إشارة:
ببالغ الاعتزاز والتقدير، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر فصول كتاب الناقد والموثِّق البارع “ثامر الحاج أمين”: “سيرة وجع عراقي: محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني” الذي يتناول جوانب من المسيرة الإبداعية الباهرة والثرة للراحل الكبير “علي الشيباني” وكفاحه الحياتي المرير الذي رسم نهايته المؤلمة. يأتي نشر فصول هذا الكتاب ضمن ملف الموقع عن الراحل علي الشيباني الذي تدعو الأحبة الكتاب والقراء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للناقد ثامر الحاج أمين.
أسرة موقع الناقد العراقي
قصص قصيرة
الغرق
1. جلس على حافة السرير شاحبا جدا
– من أين تأتي بثمن العملية الجراحية؟
قالت الزوجة ذلك وغرست رأسها في الارض
نظر حزينا ثم اغرقه السعال والوهن في سريره المتداعي.
2. الا تكف عن التناسل وانت في هذا العوز والوهن؟
(قال صديقه)
– أجاب:
– ولكن ماذا علي ان افعل؟
– كف
– ستكون مريم نهاية العنقود (وغرق ثانية في نهاية التعب)
3. حملها السائق الى المستشفى عبثا (قالت الجارة)
– لقد كانت منتهية (قال الاخر)
– ألم يجد غير – مريم- ثمنا لرعونته؟ وليغرق الطفولة في اللوعة.. والغياب
4. لم يتحرك منذ الحادثة.. ظل ساهما. (همست الام في اذنه)
– سيأتي السائق ومعه عدد من الوجهاء لزيارتك.. والترضية.. و.. ماذا..؟
– وليدفع الثمن
– ثمن ماذا؟
– ثمن حياة مريم.. واردفت
– ولكي تتمكن من اجراء العملية… حدق في المجهول.. وغرق ثانية في الصمت.
(اجلسوه في اليوم التالي لحضور جلسة الترضية ميتا).
عوينات المريض
– صاحبك مريض
– لا…
– ويعتب عليك كثيراً
– ولكنني، وياللأسف مشغول هذه الأيام
– لاعذر لديك
– سأزوره مساء اليوم بعد ان اشتري اطار لعويناتي. لم يتمكن من شراء الاطار لإرتفاع سعره، لكنه سار مكتئبا لزيارة صديقه المريض فقد وجده في حالة يرثى لها.. لقد اخذ منه المرض.
– تلفت في غرفة الصديق الخاوية ولكنه لم يجد شيئا يستحق الاهتمام غير (العوينات) العتيدة المركونة على الطاولة المجاورة للفراش.. ثم حدث نفسه:
– كم جميل ومتين هذا الاطار المركون هناك. (ثم اطرق خجلا من تفكيره المريض).

البلبل الحر
عاد (علي) بعد غيبة طويلة، كان يغرد في (قفص) محكم بعيد ولكنه باستمرار كان يوسع من مسافته الضيقة بالغناء… والحلم… عاد يتأبط صوته المتأجج برغبة جامحة تجتاحه نحو الحرية… والحب.
(طرق الباب)
كانت الدهشة تشع في الوجوه المتقدة بسمات متباينة اكثرهم اضطرابا كانت (الام) والتي امسكت بقوة وذهول بـ(علي).. وصمتت بعد ان غادرت الكلمات في أعماقها الحائرة… لاتدري ماذا تفعل… اخذت تدور في الدار بلا ارادة. ثم وقفت أمام القفص الحديد الذي يحتوي على (بلبل) قلق.
– كنت قد قررت ان افتح القفص بوجهك واطلق البلبل نذرا لحريتك الغالية.
(فتحت باب القفص الصغير وامسكت بالبلبل ورمته بعيدا في فضاء الدار) ولكن ووسط دهشة العائلة عاد البلبل الى فناء الدار واسرع نحو باب القفص المفتوح ليدخل الى بيته الصغير… صاحت الأم:
– ياه… لماذا؟ اما علي فقد انسكب على الارض وهو يخفي وجهه المغمور بالدموع.
انهم يموتون منتصف الليل
الى صديقي الدكتور ثائر الخزاعي
نراهما على الدوام كصديقين موغلين بالإلفة.. والتحاور الحياتي الحميم.. بلا أبناء واقارب، بلا اي انسان يمضي بهم الزمن، وبلا اشياء اخرى تثقل سيرهم الوئيد والمتناغم بثنائية متلاحمة.. دافئة, ولا يظن احد ان الايام قادرة على النفاذ من خلال هذا التوحد البشري المتلازم بسرية وغموض داكن..
الحي الشعبي كتلة متراصة من الخارج على الرغم من تناقضاتها الداخلية المتراكمة الا ان الاحداث التي تطفح على السطح بين الفترة والاخرى تفضح جانبا هشا من النفاق.. والكتمان.. والحيوات النسانية المتناقضة (ساهرة) مع الفجر تدرج وحيدة الى حيث المحل الخاص ببيع طعام الفطور، وهي تعبق بالعطور اللاذعة وروائع النسوة الجنوبيات النباتية المثيرة,.. وهي المرة الوحيدة، خلال اليوم تخرج بمفردها.. ذابلة تمشي بغنج مكابر.. تتمايل وكأن (خيون) يسندها، وتعود علي عجل لكي تغلق الباب خلفها وتعود اليه اما ظهورها بعد ذلك فهو مشروط برفقته المتشابكة مسيرها المتطامن والمالوف لدى الاخرين.. كانت هي الاكثر حراكا، والاقرب لقامته الضئيلة، حتى يتراء لمن يراقبها انها توشك ان تتوحد به.. او لاتترك سانحة له تبعده عنها سرعان ما تعصب رأسها الصغير بشال تميل ألوانه الى محطة في العمر بين الصبا و(الدكة) التي يرتكن اليها الانسان الرافض عبور هذه الدكة الاخيرة والقاسية الى حيث الفناء.. وجهها المدور الصغير والحاد يظهر بعضا من نقوش الوشم الانثوي الجنوبي الساحر.. حتى ليبدو انها قطعة فنية سومرية من الزخرفة الخضراء العجيبة وعندما تمد كفها المناسب مع هذا الوشم الصاعد تحس انها غارقة بمتعة غامرة بتاثيث جسدها المنتصب.. والمتدفق بالحس ومحاولة ادهاش الاخر بمغريات مترادفة وعنف الرغبة المعبرة عن وضع النساء الجنوبيات النساني والحياتي الملتبس.. والمحشود بالاسرار.
يبدو ان نضوبها الولادي ويباس انهارها الداخلية تحول الى سواق اخرى للرغبات المذبوحة في كيانها الجسدي المستفز. اما (هو) فضفة النهر الماحلة والواقعة على خيار الرحل الممتد من عشب الضفة المائية الكثيف الى مسافات النهر والنبات المتوحش، المنطفيء من جهاته الاربع السادرة المعتادة لظنها القائم في اعادة توهجه (البارد) باي شكل كان.. يراه البعض وفي احيان قليلة ونادرة وحيدا عن فرجة الباب او في موقف اخر يبدو فيه بائسا.. وماخوذا الى حد يثير الشفقة.. والاسف لرجل يرزج تحت وطاتها المتقدة وافتراضاتها المجنونة وهي تراه صاغراً وقد خلع ثيابه المستعارة وواجه حضورها الانثوي المحير بجسد اكله الشيب والتغضن لكنها تقابل على الدوام جزعة بدلال يئس.. وحسرة.
ماذا يهم عليك ان تتحرك
من أين ياتي بالحركة الفاعلة والغائبة في عمر انهكته خيول الشرطة الأولى واسطبلاتها القذرة والركض المبكر والمذعور وراء رغيف الخبز المتباعد و(الدرهم) الوطني الأبيض لأيام سوء لا تنتهي.
– لقد كبرنا يا ساهرة.. كبرنا الامرين؟!
– صحيح بس بينه بعد..ينراد لك اشوية حركة.. انت ما تعرف؟
– منين اجيب الحركة..ماي ونشف..منين
-اني افك بيبان روحك.. باب.. باب
تحدث جيرانهم كثيرا عنهم حتى اصبح تواجدهم في الحي علاقة محيرة وهم يتخيلون ما تفعله به من اجل انها في روحه الغافية فتصنع له اغذية(خاصة) تكثر فيها من لذعات الحرارة النباتية المختارة وتجلب له الكثير من الدعية الغامضة والاسحار الغريبة وقد توقفه على روائح وابخرة لا رائحة بها غير الوهم والاختناق وبعد ذلك تمتحن جسده الهامد بما جربت وعندما تشيع الخيبة ولفشل في مساماته الصدئة، المغلقة تبدا هي يائسة بفعل (الدورين) بعد ان تركنه جانبا وهي منفعلة وصاخبة لاتستعين بسوى اصبع واحد من يده اليمنى لا غير توكل ما في الرجل من رجولة تالفة وتتواصل الى النهاية.
– الى متى نستمر؟
– بعد وكت..
ثم ننطفيء وهي مشتعلة
****

وفي ليلة ملونة تطل على احد الاعياد العامة، كانت – ساهرة- قد اعدت لعيدها الاخر كل مايلزم كان – خيون- صامتا وهو يراقب بوهن فعاليتها المعهودة والمتنوعة مع انها تحاول ان تضفي عليها مسحة جديدة.. اخذ يردد بهدوء احدى الترديدات الشعبية لأطفال الفرات:
(باجر عيد ونعيد ناكل طبخة سعيد وسعيد كرابتنه… الخ)
قدمت له مائدتها الزاخرة باشياء كثيرة اشتركت معه بلهفة في تناول (العشاء الاخير) اثاره كل هذا التنوع على ماتعوده منها وكانت تطعمه انواعا معينة من الاغذية المعدة بمواصفات غامضة وتراكيب ساحرة.. اتخمته فاضطجع جانبا ثم تحولت الى نوع اخر من السوائل.. والتوابل والمذاقات..
– ساهرة.. كافي هي بطن لو..
– ادري..بطن بس اريدها تشتغل.. شغلها زين الليلة عيد
– العيد للصغار والقادرين على اللعب.. والسهر.. والفرح
– احنا هم بينه بعد لعب
– يمعوده..
أمضت فترة بتحضير.. الكاسيت الغنائي المفضل لديها للمطربة (زهور حسين): (غريبة من بعد عينج ييمه.. محتارة بزماني/ ياهو اليرحم بحالي ييمه.. لو دهري رماني).
– الليلة عيد ساهره.. وهاي الاغنية تضوج
– العفو ابدلها
اقتربت منه حزينة هذه المرة مع مافعلته ولم تبق عليه شيئا يستر شيخوخته القاحلة وصمته العميق.. سوى.. بدأت بتنظيم شعيرات لحيته المصبوغة توا على وجه مدبب وتمسح النعاس والوهن عن عيونه الذابلة وتهبط معه بيدين مرتعشتين عبر جسده المحايد وهي تستحث الجلد البارد على الارتعاش والمفاعلة.. والرحيل بطريقته الخاصة.. تعب فنام.. هبط به الماء.. اما هي فقد انقلبت جانبا وهي عطشى.
اشلون بي… ثم سكتت.
وبعد ان سار الليل داكنا وغير مبال باوجاع ومتاعب البشر وهمومهم المرهقة.. نهضت ساهرة وهي تندب: خيون… خيون وينك..!!
جلس خيون متثائبا وقد وضع يده الواهنة تحت رقبتها الموشومة وقبلها بحنان..
– اقترب مني بعد..بعد
ارادت ان تصرخ لكنها سكتت
-ماذا افعل يا الهي؟؟
استقامت وركضت حافية في كل ارجاء الدار.. لاتدري ماذا تفعل؟
عادت اليه مذعورة لم تتمكن من لمسه..
-لقد اصبح شيئا
بدا الليل يتحرك مضطربا وهي الان غير قادرة على الاقتراب منه وترميمه.. لا تدري ماذا تفعل ازاء هذه (الوحشة) المدمرة والتي غفلت كل شيء جلست منحنية على الارض اقتربت بعد ذلك منه.. البسته وهي مرتبكة ثيابه الاخيرة ووضعه مستقيما بوجه غائر تحت سماء بعيدة
– كم ظل من الليل يا الهي.. كيف يتسنى لي ان افضح موته.. ماذا علي ان افعل؟!
اخذت تدور بقلق مؤلم في كل زوايا البيت وكانها في صحراء لا تنتهي حتى انها صعدت الى اعلى الدار دون ان تدري ونزلت مسرعة كل اللحظات القاسية تمر بها شامتة ومذعورة.
هكذا مضت المسافة الفائضة من الليل برعب ووحشة لا مثيل لها وهي تنتظر كلهبة النار المترتعشة خيوط الفجر القادم لتعلن بصحية واحدة رحيله المغرض.
غدا حضور جسده المطفيء فائضا.. ولا يمكن احتماله..
بدا الفجر.. بدات ساهرة تستعد..
بدا الفجر يقترب..اخذت تزحف صوب بياضه العسير..
وقف الفجر مرتبكا على صرخة حادة وقاسية كانها نجمة محترقة تسقط على صدره البارد قدم الناس صامتين.. تومض احاديثهم الملتوية بين اخر النعاس.. والفجر القادم ملفوفا بجسد خيون الناضب.. تقدم من رقاد (خيون) المسجى من ازمان سحيقة احد الاصدقاء القدامى وبعد ان اغمض عينيه الحزينة ولمس كفه اللين.. انتصب قائلا:-انه ميت منذ زمن !
اجابته على الفور امراة قلقة من الواقفات سيماؤها تدل على الدراية.. والتجربة والفهم.
نعم.. كلهم يموتون منتصف الليل.
القدم المعشبة
تنبثق القصة في روحي على: مسافة مفتوحة تبدأ من جسر الديوانية الأول الصغير حتى الحافات السفلى من ضريح الشهيد العلوي الذبيح (ابن الكاظم). فضاءات تزخر بالماء المشاع والعشب النابت فوق وتحت كل شيء، والهامات البيضاء المشوبة بسمرة فاتحة من التربةالمشتهاة والعابقة بالثمر، حتى ليكاد المرء لخصوبتها الطافحة بالطيب والهشاشة ان يملأ بها كيانه.. وثيابه ويتمرغ بها، حتى اني شاهدت العديد من النسوة يلتهمن حفنة من ترابها ابتغاء للبركة.. والخصب ولقداستها المحشودة بالعطاء.. ونزيف الانسان.. حفروا على اديم الأرض الملون ومن خاصرتها الملامسة للنهر ساقية طويلة تتبعثر عند الضوء المنبعث من اقدام (الإمام الجليل) عند الإنحناء الأول للنهر الديواني اللين.. تتفرع منها سواق عديدة كأنها فروع لامعة لشجرة الماء النقية..
كان على (محسن) ان يطل.. ويهيمن على كل هذا الفضاء المتماوج والمتاخم لفرح المدينة ونزهتها المسائية/ الشرقية وعبث فتيانها المشاكس للساقية.. والطيور والاشجار ومحسن هنا سيد الماء والنخل والطين، له على هذه الارض سطوة عارمة.. وفي خلوته المرهقة يتكأ على سدرة هرمة خلف بيته الطيني الراقد عند فم النهر المتشابك وكتلة الحديد الصاخبة لماكنة (السيد) التي يديرها –محسن- بجدارة وهي تقذف بماء الفرات الغريني الاصفر الى مسافات العشب البعيدة من خلال الساقية الام واغصانها المائية المتناثرة يلتمع في تدفقها الشمسي سمك لامع يعود الى مائة بعد ان يقفز في فضاء الساقية ليثير ربما لهفة الاطفال ويشاركهم اللعب واثارة الخبز الساخن في الاجساد المتوثبة. يسهر في الليل ماسكا بأوله وآخره واضعا قدمه الاولى على المساء المرتعش والاخرى على النهايات الغبشية الساكنة.. والمريبة، حيث الأقاصي المضطربة لخلوات السكر الرجولية العبثية.. والعنيفة هو الراجل في الوسط الرابط بين مثابات العتمة وخفاياها.. لمحسن روح مفتوحة لهم جميعا ينتظرهم عند اول انحناء لشمس الديوانية المتهاوية.. ويتجول بفرسه الحمراء الرشيقة فوق الخلوات والزوايا ومرابض اللهو الصبياني البريء وقد يقتحم بعض مواقع الغموض لضرورات النخوة الملحة والحذر من افعال البعض من المدمنين والمغامرين من السوقة واللصوص لقد ذبح بعض هؤلاء انوثة عدد من الفتيات بعد اغوائهن عند لحظة الغياب اليومي لروح الشمس وحضور الكابة المبللة بليل العشب المريب وتركهن لمصيرهن الدامي.. والغامض.. وللصبية مرارات مشابهة تحدث احيانا ويحدث جراء ذلك تراكم للعداوة والبغض لاتجدي معه كل مواقف الفروسية والنجدة المشهودة عند اول صهيل مرتفع.. لابد من اعداء لمحسن يتوالدون سرا وفي العلن تحت غطاء من التجارب الداكنة والنفوس العليلة.. والغادرة ويوم مكث به الليل واوغل الشك بغيابه المريب: نهضت (فاطمة) واعتلت سطح الغرفة الطينية وعاينت سطح الارض والماء والهواء كي تجد لسطح روحها الذابل سكينة.. وضوء وبعد برهة اعتلت السطح للمرة اللاتدري وكانها تلاحق انحدار الشمس للجهة الاخرى من القلق هبطت في عتمة الدار الخاوية وهي ترتجف وتسقط الكلمات من كيانها مقطعة.. وتومض وتتبعثر على التراب منطفئة. اندفعت باتجاه دار (السيد) المالك والمجاور لهم.. دخلت بهو الدار الواسع لتجد مجموعة من النسوة الواجمات سألت الجميع بلهفة:
– ها.. كولن.. محسن صار بيه شيء؟

اجابها صمت النسوة الصافنات وكأنهن يجبن عن تساؤلها بوضوح هوت على الارض كمن سرق منه نبض الجسد واوقف مسير الروح.. وبعد فترة صمت ليس اثقل منها.. تقدم النسوة منها ورفعن قمتها المتداعية سعيا الى دارها وابنتها الوحيدة (حنان) الراقدة تحت ندى اول المغيب غافلة عما يجري، كانت فاطمة تشعر على الدوام ان محسن مهدد لجسامة الدور الذي ينهض به في المزرعة واوزار المدينة ومتاعب ليلها الطويل وظهاريها الساخنة ونهرها الحاضن للغرائب وعندما ترتفع مخاوفها الأمومية يجيبها بثقة:
– ماكو شيء
ولكن هذا (الشيء) الغائب في طيات الزمن اخذ محسن على غفلة ورمى الزوجة وابنتها الجميلة في مسلك الدنيا الترابي الساخن والبعيد.. بلا حلم.. نزعت في بيتها الكالح عند ضفة النهر كل المهابة الاولى واطمئنان الاسرة المتالفة وهيبة الفارس المهيمن على حياتها ودروبها العشبي واغاءة الصبية الهائمة حنان واتجهت الى دار (الملا) والدها التقى لتزيد من عدد من بناتها الكثر وابنائه وابنائهن الاكثر وقد نسى الجد اسماء اكثرهم.. انزوت ملفعة بالسواد تلتوي (حنان) فوق ركبتيها صامتة لا تدري ماذا تفعل؟ بعد غياب السطوة الحبيبة وحومة الابوة الحانية. زارهم (الفارس) الجديد صديق الراحل ومساعده وهو يمتطي ذات المهر الاحمر.
– ام حنان.. كلنا للموت.. توكلي على الرب وساعدي (الملا) بالعمل الموسمي في بساتين الاسياد في النهايات القصية للمزارع وغابات الماء، بدأت تفتح باب الغبش اليومي مع حنان التي لم يزل بقطر ماء النوم من اهدابها المسدلة ويبلل الندى ثوبها الاسود وضفيرتها المبعثرة.. وفي المساء تعود واهنة بعد ان تسلم وكيل السيد كمية التمر التي جمعتها مع ابنتها وتستلم الاجرة النقدية الشحيحة وتدرج من ثم في السكة الترابية الهابطة الى قلب المدينة المدور وعند الانحناء القصبي الاخير قبل ان تقابل دار والدها تقترب من الشريعة المفتوحة على ضفة النهر وترتمي هي والفتاة ويغتسلن من التراب والتعب بما يشبه اللعب الثنائي الحزين ومحاورة الماء.. والذات وجيران الحياة المجهولة وبعد الساعة اليومية هذه تسحب ابنتها من الجرف النهري القريب وتقطف اقدامها الغارقة بالماء من ليونة الطين والرمل السائب وتكمل ترتيب قامتها البضة ويذهبن الى نهايات الطريق.
في يوم ما اكملت المسير الواهن وانحرفتا حيث الشريعة المألوفة واللعب الأمومي اللذيذ مع (الحنان) وماؤها الصافي انغمرت الصبية بالمرح ونست الميدان المائي وعبث الأسماك البعيدة ولمعان الصدف السري واتسعت مسافتها الى الداخل. صاحت الام:
– حنان.. لاتروحين بعيد.. تمسكي زين بعشب الجرف.
وفي لحظة استرخاء متعبة ذهب كفها الصغير بقبضة رخوة من العشب النابت بين الماء والرمل.. ومن عمق النهر الجارف وبرعب لاتمتلكه الصبايا الا مرة واحدة صاحت:
-ـ يما.. آ.. آ.. آ.. ه
كان لصوتها المخنوق صدى ينحر وجه الماء الراكض ويلتمع في الضوء المحمر لشمس الغروب قذفت الام بجسدها خلف ابنتها بلا وعي امسكت بها وانحدرتا سوية صوب العتمة وفي لحظة هي الاقرب الى جرف الموت احست ان ابنتها جسد اخر لايمت لها بصلة.. جسد على وشك ان يغلق ويغرق معه كل شيء رفست الجسد المرتجف بقدمها بقوة جنونية واندفعت صوب الارض.. هزت على الرمل ولم تسمع سوى الصرخة الاخيرة للجسد المأخوذ..
– يما.. آ.. آ.. آ..
وفي لحظة الانخذال العدائية الهائمة بكت الام ولطمت وجهها الخائب وخارت كالفرس الجريحة عندما بدأ الاسف المر ينهض كالنار العالية في كيانها الامومي المنهار.. كرهت ذاتها.. كرهت.. كرهت.. اخذت الكراهية والغثيان يغزوها.. وهي في الاشداه الجنوني.. والرعب. ظلت لثلاثة ايام (تذرع الضفاف وهي نائحة.. وفي فجر اليوم الرابع انبثق عند المنحنى الاخير للنهر جسد الابنة الغارقة.. سحبوها للارض لينة وسط هياج النسوة والاطفال.. وعذاب الام.. وعندما اخذت النسوة يطوين جسدها بالالبسة صاحت واحدة منهن:
-ياللعجب.. ماهذه القدم المطبوعة على اضلاع حنان وقد نما العشب عليها..