-5-
خيوط المؤامرة
ذكرنا سابقا أن العرب الكنعانيين هم السكان الأصليون للقدس وفلسطين عموما وقد استوطنوا المنطقة حوالي 7 آلاف سنة قبل الميلاد، وهذا ما أثبته الحفريات في مدنهم القديمة، ومن بينها مدينة أريحا التي تعتبر أقدم مدينة في العالم، وفي مرحلة تالية هاجر العبرانيون إلى أرض فلسطين قادمين من العراق ودخلوا في صراع مستعر مع الكنعانين، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مصر في عهد سيدنا يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام، إلى أن أخرجهم منها موسى عليه السلام، فعادوا إلى فلسطين، وهناك دخلوا في حروب وصراعات مع كل الشعوب المستوطنة للمنطقة، وقد عرفوا بعدوانيتهم وطباعهم الميالة إلى الدسائس والمكر، فكان من الطبيعي أن يتم إجلائهم عن أرض القدس وفلسطين من طرف الآشوريين والبابلبين والرومان، فعاشوا تجربة الشتات، يقول إسرائيل أبرهامز أستاذ الأدب العبري بجامعة كمبردج: “إن فلسطين لم تكن وطنا لليهود فقد هاجروا إليها من العراق وعاشوا فيها كغرباء ثم تشتتوا في كل المدن الهلينية”، بل في كل بقاع العالم وذلك على امتداد العصور الوسطى، إذ عاشوا في شكل جماعات منعزلة تمتهن التجارة والصياغة، وفي سنة 1492م أصابتهم لعنة الإجلاء فطردهم الإسبان فيمموا وجههم شطر المغرب وتركيا، ثم ما لبث أن دخل بعضهم لفلسطين سنة 1517م. وإبان العهد العثماني أحدثوا القلاقل والمشاغبات فنكل بهم السلطان مراد الثالث (1574م -1595م)
أما في أوكرانيا فتعرضوا سنة 1648م لمذبحة رهيبة من طرف القوزاقي شميلنسكي، فهربت أعداد كبيرة منهم إلى القدس، وسمح لهم بالسكنى في الحي الواقع قرب السور الجنوبي والمسمى ب “حي اليهود” حيث شيدوا مجمعا يهوديا (كنيس) سموه: “بيت يعقوب”.
تزايدت هجرات اليهود في اتجاه القدس خاصة وفلسطين عامة، وبالأخص بعد الاضطهاد الممارس عليهم في روسيا وبولونيا في حوالي سنة 1881م، لكن وإلى حدود ذلك التاريخ لم يتبلور لديهم كيان أو وجود سياسي بسبب كونهم أقلية غير مؤثرة بحسب أغلب المؤرخين، أما عن تملكهم للأرض الزراعية فلم يتم إلا في أوائل القرن 19، لكن هذا لم يمنع من أن اليهود الصهاينة كانوا يحبكون مؤامرتهم الدنيئة على نار هادئة، وهو ما تأكد من خلال المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد بمدينة بال السويسرية سنة 1897م من طرف اليهودي المجري ثيودور هرتزل، حيث تم وضع اللبنة الأولى لأول حركة سياسية يهودية والموسومة ب “الصهيونية”، والتي حملت على عاتقها مهمة إنشاء وطن لليهود المشتتين في بقاع العالم، ينتظم في إطار دولة يهودية مشادة على أسس دينية وعنصرية، تكون عاصمتها القدس وتجعل من أهم أولوياتها: طرد العرب من فلسطين وإعادة مجد اليهود من خلال إعادة بناء هيكل سليمان.
توالت فصول المؤامرة من خلال إصدار وعد “بلفور” (وزير خارجية بريطانيا) والصادر بتاريخ 1917م خلال الحرب العالمية الأولى، إذ أعلنت من خلاله بريطانيا دعمها لتأسيس “وطن قومي” للشعب اليهودي في فلسطين، والذي لم يكن يمثل آنذاك سوى 5% تقريبا من إجمالي السكان، ثم أعقب ذلك احتلال فلسطين في نفس السنة ووقوعها تحت الانتداب البريطاني (1917م – 1948م) واحتلت القدس من طرف الحلفاء في 9 دجنبر 1917م، ومن ثمة عملت بريطانيا على تحقيق وعدها لليهود من خلال إرساء إدارة عسكرية ترمي إلى تقديم الدعم الكافي للصهاينة لبلوغ أهدافهم ومراميهم المتمثلة في إقامة وطن قومي في فلسطين، فعقدت اللجنة الصهيونية مؤتمرها الأول برئاسة “حاييم وايزمن” في مدينة يافا، وتم إقرار حق اليهود في تقرير شؤونهم واتخاذ “نجمة داود” شعارا للعلم اليهودي وتبني تسمية إسرائيل بدل فلسطين. ولم يبق الفلسطينيون مكتوفي الأيدي إزاء هذه المناورات، بل أنشئوا جمعيات مناهضة النفوذ اليهودي والحيلولة دون شراء اليهود للأراضي الفلسطينية، ناهيك عن تنظيم المسيرات والتظاهرات المنددة بالسياسة الاستعمارية المتواطئة مع الصهيونية.
وفي سنة 1920م أقامت بريطانيا في فلسطين إدارة مدينة بدل العسكرية فتمت تسمية “هربرت صموئيل” كأول “مندوب سام” يحكم فلسطين، وهو في الأصل يهودي إنجليزي يسعى إلى ترجمة أهداف الصهيونية على أرض الواقع، إذ حظر حمل السلاح على السكان العرب في القدس، وفي المقابل سلّح المستعمرات اليهودية وأنشأ لهم مراكز للتدريب العسكري، كما جعل اللغة العبرية والعربية والإنجليزية من اللغات الرسمية، وعلاوة على ذلك شجع اليهود على الهجرة إلى المدينة وسهل لهم مسألة شراء الأراضي، وتوجت مجهوداته بأن أقرت بريطانيا في دستورها لعام 1922م أن فلسطين وطن قومي لليهود. ومن مستتبعات ذلك تقسيم القدس إلى أربعة مناطق.
1- البلدة القديمة. 2-المنطقة المحيطة بالمدينة القديمة.3-القدس العربية.4-القدس الغربية اليهودية.
تمادت سلطات الانتداب البريطاني في تشجيع وتسهيل هجرة اليهود إلى أرض فلسطين، وشكل ظهور النازية بألمانيا في الثلاثينات (1933) وتنكيل هتلر بهم دافعا آخر لهجرتهم من كل دول أوروبا، ووازى ذلك نشاط الحركة الصهيونية التي استطاعت لوبياتها التغلغل في عصب الاقتصاد الأوربي والأمريكي وكذا السيطرة على الآلة الإعلامية العالمية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تم تجنيد العصابات اليهودية الصهيونية لإرهاب العرب الفلسطينيين وأشهرها عصابات الهاجاناه والبالماخ وأرجون وشيترن،والتي نفذت مجازر في حق الفلسطينيين.
لقد كان الشعب الفلسطيني حازما في معارضة سياسة الانتداب البريطاني المتواطئ مع الحركة الصهيونية، فانتظم في ثورات مسلحة، أبرزها ثورة 1920م، 1933م وثورة 1936م- 1939م وعلى إثر هذا المد الثوري الفلسطيني، حاولت سلطات الانتداب البريطاني طرح فكرة تقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية وجعل القدس منطقية دولية لقدسيتها. لكن هذه الفكرة/ المقترحة لاقت رفضا ومقاومة من لدن الفلسطينيين ومن طرف الدول العربية على مستوى منظمة الأمم المتحدة. وفي سنة 1947م نجحت بريطانيا في حشد الدعم لليهود من خلال استغلال واقع التشرد والاضطهاد الذي كانوا يعانون منه في دول أوروبا، وبالتالي ضرورة فرض إيجاد وطن لهم بفلسطين، وعلى هذا الأساس تم تمرير توصية بالتقسيم المذكور وذلك على مستوى اللجنة السياسية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي التوصية التي قابلها العرب والفلسطينيون بالرفض مرة أخرى.
وفي خضم هذه التطورات، تابعت بريطانيا جهودها المتنامية لتهويد القدس ومارست المنظمات الإرهابية اليهودية التقتيل والتشريد والتهجير في حق الفلسطينيين عبر المجازر التي نفذتها، ومنها مجزرة قرية دير ياسين التي راح ضحيتها 250 فلسطينيا. وبتاريخ 14 ماي 1948م تم الإعلان عن الانسحاب النهائي لبريطانيا من فلسطين، ليعلن في الآن ذاته اليهود عن قيام دولة إسرائيل، فدخل العرب الحرب إلى جانب الفلسطينيين، وهي الحرب التي انتهت بسقوط القدس الغربية و 5/4 من فلسطين تحت نير الاحتلال الإسرائيلي،في حين بقيت القدس العربية تحت سيطرة الأردن.
مع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، أصبحت مسألة تدويل القدس وقعا لا مناص منه، واضطرت الدول العربية إلى القبول به في أعقاب القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 دجنبر 1948م، والذي نص كذلك على حماية الأماكن المقدسة بالمدينة وعدم تقسيمها، وفي 11 دجنبر 1949م أعلنت إسرائيل نقل عاصمتها إلى القدس،وفرضت سلطتها على الجزء الخاضع لها، وأدى “حاييم وايزمن” اليمين القانونية كأول رئيس لدولة إسرائيل، وأعقب ذلك نقل العديد من الوزارات الإسرائيلية إلى القدس، كما تم تبني العديد من الإجراءات السياسية والإدارية الهادفة إلى تكريس ودعم وضع القدس كعاصمة لإسرائيل، وفي هذا الاتجاه عمل اليهود على تعمير الجزء الغربي من المدينة وزيادة عدد السكان فيه لاستيعاب سيل الهجرات التي تلت الحرب، وهكذا وصل عدد المستوطنين اليهود 197 ألف نسمة سنة 1967م، وفي ظل هذا النمو الديمغرافي في القدس الغربية ” اليهودية ” اتسع العمران فيها وتم الإجهاز على العديد من القرى والأراضي العربية، لكن هذه الإستراتيجية الإسرائيلية لم تلق الترحيب من غالبية دول العالم التي لم تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإضافة إلى هذا المعطى فشلت إسرائيل في جعل المدينة مركزا إداريا لأسباب تتعلق بوضعية المدينة الروحية وبموقعها الجغرافي، ولذلك أبقت على أهم الوزارات في تل أبيب وأنشأت مكاتب رمزية لها في القدس.
وفي عام النكبة وبعد هزيمة العرب في حرب يونيو 1967م، وضعت إسرائيل يدها على القدس الشرقية وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان السورية وفرضت الحكم العسكري على الضفة الغربية، وبالموازاة مع ذلك أقدم الإسرائيليون على هدم حي المغاربة المحاذي لحائط البراق بهدف تهجير السكان الفلسطينيين من القدس بغية السيطرة عليها كليا. ولتحقيق هذا الهدف تم هدم القرى المحيطية بالمدينة وطرد سكانها الأصليين، وفي مرحلة تالية أقدمت سلطات الاحتلال على دمج شطري القدس في تحد سافر للقانون الدولي، ومنذ سنة 1967 وإلى حدود اليوم لا زالت إسرائيل تسعى جاهدة لتهويد مدينة القدس بالكامل من خلال تفعيل وتكييف إجراءات الضم القانوني لها. وفي سنة 1980 تم إقرار ” قانون أساسي” ينص على أن القدس عاصمة لإسرائيل، ولمواجهة الإشكالات القانونية التي تطرحها علاقة المقدسيين بالقانون الإسرائيلي، لم ‘يعترف لسكان القدس العرب بصفة المواطنة على الرغم من كونهم من سكان إسرائيل،ولم يمنحوا الجنسية فضلا عن منعهم من المشاركة في الانتخابات العامة، وبدل ذلك سمحت لهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالمشاركة في الانتخابات البلدية لمدينة القدس فقط ، وهي الانتخابات التي قاطعها الفلسطينيون دوما.
لقد أبان الشعب الفلسطيني عامة، وسكان القدس خاصة عن بطولة واستبسال عظيمين في مواجهة كل المناورات الإسرائيلية بما فيها إجراءات ضم القدس، وعبروا عن ذلك من خلال رفضهم الانضمام إلى مجلس المدينة في صيغته الإسرائيلية،وتشكيلهم لهيئة إسلامية تتولى رعاية الشؤون الدينية في الضفة الغربية بما فيها القدس، بل إن الأمر تطور إلى تبني خيار الكفاح المسلح والمقاومة، وهو ما تصدت له إسرائيل من خلال سياستها العسكرية العدوانية القائمة على الترهيب والتصفية الجسدية لرموز المقاومة ونسف المنازل وتوسيع الوحدات الاستيطانية والاعتقال الجماعي، وما إلى ذلك من الممارسات الهمجية والوحشية، دون أن ننسى تدنيسها واستباحتها للأماكن الإسلامية المقدسة، نظير إحراقها للمسجد الأقصى سنة 1969م، وحفرها في أساسات هذا المسجد بحثا عن هيكل سليمان وما ترتب عن ذلك من هدم للمنطقة الواقعة قبالة حائط المبكى وإجلاء سكانها العرب بعد نسف منازلهم، إضافة إلى هدم العديد من المساجد الإسلامية ك : جامع الزاوية والجامع المتاخم لجنوب حائط المبكى وكذا أجزاء من كنيسة القديس يوحنا، دون الحديث عن نهب وسرقة التحف الأثرية… إلخ.
-6-
للمكان قدسيّته:
ليست هناك مدينة تستقي قدسيتها من اسمها غير القدس، فهي اسم على مسمى، مثلما ليست هناك مدينة أسبلت عليها الأديان الثلاثة من القداسة والتكريم مثل القدس، ولا أدل على ذلك من أنها تضم بحسب بعض الإحصائيات الحديثة: 73 مسجدا و158 كنيسة و1204 كنيسا.
لا شك أن الأهمية الدينية والروحانية لمدينة القدس هو ما يمنحها تلك القداسة التي تضاهي قداسة مكة والمدنية عند المسلمين، أما عند اليهود فالمدينة تستمد قداستها من قيمة الأنبياء الذين مرّوا بها، ذلك أن المخطوطات العبرانية تفيد أن النبي والملك داود عليه السلام فتح القدس وجعلها عاصمة لمملكة إسرائيل الموحدة ، وقد دام حكمه 40 سنة ليخلفه بعد ذلك ابنه النبي والملك سليمان عليه السلام، والذي بنى الهيكل الذي يسميه اليهود ب”هيكل سليمان”، ويكتسي هذا الهيكل عند اليهود أهمية وقداسة ما بعدها قداسة، فهم يعتقدون إعتقادا راسخا أنه المكان الذي يثوي فيه تابوت العهد، وبناء على هذا المعتقد فهم لا ينفكون عن الحفر في أساسات المسجد الأقصى بحثا عن هذا الهيكل، وقد ورد في التوراة أن اليهود شادوا هيكلا آخرا يدعى هيكل حيرود بعد أن تم تدمير هيكل سليمان، وتم ذكره في الكتاب المقدس 632 مرة.
ومن الأماكن المقدسة كذلك عند اليهود نجد حائط المبكى ويعرف أيضا باسم حائط البراق، وهو ثاني أقدس الأماكن اليهودية بعد قدس الأقداس، ويقع هذا الحائط غرب الحرم القدسي الشريف، وهو آخر ما تبقى من السور القديم الذي كان يحيط بمعبد حيرود وفق المعتقد اليهودي. ويرجع تاريخ الصلاة والتعبد بجواره إلى القرن الرابع، ولا زال اليهود يزاولون عبادتهم عند هذا الحائط إلى حد اليوم، ويحرصون على أن تُبنى جميع كنسهم في العالم بشرط أن تكون محاربيها في اتجاه القدس، على أن تكون محاريب كنس القدس في اتجاه قدس الأقداس، أما صلواتهم فهي بحسب الشريعة اليهودية يجب أن تتلى في اتجاه القدس وهيكل حيرود. وللتدليل على مكانة القدس عند اليهود يكفي أن نذكر أنها وردت في التناخ: 669مرة، أما اسم صهيون المرادف عند اليهود للمدينة ولفلسطين ككل فذكر 154 مرة. وفي سبيل إكساب القدس دورا دينيا ونوعا من القداسة، عمد اليهود إلى بناء كنيس القدس الكبير، وهو أكبر الكنس بالمدينة حاليا، وقد تم التخطيط لبنائه سنة 1923م إبان الانتداب البريطاني ليُستكمل سنة 1958م بمساعدة الأثرياء اليهود.
لا يقل إجلال المسيحيين للقدس عن إجلال اليهود لها، وها هنا يلعب التاريخ والدين كذلك دورا أساسيا في هذا التقديس، فمن جهة ورد ذكر القدس عند المسيحيين في العهد القديم، ومن جهة أخرى وسمت هذه المدينة حياة المسيح عيسى عليه السلام بميسم خاص، فبحسب العهد الجديد تم استقدام المسيح إلى القدس بعد ولادته ببيت لحم بوقت قصير، كما يعتقد المسيحيون أنه تم صلبه بالتلة المعروفة باسم جلجثة، وهي من المواقع المسيحية المقدسة بالمدينة، إضافة إلى التلة التي تقع على جبل صهيون حيث يقع ضريح الملك داود، والتي يعتقد أن المسيح وحوارييه تناولوا فيها العشاء الأخير.
ومن أهم المعالم المسيحية المقدسة التي تحتضنها القدس نذكر كنيسة القيامة، التي يؤمن المسيحيون أنها شيدت على تلة الجلجثة حيث صلب المسيح يسوع عليه السلام، كما أنها – بحسب معتقدهم- تضم مدفنه والمكان الذي قام فيه من الموت، ونظرا لقدسيتها شكلت مزار للحجاج المسيحيين حول العالم منذ القرن الرابع وإلى يومنا هذا، وهي إضافة إلى ذلك تأوي مقر بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية، وتحتضن ثلاثة طوائف: الرومان الكاثوليك، الروم الارثوذوكس والأرمن الأرثوذوكس، وقد نشبت بين هذه الطوائف احتكاكات وصراعات حول مسألة الاحتفاظ بمفاتيح الكنيسة إلا أنه في عهد صلاح الدين تم تسليم المفاتيح إلى عائلة مسلمة درءا للمشاكل بين تلك الطوائف، وهو الحل الذي يشاع أنه ما زال معمولا به إلى حد الآن.
ومن أهم المعالم المسيحية المقدسة الموجودة في القدس نذكر ضريح السيدة مريم الذي تؤمن معظم الكنائس الشرقية أنه مكان دفن مريم العذراء أم المسيح عليه السلام، وكاتدرائية القديس جرجس، وباب الأسباط وهو إحدى بوابات المدينة القديمة و يمثل بداية طريق الآلام التي سار عليها المسيح حتى صلب وفق ما يعتقده المسيحيون، وهي محجهم إلى يومنا هذا حيث يتعقبون خطى نبيهم عيسى عليه السلام .
كثيرة هي الأديرة والكنائس المسيحية المنتشرة في مدينة القدس والتي تحكى كل واحدة منها تاريخا وقصصا مرتبطا بالأساس بالمسيح ومريم الباتول وغيرهم من القديسين المسيحيين، وهي في غالبها الأعم تعرضت لعوادي الزمن وللهدم من طرف الغراة، ثم أعيد بناؤها وترميمها على مدار تاريخ القدس، ولا زالت تشد إليها أعدادا من الحجيج المسيحيين من مختلف بقاع العالم.
تكتسي مدينة القدس عند المسلمين أهمية قصوى، وتتبوأ منزلة رفيعة كإحدى المدن المقدسة المباركة، ذلك أن القرآن الكريم احتفى بها احتفاء كبيرا، إذ يقول عز وجل:
” سبحان الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” [سورة الإسراء، الآية: 1].
فالبركة هنا ميزة للمسجدين: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهي تعم ما حولهما، وبناء عليه فإن أهمية ومكانة المسجد الأقصى تكاد تضارع أهمية ومكانة المسجد الحرام، وهو ما يفسر تقديس المسلمين للمدينة ككل، فالمراد بالمسجد الأقصى ” هو بيت المقدس الذي هو إيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جمعوا له ( المقصود الرسول ص) هنالك كلهم، فأمهم في محلتهم، ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين”. (تفسير ابن كثير).
إن القدس كحيز مكاني كانت شاهدة على أحد أعظم المعجزات المحمدية، إنها معجزة الإسراء والمعراج التي جاءت لتنير العقل البشري، إذ أسرى الله تعالى بالرسول محمد (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث عرج به من الصخرة المقدسة إلى السموات العلى، وهناك التقى جميع الأنبياء والرسل الذين سبقوه، وأثناء ذلك فرض الله على المسلمين الصلوات الخمس وبيّن للرسول (ص) كيفية أدائها.
يذهب أغلب المفسرين إلى أن المقصود بالمسجد الأقصى في سورة الإسراء، إنما هو بيت المقدس أو القدس، وتسمية الأقصى جاءت للدلالة على بعد المسافة بين المسجدين. ويرجع تقديس المسلمين لمدينة القدس كذلك إلى كونها كانت مهاد العديد من الأنبياء والقدسيين والصلحاء نظير النبي داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وبالتالي فقد كانت فضاء لتنزلات الوحي ومهبطا للملائكة، عدا عن أنها ستكون شاهدة على حشر الناس يوم القيامة.
وفضلا عن هذا وذاك كانت القدس أول قبلة للمسلمين لمدة ناهزت السنة قال تعالى:” قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ” [البقرة آية:144]، جاء في صحيح البخاري (399) ومسلم (525) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:” كان رسول (ص) صلّى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله (ص) يحب أن يوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله:” قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ” فتوجه نحو الكعبة. أما المسجد الأقصى والمسمى ببيت المقدس، وإيلياء، فهو ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، فقد روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله (ص) عن أول مسجد وضع على الأرض قال: “المسجد الحرام” قلت: ثم أي؟ قال: “المسجد الأقصى” قلت: كم بينهما؟ قال:” أربعون عاما، ثم الأرض لك مسجد، فحيث أدركتك الصلاة فصل”.
إن رحلة الإسراء والمعراج هي في الأساس من بين الأسباب الهامة الداعية إلى تقديس المسجد الأقصى، تلك البقعة الطاهرة التي انتهى إليها فعل الإسراء، ومنها بدأت رحلة المعراج التي انتهت بالمصطفى عليه السلام إلى سدرة المنتهى، إذن فنقطة الوصل بين الرحلتين تشكل معلما مقدسا، فهو جزء من الحرم القدسي ، سمي ب” البراق الشريف” وقد ورد ذكره في الحديث الشريف، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أنس عن الرسول (ص) أنه قال: ” أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم عرج بي إلى السماء” (رواه الإمام مسلم). ولعل ما يلفت الانتباه أن الأراضي المجاورة للمسجد الأقصى تدخل في حيز الوقف الإسلامي العام منذ عهد الأفضل بين صلاح الدين الذي أوقف على المغاربة الحي المعروف بحي المغاربة، وذلك سنة 583هـ، كما بنى لهم مدرسة تسمّت باسمه وهي مدرسة الأفضلية.
وفضلا عن المسجد الأقصى المبارك وحائط البراق تحتضن القدس معلما مقدسا آخر وهو مسجد قبة الصخرة، الذي يذهب المؤرخون إلى أن عبد الملك بن مروان وفر مالا كثيرا لبنائه، فتم له ذلك سنة 691هـ وطلي قبة هذا المسجد وأبوابه الأربعة بالذهب، أما هندسته المعمارية فجمعت بين الطراز العربي والفارسي والبيزنطي، وفي هذا الصدد يعزو بعض المؤرخين حرص الأمويين على تشييد هذا المسجد بتلك المواصفات إلى رغبتهم في تحويل أنظار المسلمين والحجاج إلى القدس بدلا عن مكة المكرمة والمدينة المنورة الخاضعتين آنذاك لحكم معارضهم عبد الله بن الزبير، وهذا ما يفسر دعوة عبد الملك بن مروان الناس إلى تنظيم مواكب دينية حول القبة نظير الطواف بالكعبة أثناء الحج. أما المسجد الأقصى الواقع جنوب مسجد قبة الصخرة فقد بدأ عبد الملك بنائه سنة 693م/37هـ وتم الانتهاء منه في عهد ابنه الوليد سنة 706م/96هـ، ويستنتج من بعض تفاسير الأئمة لحديث رسول الله (ص) الذي سبق إيراده أن هذا المسجد بناه أول مرة سيدنا إبراهيم الخليل بعد أربعين عاما من بنائه الكعبة.
لقد أسهبت كتب الحديث والمرويات في ذكر محاسن وفضائل القدس عامة والمسجد الأقصى خاصة، ومن أشهر الأحاديث النبوية التي يستشهد بها في هذا الباب، قوله (ص) :«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» (رواه البخاري ومسلم)، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ص) أنه قال: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا: حكما يصادف بحكمة، ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد الصلاة فيه، إلا خرج من ذنوبه ليوم ولدته أمه (…) أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة». أما فضل الصلاة في المسجد الأقصى فيثبته حديث الرسول (ص) الذي روته مولاته ميمونة إذ قالت: «يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس قال:”أرض المحضر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قالت:أرأيت إن لم أستطع أن أحمل إليه قال: فتهدي له زيتا يسرج فيه، فمن فعل ذلك كمن أتاه» (رواه أحمد وأبو داود).
وعلى نفس المنوال حظيت القدس بمكانة أثيرة لدى الرسول (ص)، بما أنها أرض الأنبياء ومكان الحشر والنشر ومسرج الرباط والجهاد ومهبط الأنبياء والقديسين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه قال: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون في دمشق وما حوله وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة» (رواه أبو يعلى).
إذا كانت قدسية القدس ليست محل نقاش لدى معتنقي الديانات السماوية الثلاث على مدار الأزمان والعصور (اليهودية، المسيحية والإسلام)، فإن المدينة شكلت منذ بداية القرن الماضي قطب الرحى في الصراع العربي/الإسرائيلي، فالجانب العربي والفلسطيني يعتبر القدس عاصمة لدولة فلسطين المحتلة حسبما نصت عليه وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطينية بتاريخ 15 نونبر 1988م بالجزائر، استنادا إلى الحق التاريخي على اعتبار أن العرب اليبوسيين أول من بنى المدينة وسكنها في الألف الخامس قبل الميلاد، أما الجانب الإسرائيلي فغداة احتلالهم للمدينة سنة 1967م وضمهم للقدس الشرقية ، أعلنوا المدينة ككل عاصمة لدولة إسرائيل سنة 1980 مستندين إلى ما يعتبرونه حقوقا دينية وتاريخية، إذ يزعمون أنها كانت عاصمة لملكهم لما يزيد عن 3000 سنة، ومند ذلك الوقت تعمل إسرائيل بكل ما أوتيت من سلطة وقوة ودعم غربي خاصة من لدن الولايات المتحدة الأمريكية، على طمس الهوية العربية والإسلامية للقدس في أفق تهويدها.
وفي مقابل ذلك إلتئمت جهود العرب والفلسطينين في جبهة الدفاع عن القدس بما أنها رمز للهوية العربية والإسلامية، وفي هذا الصدد قدم الفلسطينيون آلاف الشهداء في سبيل مقاومة السياسة الصهيونية لإسرائيل، وعلى المستوى الدبلوماسي تواصلت نضالات العرب في الدفاع عن الحق الفلسطيني في أروقة المحافل الدولية وبخاصة في منظمة الأمم المتحدة، وبالرغم من صدور بعض القرارات الداعمة للفلسطينيين، فإن إسرائيل المعروفة بغطرستها وخرقها للقانون الدولي لم تحترم هذه القرارات.