يوم عطلتي ، هو يوم فرحتي ، لأنه يوم جدتي ..
في يوم عطلتي عن جدتي لا أغيب ، معها أقضي نصف يومي من الصباح والى الزوال ؛ اذا يوما عنها تأخرت ،أجدها تترقبني بالباب الكبيرة لبيتها ، تتوكأ على عكازتها ،و تحرك رأسها يمينا ويسارا، تتلهف على وصولي .. اعانقها ،واطبع قبلة على خدها ، ثم انط الى داخل المنزل العتيق كقطة تلهو ..
ادلف الى المائدة الصغيرة الشهية التي أعدتها جدتي قبل وصولي :
حليب وألبان ،زبد بلدي ،عسل وزيت الزيتون والأركان ، رغائف ، ورقائق خبز محمر،جبن وزيتون اسود، وأخضر مملح بالحامض وقطع الليمون ، بيض مسلوق ، شاي بالنعناع ،تعبق رائحته المنزل ..
قبل ان تلحق بي جدتي الى المائدة ،أكون قد التهمت بيضة مسلوقة وقطعة جبن .وزيتونة سوداء في فمي …
تجلس جدتي بجانبي وهي تقول : تمهلي ، الاكل بسرعة ينفخ بطنك ..
منذ مات جدي ،وجدتي لا تغادر بيتها ،وحين أسالها :
ألا تخافين ياجدتي وحدك ؟:
تضحك وتقول : من له آباء كآبائكم ، وأمهات كأمهاتكم، وأحفاد وحفيدات مثلكم، يحبونه و عنه لا يتغيبون ،ابدا لن يخاف ..
لست وحدي من يداوم على زيارة جدتي ، فلجدتي ثلاث بنات وثلاثة أولاد، كلهم متزوجون ولهم أبناء ، يزورونها حسب موعد مضبوط ،لا يتخلفون عنه ،منهم من يأتي صباحا ،ومنهم من يأتي بعد الزوال ، ومنهم من لا يأتي الا في العطل والاعياد ، فنحن وجدتي حب متبادل ، فهي عندنا خزينة توفيرنا ، وجديد لعبنا ، و صندوقة اسرارنا .. وأكثر من ذلك ، فهي حمايتنا اذا أخطأنا في بيوتنا ..جدتي هي بدلاتنا الجديدة في اعيادنا ، هي هدايانا في أعياد ميلادنا .. بل جدتي هي من علمتنا كيف نتهادى ،نحن احفادها وحفيداتها فيما بيننا ،هي من ربتنا على أن حبها لنا مرهون بحبنا لبعضنا ،ولآبائنا وأمهاتنا ..
حين تمرض جدتي ، فكلنا نتحلق حولها ، لا نفارقها ، من يمسك بيدها ، ومن يدعو لها ، ومن يضع يده على جبهتها يتلو آيات من القرآن ، ومن يبادر لتقديم صندوقة ادويتها ، في صينية نحاسية صفراء ، تعتز بها لأنها هدية جدي اليها مع ستة كؤوس بلورية ومذهبة ، لا تقبل جدتي أن تشرب ماء في غيرها كما توصينا دائما ….
حين تفتح عينيها وتجد أحدنا يبكي ، تغضب وتقول بصوت متقطع :
لماذا البكاء ؟ ، لا تجزعوا عني ، أنا بخير ، اعرف أنكم اشتقتم الى مائدة الصباح ، وشهيوات المساء .. تفرقوا عني .. هاتوا حجرة تيممي ودعوني اصلي أولا ..
نوسع الدائرة عن جدتي ، ونحن سعداء بكلماتها ، نتابعها بعيوننا وهي تصلي ، فجدتي حين تبتسم وتضحك فمعناه أن السعادة قد عادت لحياتنا ، وأن جيوبنا ستمتلئ بكل ما لذ من شوكولاطة ومكسرات لذيذة ..
كثيرا ما كنا نتساءل نحن أحفادها :من أين تجلب جدتي المال الذي تنفقه علينا وعلى نفسها ؟
وحين يسألها أحدنا تقول : منكم واليكم .. الكل من آبائكم وأمهاتكم
ستكبرون ، وتشتغلون ،وتصيرون ملزمين بالبر بأمهاتكم وآبائكم ،
فأبنائي اليوم يبرون بي لتبروا بهم حين يشيخون مثلي ، أليس كذلك يا أولاد؟ كنا نوافق على كلامها فمن بر آباءه بره أبناؤه ..
وكانت عبارتها التي تتكرر كل يوم :
غدا تكبرون يا أحفادي ، وتفهمون ،أن مشاغل آبائكم وأمهاتكم قد أبعدتهم عنكم قليلا ، لكنهم سلموا المهمة لجدتكم ،فأنتم ” الكبدة المعاودة ” كما يقال ، ولا أحد يمكن أن يكون أحن مني عليكم ، أمهاتكم وآباؤكم أغدقوا علي مما وهبهم الله ،وتركوكم في عهدتي ؛أليس أحسن بكثير من أن يضعوني في دار للعجزة ، كما يفعل بعض الناس بآبائهم وأمهاتهم حين يشيخون ؟ فأنتم أنسي وتجديد حركتي ، و نشاط جسمي ، أنتم شبابي الدائم ،اسعد بوجودكم وتسعدون برفقتي ..
محمد الدرقاوي: جدتي
تعليقات الفيسبوك