حكمة النص: مشاهد في اقتفاء معطيات النص الشعري (نخبة من الكتاب)
اعداد وتقديم ومشاركة: نزار السلامي (17)

فلسفة العشق في قصائد هشام القيسي

نزار السلامي

هشام القيسي ، شاعر مجدد ، يملك موهبة كبيرة ، وحرفية عالية ، ويمتاز بأفكاره الراقية ، ومفاهيمه المعبرة وكتابته المعمقة للنص . هام في الشعر منذ أكثر من ثلاثة عقود ، وخاض ببحره الخضم ، فظفر بجواهره ودرره
وأدرك ان إحتراق روحه مع كل قصيدة هو ثمن المنجز من أجل ابداع متألق ، وتجدد دائم .
بارع في صياغة جمله الآتية من مجاهل قل نظيرها في عالم الشعر ، ضمن منظومة هندسية ، تمتلك طاقة للأستمرار بنقل المشاعر ، ما بين الوجود واللاوجود عبر فائض من السحاب اللغوي والتخيلي الذي يصبه في
الاتجاه الذي يريده ، حيث يلتقط الضوء والقمر والنهر والشجر والزهور اليانعة والمياه المتدفقة ، ويختطف
سحر الطبيعة ، ونجوى المحبين ، بعفوية مطلقة من خلال ترشحات رؤى مدروسة .
وقد أدرك القيسي ، ان العشق هو حياة ومشاعر ونعمة ولعنة ونقمة وانه في اللغة له معنى واحد ، لكنه في
قاموس مخيلته زاخر بالمعاني، معان تتحدد وتختلف من هوى لآخر، فهناك من يعشق بعظمة وآخر بشهوة ،
وغيرهما بتطرف وعنف وجهل وقلة خبرة ، والبعض بشهامة وانتماء ، ولاتوجد كلمة تعددت معانيها وتناقضت
وتنوعت لدى قواميس البشر كما العشق ، ولا توجد حالة وجدانية تغيرت وتلونت عبر الأزمان والعصور كما العشق ، وقد فهم القيسي كل هذا فهماً عميقاً وبتدبر ، وانكب على تفكيك وتحليل وتصنيف مفهوم العشق ، وحدد موقعه ما بين الحقيقة والوهم ، وكيف يمكن أن يكون العشق مجرد رغبة أو كذبة ، أو يكون أكثر عمقاً وصدقاً  وعنفواناً أو حلماً يطارد الأنسان مدى العمر ، لا سيما عند توفر سلامة الفطرة ، ونقاء القلب ، وكيف وفي سبب العشق يكتب الشعراء ويبدع الفنانون ، ويضيع العمر . والعشق في قصائده ، انعكاس للفيض الأنساني المنبثق من حسه المرهف ، الذي يكشف فيه ، عن مجاهدة عاطفية مع النفس والآخرين ، من اجل مثل وجدانية ، تبدو غريبة في هذا العالم ، عبر تعبير آسر ، وتجسيد لما ينبثق من أعماقه ، من خلال اسلوب ميال الى الأستغراق في الوصف والغوص في العمق ، والوصول الى قاع الشيء . فالعشق هو تجربة من تجارب المخيلة ، وتفكير العقل الأنعكاسي ، نتيجة وعي الشاعر واحساسه العالي
وقد عمل القيسي على توظيفه بشكل فلسفي ،لأدراكه ان الفلسفة يجب تحكم مسيرة من يريد أن يمسك بجمرة العاطفة في الشعر ، على وفق كلمات تعبر عن أسى الروح ، وعن بكاء داخلي ، ونشيج مكتوم . ففي قصيدته ( بصدى القلب وبهذا الركام ) نجد ان نصوصها ، تختزن من قناديل الأمل ومن دفقات نابضة بعشق يمزق الظلمة ، يمزق ستر الخوف ، وتتسلق قمم الضمائر لتوقظ أحاسيس الصدور ، من غفلة الصدور ، كي تثير فينا
دهشة الاصغاء واستعادة الصورة :
( ايها الضوء ، الموجود ،
ابحث في الوقت عن قلب ،
وأبحث في القلب عن وقت ،
من منكم يعلم
ان العشق
يلامس بقية الأيام ؟
ومن فيض قصصه الراهنة
يمضي ملهماً ،
تورداً ،
يشدو
ما تبقى في نشيد الاحتراق
سأقول لكم
انني أتكلم
وعلى كل باب أنهمر
صرخة تعود الى
فصل عاشق بانبهار
وفي صبح من وراء الجدار
يقوم الزمن لتهتف الأزهار
وتتعرى أمام المرآة الحكايات
كي تحضر الطفولة
وتتنزه الأقدار ) توهجات مترامية الأطراف ص 4-5

ويغرق الشاعر بالحلم حد الثمالة ، ويلجأ الى الحبكات ، لسحب مدلولاتها الى رصيد دلالة النص ، لتكون القصيدة مصهراً لذلك كله ، عبر صراخ يجعل من ساحة القلب ملعباً لتأوهات وزفرات ووخزات مؤلمة .
( كنت غيرك في العشق
مشدوداً الى حلم طويل
يفيض في المشهد التالي
لماذا في زمان كل شيء
يتناسل الرعب دون معنى ؟
ها هي بوابات اليقين
في طريقها الى الأشياء
تغادر الجحيم ،
ممعنة في ريح
على حافة الحرية
تبادل الأنخاب )
كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا ص15-16
و

( كم تمنيت شمعة
لا توقد بالدمع
عند أول النهار
كم تمنيت عاشقا
لا يقيم في أرق الانتظار
ولا يستدير في روحه
ليجمع أشواك الاسفار )
بعد منتصف الحريق ص 37- 38

انه نص استهلالي جاء وكأنه خلاصة لكل ما في القصيدة ، ليلفت النظر ويثير الاهتمام كدلالة على ما تظمنته من أبعاد.
وتستمر قصائد العشق بتدفقاتها ، لتجعلنا نفتح اذهاننا وكامل جوارحنا على سحر مركب جميل ، يقودنا الى ضفة تظهر تدريجيا حين ينتهي موج الكلمات ، ولنجد أنفسنا غارقين في حيرة وسؤال ، عبر لغة خالية من الخطابة لا يثقلها الادعاء ، أو الاستعراضية ، يمتزج فيها النص اللاهث والمحموم بالرؤية الطالعة من شقوق المخيلة :

( تراكمت على امتداد الدورة الحائرة
ملامح نديم يندب المنافي الغريبة
توهما في احتمالين
ويقرأ البدء ما بين عشق يتنفس
وسهر يسعى لهمس خلف ظلال الشجر
وفي كل فصول السنة
يغدو رغبة تنبئني بألم هذا القلب
أهكذا تشتكي صفحات القطر
لترخي بقية العمر
كأنني أعدو خلف الأيام المخمورة
لأبدو بقية تختبر العشق
وحرفته )
توهجات مترامية الأطراف ص 35

ويقود اللغة عبر انزياحات مفاجئة تغير خط سير المعنى لصالح الدلالة المتسعة بوجع الحنين ، لتشكل ترجمة
صادقة لمشاعر ذاتية ، فاض بها وجدان الشاعر تجاه نفسه والآخرين :

( لا شيء أرى غير تورد الكلمات
وفي كل مكان تنساب جداول الروح
والنهارات
هكذا أصوغ المشاهد
وأفتح حكمة العشاق
ولظى الطرقات
وهذا ندائي
من يدرك ان العشق
ينتحب بلا قطرات ) .
كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا ص56
ونجد المناجاة ، والمناغاة والانشداد بروحانية الكلمة ، التي يصوغها بكل حرفية ، بعد أن ساقه قدره وحتم عليه أن يعيش تجربة حب بكل مدياتها ومحنها ، بعد أن تعسر عليه الوصول الى من يحب ، حيث يبدو وهو مشبع بالحنين ، والتذكر والحزن والاحساس بالفقدان على فراق المكان والحبيبة :

( لحزني ملامح مطرزة بالألم
تطاوعني
تتأمل في منتصف الليل
بعض ابتهال الحوار
وتتطلع للشمس
حيث يهبط النهار
ولحزني وصية تضم سيدة الشوق
والأسرار
حتى زقاق البيت
من نافذة الماضي
يصطفي الندم
يسألني كلما مررت بالدار
قل لي كيف أختار
وقد استلقت امرأة العشق
خلف الأسوار )
كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا ص 72

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *