الكللُ
ولم تخنكَ الى نَيلِ العُلا قدمٌ
وما اشتكيت وأنت المفردُ الرجلُ
وهذا ( الاسترجاع ) واضح من الانتقال الزّمني من لحظة الفقد إلى الأمس ومن ثم الى ذكريات الطفولة .
وفي القصيدة أيضا رثاء من نوع آخر هو ( رثاء وطن ) لما أصابه من عاديات الزمن ، فيها مشاعر وطنية صادقة :
مذكراً ما يعانيه ذوو فطنٍ
إن بالعراق ،وأن شطّت بهم سبلُ
كلٌ لديه بما يُغنيه من ألمٍ
أشدُ مضاً له أن يعلو السَفلُ
فعندما يكون للفقد أثر عميق في النّفس يعي المتلقي عمق الحزن الذي يعانيه الشاعر ازاء هذا المصاب . والحقيقة ان الشاعر يرثي عزيزين : الشاب أبن أخيه ( نورس ) وابن عمته (ابا منار) ، ويهذا فأن الشاعر حول مشاعره الصادقة ودموعه ومرارة اللوعة الى خيال جميل بألفاظ عذبة تحرك مشاعر المتلقي وتترك فيه أثرا عميقا ليشارك الشاعر مشاركة وجدانية :
جئتُ المحاويلَ مذبوحاً امجُّ دماً
من جُرحِ (نورس)او فقدان من أصلُ
اذا تأمّلنا الصّورة التي رسمها الشّاعر للفقيد أدركنا المنهل الاخلاقي الي نهل منه الفقيد ما يجعله خالدا في ذاكرة أصدقائه و محبيه . ابرزت القصيدة قيمة الفقيد ومكانته الاجتماعية وهي من سمات جودة قصيدة الرثاء الحديثة اضافة الى السمات الاخرى من الصدق والتلقائية :
وكم وكم لستُ أُحصي ايَّ مأثرةٍ
فكلُ عمُرك لم يقعد بكَ الكللُ
ولم تخنكَ الى نَيلِ العُلا قدمٌ
وما اشتكيت وأنت المفردُ الرجلُ
والصورة الفنية للقصيدة قائمة على البكاء و التأبين و العزاء . ولكن الشاعر لن ينسى أن يهدئ من نفسه وشعره بما يسمّى ( عزاء النفس ) ويتأسى بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وآل بيته ، فيقول :
وفي النبي وآل البيت اسوتنا
ستلتقيهم وفيهم يُصطفى العملُ
القصيدة مرتبة تبدأ ( بالشعور الوجداني بالفقد ) ثم (التأبين ) ثم ( الرثاء ) ثم ( عزاء النفس وتهدئتها ) . والرثاء هو الاقرار بواقع الحال و الاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره ، والايمان بأنه لا بد من الموت لأنه من سنن الوجود وأنه لا بد من التكيف مع حالة الفقد والصبر على المصيبة والاقرار بالأمر الواقع وهو ما نلمسه في قول الشاعر :
ولا أعتراض على أمرٍ جرى قَدراً قد خطه الله وانقادت له الرسلُ
والقصيدة عكست حرارة اللوعة والالم والحزن العميق . واستمرت مشاعر واحاسيس الشاعر في تشكيل الصورة الشعرية وبنائها . وظف الشاعر الدكتور سعيد الزبيدي حواسه في التعبير عن افكاره و مشاعره و انفعالاته . وفي القصيدة اشارة الى دفن الفقيد في مقابر كربلاء قرب ضريح الامام الحسين بن علي بن ابي طالب (عليهم السلام ) :
ابا منار وداعاً لا لقاء له
فقد خبا عندنا من بعدك الأملُ
لُذّ بالحسين الذي في بعض تربتهِ
شفاعةٌ وبها ندعو ونبتهلُ
واخيرا يمكنني القول أنّ مرثية الشاعر الدكتور سعيد جاسم الزبيدي في بن عمّته ( أبا منار ) قد فصحت عن الحس والشعور المرّ بالموت والفقد فكانت بحق من المراثي القوية الوقع التي اشاع في مقاطعها فيض حزنه وشجنه مما أكسبها بذاخة الوجع . وقوة وقع القصيدة ناتج من قوة الصلة بين الشاعر والفقيد . الايقاع الموسيقي للقصيدة ايقاع هادىء حزين كتبها الشاعر بالبحر البسيط وبروي ( اللام) ، فهي تختلط بانفعالات الشاعر وثقافته وسهلة الوصول للمتلقي . استجابت القصيدة – رغم حداثتها – لرّوح الشعر العربي الأصيل .