إشارة:
يسرّ أسرة موقع “الناقد العراقي” أن تقدّم لقرّائها الأعزاء هذا الملف الأسبوعي الثر عن الشاعر العراقي المبدع “سعد جاسم” المجبول إنسانا وشعرا من طين فرات الديوانية السومري العراقي الحرّ.. كائن من شعر وموسيقى حمل هموم وطنه في المنافي وجسّد واكتوى بقيامته عبر الكلمة الملتهبة الصادقة الخلاقة. تدعو أسرة الموقع أحباءها القرّاء والكتّاب إلى إغناء الملف بما يتوفر لديهم من مقالات وصور ووثائق. وعلى عادة الموقع سوف يكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية لأن الإبداع الحقيقي لا يحدّه زمن. تحية للشاعر المبدع “سعد جاسم” .
أسرة موقع الناقد العراقي
الشعر..فن اللغة الحالمة المتسم بالزئبقية الذي ينسجه منتجه(امير الكلام) باعتباره كيميائي العصر بتأليفه وتآلفه بين الالفاظ وتفجيرها من اجل تحقيق بنائه الشعري عبر التجاوز والانزياح عن المألوف بوعيه وقدرته على الخلق والتعبير..
والنص الشعري شهد على مدى الامتدادات التاريخية تحولات فنية تساوقت والتحول الفكري والزمني..ابتداء من عصر النهضة ومرورا بشعر الديوان ومدرسة ابولو والمهجر وانتهاء بشعر التفعيلة الذي خلخل الشكل الايقاعي الفراهيدي فحقق الانفتاح على المستوى الجمالي والفني والاسلوبي وكانت قصيدة النثر المقطعية فالقصيدة القصيرة والقصيرة جدا(الومضة) المتميزة بالتكثيف والايجاز وقصر العبارة المحققة لتقنية الانزياح مع ضربة ادهاشية مفاجئة واخيرا كانت قصيدة الهايكو التي هي شكل من اشكال اللحظة الجمالية الدالة على فلسفة ورؤيا قائمة على اشتراطات بنيوية ورؤيوية..اذ شعرية النص تتوزع على ثلاثة اسطر كل سطر يشكل مقطعا وكل مقطع يتشكل من مجموعة اصوات..تتوزع كما يلي:
المقطع الاول=5 أصوات
المقطع الثاني=7 أصوات
المقطع الثالث=5 أصوات
مجموع الاصوات= سطر شعري ترتيله لا يتجاوز مدة النفس الواحد..والمقطع يعني هنا (وحدة وزنية) للنص الشعري.. ومن هنا يبرز الخلاف بين النظم بالعربية التي تعتمد التفعيلة وحدة وزن لا المقطع..لذا فالتدفق الايقاعي يتشكل من ايقاع خارجي(حركات وسكنات)وداخلي ينتج من تدفق الصور الشعرية..
تلقفتها الحركة التجريبية الشعرية لاسباب بنيوية ورؤيوية..اذ تشكل بنيتها من جملة شعرية تتوزع على ثلاثة اسطر ذات تشكيل موجز باقتصاد لغوي وطاقة مكثفة قادرة على اطلاق دلالات متعددة ينتجها التأويل بحكم تعدد القراءات..بالرغم من ان الهايكو يبدو مشهدا ساكنا لكنه يختزن طاقة حركية كامنة يحتضنها تعبير مقتصد لغويا ودلالة مطلقة ذهنيا..اما من حيث الرؤيا فان الهايكو يقوم على مرجعية تحث على التامل والتفكير والوقوف على مفردات الطبيعة والظواهر المادية..
هذا يعني ان الهايكو نص لا يحتمل التشظي والتراكمية محققا وحدته في بنية متداخلة في الفعل الشعري والاستدلالي..لذا فهو(يبدأ باللغة وينتهي بها) على حد تعبير (محمد غازي التذمري).. كونه حالة شعورية استثنائية تكشف عن حالة ابداعية..فنية بتقنية تتميز بخصوصيتها انتجتها ذهنية متفجرة باقتناص لحظاتها تحت تاثير الحالة النفسية التي تتخذ من اطار اللغة تشكيلا لاداء وظيفة تعبيرية وتحقق موقفا في اطار موضوعي باعتماد التكثيف والاختزال بفعلها وانفعالها وتعاملها بدقة مع الحدث الذي يتنفس داخل النص وخارجه..ومع الحركة التاريخية والمتغيرات الحضارية اصبح الهايكو اكثر تحررا من قوالبه الجاهزة بهروبه الى عوالم الحلم والابتعاد عن الواقع الاغترابي المكتظ بالصراعات والتناقضات لتحقيق هدفه الجمالي الرؤيوي..فتأثرت به قامات شعرية امثال(ازرا باوند وهيوم وميلنت وييتس وفروست..)..اضافة الى ذلك انه كان سببا في ظهور(الصورية)..الحركة الشعرية الانجلو امريكية التي راجت في اوائل القرن العشرين..وترجم الى العربية عبر لغات وسيطة كان في مقدمتها الانكليزية حتى صدور(كتاب الهايكو)الذي ضم(الف هايكو وهايكو) عن دار التكوين بدمشق/2010 لمترجمه الشاعر السوري محمد عضيمة مع مقدمة كتبها موضحا مسيرة هذا الفن ومراحل تطوره وابرز شعرائه..مع ادراج النص الاصلي بلغته اليابانية…
و(غابة هايكو) بكل فنونها الطبيعية وجغرافيتها البشرية والمناطقية وحالات الاغتراب الذاتي..التي نسجتها انامل الشاعر سعد جاسم واسهمت مؤسسة فكرة للنشر والاعلام في القاهرة بنشرها وانتشارها/2016 ..لانها تكشف عن القلق الشعري الذي هو بؤرة انبعاث الحالة الابداعية لتحقيق طبيعتين:اولهما انسانية وثانيهما فنية..كون الشعر فعل له معنى بقدرته على التعبير والتصوير والابتكار الذي يؤسس لفضاءات عوالمه الحالمة..المتجاوزة(والذي لاتكتمل حقيقته الا في العالم الآخر)على حد تعبير (بول ايلوار)..فضلا عن استخدامه لغة حسية مصدرها الواقع الطبيعي والجمالي والحياتي بكل موجوداته..
انفاسها عطر
وقمصانها فراشات
سيدة الحقول /ص12
قلبها فضاء
وجسدها غابة
العاشقة الابدية /ص28
فالنص يقترب من الحكائية التعريفية المعتمدة على اسلوب تقديم(التعريف) وتأخير(المعرف) بتدفق وجداني ينبثق من مركز دائرة الوعي الشعري الذي تؤطر عوالمه الصورية ودلالاته دينامية حركية تستمد شعريتها من الذاكرة الذاتية والموضوعية(المتكلم/المخاطب) عبر توليفة تجمع ما بين الواقعي والتخييلي فتشكل لحظة جمالية بالفاظ مكثفة وجمل موجزة تحفز المخيلة وتستفزها للكشف عن دلالاتها واستنطاق مشهديتها الحسية..الطبيعية المنطلقة من رؤيا مفتوحة تتسع اتساعا كونيا عبر ومضها التأملي الهارب من عالم مادي محدود الى آفاق متسعة الانفتاح..عبر خطاب اتصالي تعريفي يكشف عن لحظة انفعالية تتوخى الايجاز وعمق المعنى ليستفز الذاكرة فتغادر المستوى التفسيري الى المستوى التأويلي عبر وحدة موضوعية تشكل نسقا جماليا متداخلا والفعل الشعري باعتماد الفاظ تعبر عن المالوف وتهدف الى تحقيق ذات الشاعر في تكوين موضوعي قائم بذاته..
اشجار عارية
مصاطب بلا عشاق
الخريف /ص35
نهارات تتطاير شررا
عصافير تحتضر
الصيف /ص36
سماء تنزف
اصابع متصلبة
الشتاء /37
حياة ضاحكة
عشاق سعداء
الربيع /ص38
فالنصوص تخلق تعريفاتها لفصول السنة فتكشف عن قدرة رؤيوية للواقع الممزوج بالخيال الشعري الخالق لصوره الشعرية المشحونة بشحنات تناغمت مع الحس النفسي من خلال هواجس فاعلة بفعلها ومتفاعلة وذاتها وهي تقوم على القطع التركيبي والوصل الدلالي(المونتاجي)..لذا يقوم الشاعر بالحذف والاختصار والايجاز كي يوفر لنصه قدرة الانفتاح ويسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك ويحركها للتأمل واستنطاق النص واستكشاف ما خلف الفاظه وصوره..
دم يركض حافيا
جثث تشهق طافية
الفرات /ص59
فالنص يستمد تأثيره من خلجات النفس واحلامها السابحة في فضاءات المخيلة الشعرية لمعانقة الواقع من اجل خلق صوره بتلقائية تحتكم المنطق القائم على التجربة والتعلق بالجوهر الحياتي المنبثق من لحظة التجلي التي يستشرفها الشاعر كتجربة كيانية انتزعها من سياق الوجد باعتماد الجملة الشعرية التي تتشكل من بنى تأملية..
قلبك فضاء من المطر
وجسدك صحراء مريضة /ص66
امرأة فارعة الطيبة
توزع خبزها على الفقراء
الديوانية /ص42
فالنص تشكيلة من الالتقاطات الدالة على الغربة والاغتراب بعباراته الموجزة واشاراته الكاشفة والمعاني المنبثقة من الوعي الشعري واستدلالاته بتداخل(الذاتية المعرفية والجمالية) في سياق شعري تخييلي تؤطره اللغة الخالقة لنوع من الرؤية الحسية المعتمدة على مقاييس جمالية(صور/تراكيب لفظية/ خيال ممزوج بالواقع..)مع ضغط على الفضاء النصي من خلال الاقتصاد بالالفاظ لخلق نزعة تعريفية موجزة بعيدة عن الاستطراد الوصفي..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا تنتمي مبنى ومعنى الى هايكوية تعريفية قصيرة لمصطلحات يحتضنها الوجود الكوني(الطبيعة/المرأة/الحياة بكل موجوداتها..) باستخدام لغة حسية مصدر الهامها مشهد جمالي طبيعي او حياتي مكتنز بطاقة مكثفة قادرة على اطلاق دلالات تأويلية منطلقة من قراءات متباينة..