علي كرزازي: القدس: ذاكرة الجرح الوضيء (1) (ملف/84)

تصدير

بعراقتها التليدة وتاريخها الباذخ وقدسيتها الفريدة، استطاعت القدس أن تعمر القلوب وتتربع على عرش الذاكرة والوجدان والمخيال…
عبرها مرّ الأنبياء والقديسون والصوفيون والعلماء والدراويش، فكانت نقطة تعالق بين السماء والأرض، وعلى أسوارها تصارع الفاتحون والجبابرة فكان أن تشربت شتى أنواع الثقافات والحضارات على مر الأزمان.
القدس… أيقونة الأديان ومجرّة القداسة المشعة بألف نار ونور…
القدس… ملحمة الإسلام الموءودة وجُرح العروبة النازف…
القدس… حكاية طفلة جميلة ،حزينة تصرخ دوما: “لا تبيعوني في سوق النخاسة الأممي نظير دراهم معدودات”.

-1-
شجون التسمية
مدينة مسكونة بالقداسة، احتضنت الأديان السماوية الثلاثة:الإسلام، المسيحية واليهودية، فأنشئت بها أماكن مقدسة للعبادة، ولا عجب أو يكون اسمها هو الآخر موسوما بالقدسية والقداسة. فالقدس لغويا تعني تنزيه الله وتقديسه، وتعني كذلك الطهارة، ودعونا نمضي معا للتعرف على هذا الكم الهائل من الأسماء الدالة التي أطلقت على هذه المدينة الاستثنائية.
يرى المؤرخون أن أقدم اسم عرفت به القدس هو “أورسالم” الوارد في رسائل ” تل العمارنةّ”، أما اسم ” يبوس ” فقد ورد في الكتابات المصرية الهيروغليفية باسم:”يابثي” أو “يابتي” وهو تحريف للاسم الكنعاني. وقد اختلفوا في أصله فقيل إنه مركب من كلمة “يروشليم” أو” يروشالايم” العبرية ومعناها أساس الإسلام، وسالم أو شالم وهو اسم الإله الكنعاني حامي المدينة، ويذهب البعض إلى أن “ملكي صادق” الملك اليبوسي هو أول من بناها وحكمها، ومن ثمة أخذت اسم “يبوس” نسبة لليبوسيين المتفرعين من الكنعانيين، وقيل إن أصل الكلمة يبوش شاليم أي يبوس سليمان.
أما فريق آخر من المؤرخين فذهب إلى أن إبراهيم الخليل سماها “يرى” أو “أور” نسبة إلى المدينة الكلدانية بجنوب العراق، التي هاجر منها في اتجاه فلسطين حوالي سنة 1921 قبل الميلاد، ثم دمج الاسمان في اسم واحد كنوع من التكريم والتبجيل لهذه المدينة: أورشليم، وذات الاسم أي أورشليم ظهر أول مرة في سفر “يشوع”، وهو بحسب فقهاء اللغة منحوت من كلمتين “أور” وهي موقع مخصص لعبادة الله وخدمته وكلمة: “سليم” التي تعني سلام أو ترمز عند البعض إلى إله كنعاني قديم اسمه “شاليم” وهو إله الغسق أو اله السلام بحسب الموسوعة الفلسطينية.
وذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن القدس سميت في عهد أب الأنبياء ب “ساليم” أو “سوليما”، فيما أطلق العبرانيون على القسم القديم من المدينة اسمي “صهيون” و”مدينة داود”، وهما الاسمان اللذان ستعرف بهما المدينة ككل في عرف اليهود إضافة إلى اسم “مدينة الله”، وعند احتلال اليونان لها خلال العصر الهليني حُوّروا اسمها فأضحى يلفظ: “هيروسليما”.
وفي سنة 131 ميلادية وقع حوض البحر الأبيض المتوسط تحت نير الإمبراطورية الرومانية، فتسمّت المدينة باسم روماني: “إيلياكابتولينا Alia captolina” ومعناها بيت الله.
من الأسماء التي ألصقت بمدينة القدس والتي نعثر عليها في المعاجم اللغوية والقواميس العربية القديمة: اسم شاليم، وهو اسم بيت المقدس بحسب الفيروز آبادي، ومنها اشتق الأوروبيون كلمة أورشليم Jérusalem، أما ياقوت الحموي فقد ذكر في قاموسه “أورشليم” بكسر اللام.ولما فتح المسلمون مدينة القدس سموها “إيلياء” أو “إيليا” وهو ما تثبته رسائلهم وخصوصا ما جاء في “العهد العمري” أو ما يعرف ب: “العهدة العمرية”، ثم ما لبثوا أن أطلقوا عليها اسم “بيت المقدس” و”المقدس” و”البيت المقدس” اعتبارا لقدسيتها التي خلعتها عليها الأديان السماوية جميعها.
وتجدر الإشارة إلى أن اسم “بيت المقدس” مستنبط من اللغة الآرامية ومعناه “الكنيس”، وهو لا يزال متداولا في بعض اللغات كالأردية، ومنه اشتق لقب “مقدسي” الذي يطلق على ساكني المدينة، وقد تسمت القدس باسم ” بيت المقدس” في التوراة (نحميا 11:1) كما تسمت بمدينة الله (مزمور 46: 4).
أما في عصرنا الحالي فإن الاسم الشائع للمدينة هو “القدس” عند العرب والمسلمين، وقد يكون اختصارا لبيت المقدس أو مدينة القدس. ومن الأسماء التي ‘تتداول بكثرة كذلك اسم “القدس الشريف” وهو الاسم الذي ارتبط بالمدينة خلال العصر العثماني، أما المسيحيون فيسمون القدس ب”Jérusalem” في حين يبقى اسم “أورشليم القدس” هو المعتمد من طرف السلطات الإسرائيلية في إعلاناتها للمدينة.

-2-
معطيات جغرافية:
تعتبر مدينة القدس أكبر مدن فلسطين التاريخية المحتلة، سواء من حيث المساحة أو تعداد السكان، تقع على هضبة ممتدة جنوب سلسلة جبال فلسطين وترتفع فوق سطح البحر الأبيض المتوسط ب: 750 مترا، وتطل من الشرق على البحر الميت ونهر الأردن. أما عمرانها فينحصر بين تلين مستطيلين متوازيين من الشمال إلى الجنوب، فيما يعتبر ساحل البحر الميت المحاذي لها أخفض نقطة في الأرض.
في حين تتوزع قممها الجبلية بين جبل الزيتون أو جبل الطور ويقع شرق المدينة، وجبل المشارف ويقع في الشمال الغربي، إضافة إلى جبل صهيون الواقع في الجنوب الغربي، وجبل المكبر الذي يروى أنه سمي بهذا الاسم عندما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس وكبر فوقه، وكذلك جبال: النبي صمويل، وأبو غنيم، وأكرا، وموريا، وصخرة بزبتا، ومن بين أهم وديان المدينة: وادي هنوم ووادي قدورون (أو وادي جهنم) الذي يفصل القدس عن جبل الزيتون، وبين هذين الواديين نشأت نواة المدينة القديمة، ينضاف إليهما وادي الجوز ونبع أم الدرج…
يرى بعض المؤرخين أن “عين العذراء” الموجودة في الجنوب الشرقي كانت السبب في تعمير المدينة إبان عهد اليبوسيين، وقد عمد السكان الأوائل إلى تدبير مشكلة ندرة المياه من خلال تشييد القناطر والقنوات كجر مياه الأنهار، إضافة إلى حفر الآبار ومن أهمها بئر أيوب نسبة إلى النبي أيوب.
أما مناخ المدينة فمناخ متوسطي يتميز بالحرارة صيفا وبالاعتدال شتاء، مع تساقطات مطرية متوسطة يصل معدلها السنوي إلى 550 ملم، كما تعرف هطولا للثلوج كل 3 أو 4 سنوات في العادة. وفيما يتعلق بالغطاء النباتي فيتميز بالتنوع، إذ تقع في محيط القدس عدة غابات ومناطق برية مثل وادي الغزال، ومن الأشجار التي تشتهر بها أشجار الجوز والزيتون والصنوبر عدا عن كونها موطنا لعدد كبير من أنواع الطيور والطيور المهاجرة.
تحظى مدينة القدس بموقع إستراتيجي فهي تقع وسط فلسطين، فهي تبعد بحوالي 60 كلم عن البحر الأبيض المتوسط و35 كلم عن البحر الميت، في حين تفصلها 250 كلم عن البحر الأحمر، أما المدن والبلدان المجاورة لها فهي: رام الله ومستوطنة كفعات زئيف شمالا، وبيت لحم وبيت جالا جنوبا، وأبو ديس ومستوطنة معاليم أدوميم شرقا، ومفاسرت صهيون غربا.
ترجح أغلب التقديرات أن عدد سكان القدس كان يتراوح إبان الفتح الإسلامي ما بين 20 و60 ألف نسمة، وارتفع ليصل في عهد الصليبين في القرن الحادي عشر الميلادي إلى نحو 200,000 نسمة نصفهم من العرب الأصليين، لكن بعد استرداد المدينة من طرف صلاح الدين الأيوبي انخفض سكانها إلى 44,000 نسمة بعد إجلاء الصليبين. وفي سنة 1670م وبحسب إحصاء السلطان العثماني محمد الرابع وصل عدد سكان المدينة إلى 46,000 نسمة سنة 1913م إلى 90,000 نسمة، لكن وبسبب الحرب العالمية الأولى وتداعياتها انخفض هذا العدد ليستقر في 50,000 نسمة فقط، ثم عاد ليتزايد فيما بعد.
أما بخصوص التواجد اليهودي بالقدس فالمرويات التاريخية تثبت أنهم سكنوها بعد أن استولى عليها الملك/النبي داود، ثم صارت أعدادهم تتزايد وتتناقص بحسب الغزاة، إذ يؤكد الكثير من المؤرخين أن الرومان وكذا الصليبيين أجلوا اليهود عن المدينة خلال احتلاهم لها، في حين سمح لهم صلاح الدين الأيوبي بالمقام والعيش فيها وبرأي السائح اليهودي بتاحيا، فإنه خلال العهد الصليبي في القرن 12م لم يكن سوى يهودي واحد فقط.غير أن أعداد اليهود ستتضاعف من خلال الهجرة التي شجعت عليها الوكالة اليهودية والسياسة الانجليزية المنتهجة في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين ليبلغ عددهم بالقدس سنة 1944م ما يناهز 94,000 نسمة، وتبعا لإحصاء سنة 2007 فقد وصل العدد الإجمالي لسكان القدس 747,600 نسمة، يشكل اليهود منهم نسبة 64% والمسلمون 32% فيما يشغل المسيحيون نسبة 2% فقط .

3-
موطن الهجرات والفتوحات:
دلت حفريات علماء الآثار على أن أول من سكن القدس قبائل بدائية من العصر الحجري القديم، وبدءا من القرن 4 قبل الميلاد عرفت المدينة هجرات منتظمة كانت أولها هجرة الأموريين الذين اعتبرهم كثير من الدارسين وثيقي الصلة بالكنعانيين، وقد استطاعوا السيطرة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ومما أكدته التوراة في هذا المنحى كون الكنعانيين أسسوا حضارة فتية قادت صراعا محتدما مع العبرانيين.
ويبقى من الراجح أن اليبوسيين – وهم فرع من سلالة الكنعانيين العرب- هم من بنوا مدينة القدس تحت إمرة قائدهم الشهير ملكي صادق الذي كان يطلق عليه بنو قومه لقب “كاهن الرب الأعظم” وقد اشتهرت المدينة –المسماة آنذاك يبوس- بتحصيناتها وبزراعة العنب والزيتون عدا عن كثير من المعادن كالنحاس والبرونز، فضلا عن استخدام الخشب في صناعة السفن والقوارب، إضافة إلى صناعة الأسلحة والثياب والزجاج. غير أن ما كان يعاب على هذه القبائل أو الشعوب العربية التي سكنت القدس هو افتقارها لحكومة مركزية قادرة على بناء دولة قوية، وهو ما أدى إلى طمع العبرانيين في أرضهم ، بل ونجاحهم في ضم أجزاء كبيرة منها في عهد القائد اليهودي يشوع بن نون – بحسب ما جاء في التوراة – وقد استمر الصراع بين الشعبين لمدة تقارب المائتي عام.
وفي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد نزح الآراميون إلى أرض القدس فدخلوا في صراع محتدم مع العبرانيين، ثم جاء من بعدهم الفلسطينيون بعد أن أرغمهم الهيلينيون على ترك جزيرة كريت فسكنوا بين يافا وغزة، وعاشوا مع بقايا الكنعانيين وبني إسرائيل. لكن لا ينبغي أن نغفل حكم الفراعنة للأراضي المقدسة، إذ ثبت من خلال رسائل تل العمارنة السبع أن مدينة أورشليم خضعت لفرعون مصر أمنحتب الثالث (حوالي 1413 قبل الميلاد)، وبذلك ظل الفراعنة يحكمون فلسطين عن طريق ولاة من أهلها مقابل دفع الجزية.
وسيكون من المفيد أن نلقي الضوء على الهجرة الأولى لليهود/الإسرائيلين نحو أرض فلسطين، وقد تزامنت مع هجرة الهكسوس والحوريين في الفترة ما بين 2100-2000 قبل الميلاد، وكان على رأس هذه الهجرة سيدنا إبراهيم الخليل الذي تروى التوراة أنه حل بأرض كنعان (فلسطين) غريبا بمعية ابن أخيه لوط وعائلتيهما، وعاشوا وسط الكنعانيين وتعلموا لغتهم، ويرجح أن سيدنا إبراهيم تسمى بالعبراني لعبوره نهر الأردن في طريق لفلسطين، وأعقب ذلك هجرة العبرانيين من أرض فلسطين إلى مصر، وهي الهجرة التي ذكرها القرآن في سورة يوسف بناء على دعوة العزيز (النبي يوسف عليه السلام) لأبيه يعقوب عليه السلام. فاستقروا في محافظة الشرقية وكان عددهم حوالي السبعين نفرا، واستمر بقاءهم في مصر حوالي 430 عاما، ثم جاءت الهجرة المعكوسة من مصر إلى فلسطين بقيادة النبي موسى عليه السلام، وهي الهجرة التي اعتبرها دارسو التاريخ البداية الفعلية لتاريخ اليهود في الأرض المقدسة، ومن ثم استؤنفت فصول الصراع اليهودي العربي بين الاسرائليين من جهة والمديانيين والفلسطينيين من جهة أخرى، ويرى الكتاب الأمريكي ستبمبسون جورج أن بني يهودا وبني شمعون تمكنوا من حرق مدينة القدس وأسروا بعض سكانها اليبوسيين، لكنهم فشلوا في اختراق الحصن القائم على جبل صهيون، وما لبث أن استعاد اليبوسييون زمام الأمر فأعادوا بناء المدينة وحكموها خلال عهد القضاة وإبان عهد الملك شاؤول، لدرجة أن اليهود لم يعد لهم وجود بالمدينة إلا بعد أن استولى عليها الملك داود سنة 1006 ق.م. ولم يكن يخفى على النبي داود الأهمية الإستراتيجية للقدس فهي من ناحية ذات موقع طبيعي يوفر لها الحماية ولساكنيها، إضافة إلى أنها تتوسط فلسطين، هذا فضلا عن أهميتها السياسية المتمثلة في حيادها لكونها تمنعت عن الأسباط، إذ كانت تقع بين الأراضي التي احتلها سبطا يهوذا وبنيامين، كما أن موقعها أتاح لها السيطرة على خطوط المواصلات الرئيسية بين الشمال والجنوب. وهذه الأسباب مجتمعه هي التي دفعت النبي داود إلى نقل عاصمة دولته من مدينة الخليل ( كانت تدعى جبرون في ذلك الوقت) التي بقي يحكم فيها مدة سبع سنين ونصف السنة، إلى أورشليم التي بقي فيها مدة 33 سنة، إلا أنه رغم تعاظم نفوذه ذالك، لم يستطع الملك داود أن يجلي اليبوسيين المتمسكين بأرضهم.
إبان عهد الملك سليمان الحكيم، قام هذا الأخير بمد الأسوار شمال قلعة داود وأنشأ عدة تحصينات بالمدينة، كما شيد لنفسه قصرا فخما على تل “أوفيل” وحصنه بأسوار منيعة قصد حمايته. ومن أشهر منجزات –الملك سليمان- تشييده لمعبد مبني بالحجارة سمي بهيكل سليمان. وقد أقامه في مكان على جبل هوريا في جنوب شرق القدس القديمة، على شكل مربع طول ضلعه 180مترا، وكان موقع الصخرة (التي يزعم البعض أنها تقع حاليا تحت قبة مسجد الصخرة) هو هيكل الذبائح التي يسميها اليهود بالمحرقات، وكان مكشوفا ومغطى بصفائح من النحاس في أركانه الأربعة. وبالرغم من القوة التي أبداها سليمان في حكمه –الذي دام مدة 33 سنة- فقد واجه ثورات عربية مناوئة. وبعد وفاته ضعفت مملكته وانقسمت إلى دولتين صغيرتين: واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب، وقد قضى عليهما الفراعنة والآشوريون. وتذهب بعض مزاعم اليهود إلى أن المسجد الأقصى قد أقيم على أنقاض الهيكل الذي بناه سليمان، غير أن هذه المزاعم ليست لها ما يدعمها، حيث لم تثبت الحفريات أي أثر يدل على بناء الهيكل في ذلك المكان أو حتى في منقطة القدس.
بقيت القدس رازحة تحت حكم الفراعنة إلى أن حاصرها البابليون/ الكلدانيون بقيادة ملكهم نبوخذنصر الثاني (593 ق.م) والذي سبى الكثير من اليهود وحرق الهيكل، وقد فسرت التوراة سبب انهزام اليهود أمام البابليين بتعاظم شر اليهود ومخالفتهم تعاليم الله وعدم امتثالهم لأوامر وتحذيرات نبيهم أرميا، ونظرا لتمردهم على حكم البابليين تعرضت القدس مجددا للحصار البابلي وكان ذلك سنة 590 ق.م، وفي المرة الثالثة أقدم البابليون على حرق المدينة وسبي أهلها، ويذهب جميع المؤرخين إلى أن الوجود اليهودي في فلسطين انتهى بعد السبي البابلي، فصاروا مجرد طائفة دينية حتى عهد المكابيين (167 ق.م)، ويقدر المؤرخون الفترة التي قضاها اليهود في السبي ب70 عاما.
وبعد البابليين ‘قيّض لأورشليم (القدس) أن ‘تفتح من طرف الفرس الذين أنهوا حكم البابليين بها سنة 526 ق.م بمساعدة من طرف الجواسيس اليهود، وهكذا استطاع اليهود أن يعودوا مرة أخرى إلى المدينة بفضل الملك قورش الفارسي الذي جازاهم على صنيعهم، فعمدوا مجددا إلى إعادة بناء الهيكل على يد زربابل بن شالتئيل الذي أتمّه سنة 515 ق.م ، وعلى أية حال فإن مدينة القدس خلال العهد الفارسي تدهورت أحوالها على جميع الأصعدة، وإن كانت عرفت توافد أعداد كبيرة من العرب عليها.
كانت القدس على موعد مع الفتح اليوناني في سنة 333 ق.م على يد القائد الإسكندر المقدوني الأكبر الذي مهد حكمها للبطالمة، إذا استولى عليها بطليموس الأول وضمها مع فلسطين إلى مملكته في مصر وذلك سنة 323 ق.م، إلا أن بطليموس الخامس فرط في القدس ومملكته يهوذا لصالح السلوقيين بقيادة أنطوخيوس الثالث الكبير والي سوريا، كان ذلك في العام 198 ق.م.
إذا كان اليهود قد نعموا خلال فترة حكم البطالمة بتوسع نفوذهم فإن أنطوخيوس شن عليهم حربا شعواء وعاملهم بقسوة لا مثيل لها فقتل منهم الكثير، واستعبدهم وسلب هيكلهم كما ألغى الدين اليهودي وأكرههم على عبادة آلهة الإغريق. ولعل واقع الاضطهاد هذا هو ما دفع باليهود إلى هجرة القدس، لكنهم عادوا إليها ليحركوا أتون الثورة في عهد ابنه أنطوخيوس الخامس (164 ق.م).
لم يأفل نجم الإغريق في الأرض المقدسة قبل أن يطبعوها بلغتهم وآدابهم إذ نقلوا إليها حضارتهم وديانتهم الوثنية، وأعقب حكمهم ثورة المكابيين بزعامة يهوذا المكابي الذي استولى على القدس سنة 168 ق.م، وحكم نسله المدينة من بعده حتى حوالي سنة 63 ق.م، لكن عهدهم ‘وسم بالفوضى والحروب الأهلية نتيجة الصراع حول الحكم، وهو ما مهد الطريق لدخول الرومان للمدينة في السنة ذاتها(63 ق.م)، ويبقى أهم إنجاز للمكابيين هو إعادة تجديد الجزء الذي دمره أنطوخيوس من الهيكل.
كان القائد بومبي هو من قاد الاكتساح الروماني للقدس، ومن ثمة توالى حكم القادة الرومان للمدينة ولعل أشهرهم المدعو هيرودس الذي حكم المدينة مدة 23 سنة، وفي آخر سنة من حكمه ولد المسيح عليه السلام في مدينة بيت لحم جنوبي القدس، وقد عمل أبناء هذا القائد وأحفاده على توطيد الحكم الروماني بفلسطين وبالقدس خاصة، غير أن اليهود لم يستسلموا للرومان فقادوا الكثير من الثورات ضدهم، أولها الثورة اليهودية الكبرى التي استمرت من سنة 66 م إلى 70م والتي نجح القائد الروماني ” تيطس” في إخمادها بالقوة، فأحرق مدينة القدس وأسر الكثير من اليهود ودُمِّر المعبد للمرة الثانية، لكن اليهود عاودوا التمرد في سنة 115م و132م و‘عرف هذا التمرد الأخير بثورة شمعون بن كوكبة، غير أن الإمبراطور “هادريان” هدم القدس ثانية وأخرج اليهود منها وطبعها بطابع روماني صرف، فأصدر مرسوما غيّر بمقتضاه اسم المدينة التي صارت تعرف ب مُستعمرة ” إيليا الكابيتولينيةّ ” وأصبجت بالتالي تابعة لمقاطعة سوريا الفلسطينية بدل مقاطعة اليهودية، وكان ذلك تيمنا بالفلستنيين الذي سكنوا الساحل الجنوبي.
وإبان عهد الإمبراطور قسطنطين الأول الذي نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى بيزنطة واعتمد المسيحية ديانة رسمية للدولة، تم تشييد العديد من المعالم المسيحية بالقدس ولعل أهمها كنيسة القيامة التي بنيت عام 326م، فكان ذاك عنوانا للإشعاع المسيحي بالمدينة، حيث صارت القدس مركزا لبطريركية ذات أهمية بالغة، تنضاف إلى البطريركيات الكبرى وهي: الإسكندرية، أنطاكية، روما والقسطنطينية، وقد أنشئت في مجمع نيقية، هكذا إذا اتسعت ونمت القدس إذ بلغ عدد سكانها آنذاك حوالي 200,000 نسمة ومساحتها 2 كلم2، والجدير بالذكر أن اليهود لم يطئوا أرضها طيلة عهد قسطينطين الأول وحتى القرن السابع الميلادي.
وفي سنة 395 م دب الضعف في جسد الإمبراطورية الرومانية فانقسمت إلى إمبراطوريتين، الأول: الإمبراطورية الغربية وعاصمتها روما، والثانية: الإمبراطورية الشرقية أو البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، فكان أن خضعت القدس وبقية بلاد الشام للإمبراطورية البيزنطية.
ومن جهتهم عمل الفرس على استغلال حالة الضعف هاته التي كانت تمر بها الإمبراطورية الرومانية، فتمكن” كسرى الثاني” في سنة 614 م من استعادة القدس من يد الرومان بمساعدة اليهود الناقمين على البيزنطيين، واستمر حكم الفرس لها 15 سنة من ذلك التاريخ، إلى أن استطاع الإمبراطور”هرقل” تخليصها منهم سنة 629 م وبقيت تحت حكم الرومان إلى غاية الفتح الإسلامي عام 636 م.
ولعله من المفيد أن نستحضر –خلال هذا العهد- طبيعة العلاقة التي جمعت بين المسيح عيسى عليه السلام واليهود، إذ يرى المؤرخون المسيحيون أن المسيح عيسى عليه السلام ما فتئ يدعوهم للإيمان بالتعاليم المسيحية إلا أنهم رفضوا ذلك كلية، فاضطهدوه وأساءوا معاملته، فتنبأ بخراب أورشليم/القدس وتشتيتهم جراء صنيعهم ذلك، وهو ما يستشف من قوله عليه السلام: “هو ذا بيتكم ‘يترك لكم خرابا” (متى: 24، لوقا: 21) وقوله أيضا ” الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض”، والظاهر أن هذه النبوءة تحققت من خلال تدمير الرومان للمدينة سنة 70 م وطردهم لليهود منها.

-4-
قدس الإسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى:
” سبحان الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” [سورة الإسراء، الآية: 1].
إن دلالة هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها، تثبت أن الرسول (ص) أول من فتح مدينة القدس من المسلمين، إنه فتح رباني مستلهم من آية الإسراء والمعراج، فمن تلك البقعة المقدسة بأرض فلسطين عُرٍّج بالرسول الكريم إلى السماوات العلى، وما الفتح العمري (نسبة للأمير المؤمنين عمر بن الخطاب) إلا استكمال للفتح المحمدي (نسبة للنبي محمد (ص)).
في إطار الفتوحات الإسلامية، وجه عمر بن الخطاب الخليفة الثاني لرسول الله (ص) أبا عبيدة بن الجراح وخالدا بن الوليد لفتح القدس، وبعد أن تمت محاصرتها من قبل جيش المسلمين تم توجيه إنذار لبطريركها المسمى “صفرونيوس” “Sophronius” ، مخيرين إياه بين الإسلام أو تسليم المدينة مع دفع الجزية أو القتال، فاختار المسيحيون المقاومة فنشب القتال عدة شهور إلى أن بدأت مقاومتهم تضعف، فما كان من صفرونيوس سوى الاستسلام لكنه اشترط أن يسلم المدينة (القدس) لأمير المؤمنين عمر شخصيا، فشاور الخليفة عمر رضي الله عنه الصحابة في الأمر، فأشار عليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: “إني أرى أنك إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يدك وكان في مسيرك الأجر العظيم”، فعمل عمر بمشورته، فقصد بيت المقدس بمعية خادمه وتناوبا على ركوب ناقة طيلة تلك الرحلة الشاقة، وعندما شارفا القدس تطلع إليهما صفرونيوس وبطاركته، وحينما سألوا عن هوية الرجلين أجابهم المسلمون: “إنه عمر بن الخطاب وخادمه”، فسأل صفرونيوس: “أيهما عمر؟” فأشاروا إلى ذلك الواقف على قدميه إذ كان خادمه ممتطيا الناقة، فتملكهم الذهول والعجب، وقيل لأن ذلك مذكور في كتبهم، ومهما يكن من أمر فهذا الموقف ينضاف إلى مواقف عمر بن الخطاب التي تشي بعظمة الدين الإسلامي المنبني أساسا على الرحمة والعدل والمساواة. لله درك يا عمر !
لما تسلم عمر مفاتيح القدس من البطريرك صفرونيوس خطب في الجموع المحتشدة من سكان القدس قائلا: ” يا أهل إيلياء لكم ما لنا وعليكم ما علينا”، وعند تفقده لكنيسة القيامة أدركته الصلاة وهو فيها، فخرج منها وفرش عباءته وصلى، ليلا يتخذ المسلمون ذلك من بعده سُنة، وفي نفس الوقت كان ذلك منه بمثابة توقير للمقدسات المسيحية. وحيث صلّ عمر رضي الله بني المسجد العمري (الموجود حاليا).
ترسم “العهدة العمرية” التي كتبها عمر للبطريرك صفرونيوس أبعاد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين انطلاقا من مبادئ الإسلام الداعية للسلم والتسامح، لننصت:
“هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله من الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك كتب وحضر سنة 15 هـ عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان” (الطبري: تاريخ الطبري).
يستفاد من نص “العهد العمري” أن المسلمين التزموا التزاما صريحا بالمحافظة على عقيدة وأمن وممتلكات مسيحيي القدس، باعتبارهم من أهل الذمة الذين يوجب لهم الإسلام الحقوق المذكورة مقابل دفع الجزية. أما إشارة “ولا يسكن معهم أحد من اليهود ولا يضار منهم أحد” فتدل على العلاقة الملتبسة التي كانت تجمع اليهود بكل الأقوام والشعوب التي سكنت القدس، وذلك بسبب من نزوعاتهم العدوانية وإثارتهم للقلاقل والفتن العرقية والسياسية على مدار التاريخ.
هكذا نجح المسلمون في إرساء دعائم حكم بالقدس، قائم على العدل والتسامح، يشهد على ذلك النصارى أنفسهم، فهذا الكاتب توماس المرجي ينقل قولة دالة لأحد البطاركة جاء فيها: “إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على جزء كبير من العالم يعاملوننا معاملة حسنة، وأنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا ويوقرون كهنتنا وقديسينا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا”. لقد ازدهرت مدينة القدس بفضل موقعها في وسط الدولة الإسلامية وصارت لها أهمية تجارية، وتزايد عدد سكانها من العرب المسيحيين والمسلمين في مقابل هجرة عدد من سكانها اليونانيين وخلوها من العنصر اليهودي آنذاك.
وفي عهد بني أمية تنامت أهمية المدينة، بحيث بدأ الخليفة عبد الملك بن مروان في بناء مسجدي الصخرة والأقصى، هذا الأخير الذي تم افتتاحه للعبادة في عهد ابنه الوليد بن عبد الملك سنة 705م. أما الخليفة عمر بن عبد العزيز فيثبت المؤرخون أنه طرد اليهود من القدس بعد علمه بسوء طويتهم إزاءه. وعلى نفس المنوال سار العباسيون في حسن معاملتهم للمسيحيين من سكان المدينة وبالأخص في عهد الخليفة هارون الرشيد (786م) الذي سمح للإمبراطور شارلمان بترميم الكنائس وبناء كنيسة باسم العذراء، كما وفر الحماية للحجاج المسلمين، واستمرت القدس محافظة على أهميتها، إن على المستوى الاقتصادي أو السياسي حتى عهد الطولونيين (878م-905) الذين تقلصت في عهدهم أدوارها واقتصرت على الجانب الديني فأصبحت مزارا للناس فقط، والأمر نفسه ينسحب على عهد الإخشيديين الذي تفاقمت فيه أوضاع المدينة، فقلّ عدد سكانها وفقدت مكانتها لصالح مدينة الرملة التي أصبحت عاصمة لفلسطين، ويذكر بعض المؤرخين أنه خلال عهد كافور الإخشيدي (960م 966م) كانت لليهود يد طولى في حوادث نهب كنيسة صهيون وأحرقوا قسما من كنيسة القيامة فسقطت قبتها.
في سنة 972م انقادت القدس لحكم الفاطميين الذين تابعوا نهج أسلافهم في معاملة سكان المدينة على أساس من العدل والتسامح والرفق باستثناء بعض الحوادث المتفرقة. ويرجع الفضل للفاطميين في تأسيس أول بيمارستان بالمدينة وكان يُقدم فيه العلاج بالمجان، كما أسسوا دارا للعلم كامتداد لدار الحكمة التي أسسوها في القاهرة سنة 1004م. إضافة إلى هذا وذاك عرفت القدس في عهدهم نهضة عمرانية، وازدهارا على مستوى السياحة الدينية التي نشطها الحجاج المسلمون والمسيحيون.
نظرا لضعف الفاطميين استولى السلاجقة على القدس سنة 1012 م وقد تميز حكمهم بالقسوة، إذ أقدموا على هدم الكنائس والأديرة وكثرت مظالمهم لدرجة أنهم عهدوا لرجل مسيحي قبطي يسمى منصور التلياني بحكم القدس تحت إشرافهم في سنة 1012م، غير أن الفاطميين نجحوا في استردادها من قبضة السلاجقة التركمان سنة 1015م تحت قيادة الأفضل بن بدر الجمالي، بعد حصار دام 40 يوما وقد سهل سكان المدينة مأموريته حينما فتحوا له أبوابها سرا.
مهدت جملة من الأسباب الذاتية والموضوعية للمد الصليبي الذي اجتاح الجهة الشرقية للعالم الإسلامي، ومن بينها تضعضع الدولة الإسلامية ككل وتزايد الانقسامات بين الشيعة والسنة، وبين العرب والترك، لدرجة أن الوزير الفاطمي الأفضل عرض على الصليبيين عقد تحالف لمناوئة الأتراك السلاجقة. وقد كان لمضايقة هؤلاء للحجاج الغربيين خاصة ولسكان القدس المسيحيين عامة أثره في تأجيج مشاعر الغرب المسيحي واستثارتها بهدف تخليص “القبر المقدس” من أيدي المسلمين، ناهيك عن رغبة “بابا ” روما في ضم الكنائس الشرقية الأرثوذكسية لتنضوي تحت إمرته.
والراجح أن هذه الحملة الصليبية لم يكن الدافع الديني محركها الأوحد، بل كانت تثوي خلفها مطامع سياسية واقتصادية كذلك، هكذا توجهت جحافل الجيوش الصليبية نحو بيت المقدس، فاستولت بداية على أنطاكية، ثم حاصرت القدس في 7 يونيو 1099، وبالرغم من الصمود الذي أبداه المسلمون في الدفاع عن المدينة المحصنة، إلا أن الصليبيين استطاعوا بفضل الإمدادات التي وصلتهم من دخول المدينة في 9 غشت 1099م فدمروها وعاثوا فيها فسادا كبيرا إذ قتلوا أعدادا كبيرة من المسلمين واليهود وأحرقوا المعابد والبيع، وحولوا المساجد إلى كنائس، ومنها مسجد قبة الصخرة، كما قسموا المسجد الأقصى إلى ثلاثة أقسام الأول حولوه كنيسة والثاني مسكنا للفرسان والثالث مستودعا للذخائر والأسلحة، فيما استغلوا السراديب الموجودة تحته كإسطبلات للحيوانات، وتوالت بعد ذلك سقوط المدن الفلسطينية: الجليل، طبريا، حيفا ، قيسارية … إلخ. وفي سنة 1100م أصبح “بلدوين الأول” على رأس مملكة الصليبين في القدس، وقد استمر حكم هذه المملكة 88 سنة، ولم يسمح لغير المسيحيين بسكنى المدينة، وطيلة هذا العهد عمل الصليبيون على مسح كل تلوينات الثقافة العربية الإسلامية واستبدالها بالطابع اللاتيني، إضافة إلى وأد التوجيهات الأرثوذكسية من الدين المسيحي.
لم يستسغ المسلمون مسألة ضياع القدس من أيديهم لصالح الصليبين فعملوا على توحيد صفوفهم في العراق والشام، بقيادة “عماد الدين زنكي” وابنه “نور الدين محمود” الذي نجح في ضم مصر، وهو نجاح باهر بالنظر للثقل الاستراتيجي لمصر في العالم الإسلامي، لذلك بدأ الصليبيون يستشعرون الخطر الإسلامي الذي أصبح يتزايد ويحاصر القدس من الشمال الشرقي والجنوب الغربي.
بعد سنة من قيام الدولة الأيوبية بمصر، دشن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي زحفه على جنوب فلسطين باسترجاع حصن “الكرك” والذي تزامن مع الانتصار الكبير الذي حققه الأسطول البحري المصري على نظيره الصليبي في البحر الأحمر سنة 1182م، مما حال دون استكمال المخطط الصليبي الشيطاني الرامي لتدمير الأماكن المقدسة بالحجاز.
تهيأت كل الشروط لكي يحقق صلاح الدين الإنجاز التاريخي الهام والمتمثل في تحرير القدس، فكانت المعركة الحاسمة، معركة حطين التي بدأت في الأول من يوليوز سنة 1187م واستمرت أياما مالت فيها لغة النصر لصالح المسلمين الذي قتلوا 30 ألفا من الصليبين وأسروا ما يقارب 30 ألفا آخرين من أصل 63 ألف فارس وهو قوام الجيش الصليبي، وبالموازاة مع ذلك فتح المسلمون مدن عكا وطبريا والعديد من مدن وقرى فلسطين، وفي العشرين من شتنبر 1187م حاصر صلاح الدين مدينة القدس، فلما أيقن الصليبيون بقوة المسلمين اضطروا للاستسلام، فتم التوقيع على نسختي المعاهدة بالتسليم في يوم الجمعة 2 أو 3 أكتوبر 1187م الموافق لذكرى الإسراء والمعراج، وقد تضمنت بنود المعاهدة هاته التي سميت ب “صلح الرملة” أن تسلم المدينة مقابل أن يرحل منها كل اللاتين غير العرب الذي استوطنوها بعد الغزو الصليبي، وأن يكون رحيلهم في غضون 4 أيام، وأن يكون لهم جميع ما يملكون من نفائس وأموال، وذلك نظير فدية مقدرة ب 10 دنانير للرجل و5 دنانير للمرأة وديناران لكل طفل.
لقد أعاد صلاح الدين الاعتبار للأماكن المقدسة المسيحية وأعادها للروم الارثوذوكس، وجدد سور القدس كما عزز التواجد العربي بالقدس من خلال استقطاب بعض القبائل العربية لإعمارها بعد أن انخفض سكانها جراء خروج الصليبين منها.
وبعد صلاح الدين توالى أبناؤه وأحفاده على حكمها، لكن الصليبين لم ييأسوا من العودة إليها، فكان لهم ذلك بقيادة ملكهم فريدريك الثاني الألماني وبقوا فيها مدة عشر سنين ونصف، ثم استردها منهم أمير الكرك ناصر الدين داود، وبعد ذلك استولى عليها الخوارزميون الذين ما لبثوا أن أخرجوا منها سنة 1247م، فدخلها الملك الصالح فأمر بإعادة بناء أسوارها وبذلك استظلت القدس مرة أخرى بالحكم العربي، فعاد إليها سكانها من المسلمين والمسيحيين العرب والروم فاسترجعوا كل أملاكهم، لكن الخطر الصليبين ما عتم أن أطل مرة أخرى بقرنيه، فاستطاع الصليبيون فتح القدس مجددا في عهد هنري الثالث ملك إنجلترا، ومكثوا في فلسطين إلى أن جاء الغزو المغولي الذي فتك بأهل القدس وأشاع فيها الخراب، ثم قيّض للمصريين مجددا أن يفتحوا القدس وذلك بعد أن ألحق القائد المملوكي الظاهر بيبرس الهزيمة بالمغول، وبالرغم من كل هذا لم يستطع الصليبيون أن ينفكوا عن حلم العودة إليها، لكن الفشل كان حليفهم، بل الأكثر من هذا أن السلطان قلاوون نجح في إجلائهم عن الشام سنة 1291م، وبذلك تكون صفحة الحروب الصليبية قد طويت بعد أن عمرت 177 سنة كاملة وكلفت العرب حوالي مليون شهيد.
إبان عهد المماليك زاد عدد اليهود في القدس بسبب تساهلهم معهم، كما أنهم عملوا على تقريب المسيحيين الارثوذوكس، وخاصة الروم منهم لرغبتهم في توطيد علاقتهم مع ملوك القسطنطينية كي يسمحوا لهم بعبور مضيق البوسفور إلى القوقاز بهدف تجنيد الجيوش المملوكية. ومن أبرز الأمراء المملوكين الذين دانت لهم القدس نذكر عز الدين أيبك زوج شجرة الدر، وسيف الدين قطز (1259م) والظاهر بيبرس (1260م) الذي خلصها من نير المغول، فزارها مرتين وأنشأ بها مدرستين وأعاد ترميم مسجد الصخرة، كما قام بحماية المقدسات المسيحية بها.
وفي أواخر أيام دولة المماليك الثانية، اضطربت أحوال المدينة على جميع الأصعدة، فحدثت قلاقل بين العرب واليهود، ثم اشتد أوار الصراع بين المماليك والأتراك، فاستطاع هؤلاء الاستيلاء على الشام ومصر بقيادة السلطان سليم الذي دق آخر مسمار في نعش المماليك، فأصبحت بذلك القدس تابعة للدولة العثمانية.
استولى العثمانيون على مدينة القدس عقب انتصارهم في معركة مرج دابق في شمال سوريا وذلك سنة 1517م في عهد السلطان سليم الأول الذي إمتاز حكمُه بالعدل والتسامح والمساواة بين الأديان، يدل على ذلك إشراكه لجميع الطوائف في الحكم من خلال إنشاء مجلس إداري وآخر بلدي، يضمان في عضويتهما المسلمين والمسيحيين واليهود.
أما ابنه سليمان القانوني (1520م 1566م) فيرجع اليه الفضل في تعزيز مكانة القدس فرمم أسوارها الموجودة حتى الآن، كما قام بإصلاح شامل لقبة الصخرة وأولى عناية كبيرة للمنشآت المائية وصيانتها، وإضافة إلى حرصه على رعاية المسيحيين، أقدمت زوجته “خاصكي سلطان” الروسية الأصل على إنشاء مؤسسة خيرية (تكية) سنة 1551م تعنى بشؤون الصوفية والفقراء والطلبة، وهذا كان تعزيزا للوقف الإسلامي الموروث عن الأيوبيين والمماليك.
أما إداريا فكانت القدس تابعة – خلال عهد العثمانيين- لولاية دمشق، ويتبع لها الخليل والقرى المجاورة، ويحكمها أمير يسمى “حاكم اللواء”، وهذا المنصب كان مقصورا على الأتراك العثمانيين، وحاكم اللواء هذا كانت له مهام عسكرية بالأساس وكان له نائب يسمى “الكيخيا” وكاتب يسمى “يازجي”، أما تركيبة الجنود فكانت تتكون من الفرسان الإقطاعبين “السباهية”، يرأسهم الميرالاي، وقوات الشرطة ويرأسها “السوباشي” والإنكشارية ويرأسهم “الأغا”.
في حين كانت السلطات المدنية منوطة بالقاضي الذي تعينه إسطنبول ويشترط فيه أن يكون تركيا وحنفيا على اعتبار أن المذهب الحنفي كان مذهب الدولة الرسمي. وينضاف للقاضي ثلاثة شخصيات دينية نافذة في القدس وهم: المفتي ونقيب الأشراف وشيخ الحرم، وهم ثلاثتهم مقدسيون ويعينون من طرف السلطان.
واللافت في الأمر أن الحياة الاقتصادية انتعشت في المدينة خلال عهد العثمانيين، خاصة ما تعلق بالصناعات الغذائية والمعدنية، أما النظام الضريبي فشمل الأراضي الزراعية وأنشطة البيع والمواشي والصناعة، علاوة على الجبايات الخاصة بالجزية التي كانت مفروضة على أهل الذمة من المسيحيين واليهود، إضافة إلى رسوم السياحة الدينية كالحج وزيارة الأماكن المقدسة. غير أن بوادر الضعف بدأت تدب في جسد “الرجل المريض” (الدولة العثمانية) منذ الثلث الأخير من القرن 16م بسبب ترهل النظام الإقطاعي الذي كانت تقوم عليه الدولة، والذي تأثر بتراجع وتيرة الحروب التوسعية وقلة المداخيل والغنائم، ناهيك عن التحولات التي مست أسواق التجارة العالمية آنذاك على إثر اكتشاف أمريكا والطريق البحري الموصل للهند وتراجع أهمية آسيا على خريطة الطرق التجارية.
كل هذه الأسباب متضافرة أسهمت في إشعال فتيل الثورات ضد النظام العثماني خاصة من لدن الفلاحين في تركيا وباقي إيالاتها، فكان ذلك بداية لاهتزاز صورة النظام ككل، وقد مثلث هزيمة الأتراك أمام أعضاء الحلف المقدس في معركة “ليبانتو” سنة 1571م، أول ‘نذ‘ر هذا الاهتزاز ، وتوالت بعد ذلك هزائم العثمانيين العسكرية أمام النمسا وحليفتها روسيا. فأذعنوا لعقد صلح كارلوفيتش سنة 1699م وخسروا بموجب ذلك أجزاء كبيرة من الأراضي التي كانت تابعة لهم. وقد زاد هذا التضعضع من أطماع الدول الأوربية التي هرعت إلى فرض تنازلات على الأتراك، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا التي حصلت على حق تمثيل المصالح المسيحية وقدمت نفسها كحامية للكاثوليك، أو روسيا التي نصبت نفسها مدافعة عن حقوق الارثوذوكس، وفي الوقت الذي استعرت فيه الجبهة الخارجية من خلال توالي الحروب مع الأوربيين عادت الجبهة الداخلية لتصطلي بنار الثورات المسلحة.
كان قدر القدس أن تعيش مآسي هذه التحولات، فاكتوى سكانها بظلم الحكام الأتراك من قبيل أحمد باشا الجزار – حاكم عكا- الذي أذاقهم بكل أطيافهم الدينية (مسلمون، يهود، مسيحيون) ألوانا من العذاب حتى اضطر الناس إلي بيع أبنائهم كعبيد في الأسواق، والأمر نفسه بالنسبة لمصطفى باشا الذي أثقل كاهل المقدسيين بالضرائب والعسف الذي لا يطاق، فكان أن اندلعت الثورة سنة 1824م بزعامة أحمد أغا ويوسف عرب واللذين عززا لحمة التعاون بين المسلمين والمسيحيين فتمت إزاحة الحاكم التركي وجنوده، وقابل السلطان محمود انتفاضة القدس بتوجيه أعداد كبيرة من عسكره لاستعادة المدينة، فتم له ذلك بعد استسلام الثوار لكن هؤلاء نجحوا في تحقيق بعض المكاسب المهمة نظيرا إعلان العفو العام وإلغاء الضرائب والحد من تدخل الجنود في تسيير شؤون المدينة.
وتجدر الإشارة إلى أنه ومع إطلالة القرن 17م ضاق المقدسيون ذرعا بالظلم المسلط عليهم من طرف الحكام الأتراك الذين أتقلوا كاهلهم بالضرائب فانتظموا في ثورة قادها نقيب الأشراف “محمد بن مصطفى الحسيني” ودامت زهاء سنتين تمكن خلالها الثوار من مهاجمة القلعة وتحرير السجناء، لكن الأتراك سرعان ما جهزوا قواتهم الانكشارية بالعدة والعتاد وتمكنوا من اقتحام القدس سنة 1705م، فاعتقل نقيب الأشراف وأ‘رسل إلى اسطنبول لينفذ فيه حكم الإعدام سنة 1707م.
وإبان عهد السلطان سليم الثالث (1799م) قاد “نابليون بونابرت” الحملة الفرنسية التي وصلت إلى مصر، ومن بعدها تم غزو يافا والرملة، لكن القدس سلمت من هذا الغزو لأنها لم تكن في صلب المخططات العسكرية الإستراتيجية المتبناة من طرف نابليون. ومع منتصف القرن 19م بلغ من ضعف الدولة العثمانية أن استطاع محمد علي حاكم مصر الاستيلاء على القدس سنة 1831م، فولى عليها ابنه إبراهيم باشا الذي استطاع مباشرة عدة إصلاحات في المدينة بالرغم من القلاقل التي حدثت بالمدينة بتحريض من الأتراك، إلا أن من حسناته أنه أسكن عددا من العرب بالقدس وساوى بين أتباع الديانات الثلاثة (الإسلام، المسيحية واليهودية)، كما أجهض خطط اليهود التي كانت تستهدف السكن والتملك في أراضي القدس، أو حتى تلك المتعلقة باستئجارهم لخمسين فدانا و200 قرية بفلسطين لمدة 50 سنة. (بحسب ما ذكره اليهودي الانجليزي السير حاييم مونتفيوري).
وتشاء لعبة المصالح والحسابات السياسية أن تعود القدس إلى الحكم التركي بعد أن تدخلت الدول الأوروبية في أتون الصراع المحتدم بين محمد علي والأتراك، فاضطر الجيش المصري إلى الانسحاب من الشام ككل سنة 1841م بعد عشرية من الحكم، وبناء على ذلك استعاد السلطان عبد المجيد القدس، وعمد إلى إصلاح الحرم الشريف وتوسعة المدينة خارج الأسوار القديمة.
وعلى الرغم من الانجازات التي استطاع السلاطين الأتراك تحقيقها في القدس على مستوى العمران وإصلاح الأسوار والمنشآت الدينية والمرافق العامة، إلا أن بداية انهيار الدولة انعكس على المدينة ومستقبلها على المدى البعيد، فمن جهة استفاد المسيحيون من نظام الامتيازات الأوروبية الذي رعته قنصلياتهم المحدثة في الإمبراطورية الآيلة للسقوط، وكذلك الشأن بالنسبة لليهود الذين استفادوا من الخريطة الجديدة للعلاقات الدولية آنذاك، والتي أرغمت العثمانيين على التساهل معهم وحسن معاملتهم. وهكذا استطاع مونتفيوري الثري اليهودي الانجليزي انتزاع فرمان من الحكومة العثمانية سنة 1840م يقضي بحماية اليهود ويضمن لهم حرية معتقدهم الديني، فتم الاعتراف من قبل العثمانيين بالحاخام السفارادي الأكبر “الحاخام باش” رئيسا للطوائف اليهودية في دولة آل عثمان، واعتبار القدس مقرا له بصفته رئيسا وممثلا لكل الأطياف اليهودية في فلسطين، وبناء على ذلك رسخت الجالية اليهودية وجودها وثبتت أقدامها في القدس خاصة وفي فلسطين عامة، وهو ما حفزها على توطيد وتعزيز وجودها بالقدس من خلال شراء الأرض واستيطانها خاصة بعد الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في روسيا القيصرية وبولندا (1881م) فكان موسم الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، وبحلول سنة 1912 بلغ عدد الجالية اليهودية القاطنة بالقدس 48 ألف لتشكل بذلك النسبة الأكبر في النسيج السكاني لها.

……………. يتبع

علي كرزازي
*من مواليد: 1967م
*حاصل على دكتوراه في الآداب سنة2010 في موضوع:” شعرية الاغتراب الصوفي بالأندلس: ابن عربي نموذجا”
وعلى دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها سنة1998 في موضوع:” الشعرية العربي بين المركز والهامش: أبو نواس نموذجا”
*له: عدة مقالات نقدية وقصائد شعرية منشورة
* معد لبرامج إذاعية ثقافية
*عضو اللجنة الموسعة لأكاديمية المملكة المغربية المشرفة على جمع دواوين موسوعة الملحون.
• المحمول:0684704536
• الايميل:kkarzali@gmail.com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د.صالح جواد الطعمة : مركزية القضية الفلسطينية في قرارات اتحاد الادباء العرب:1954-1997/الحلقة الثالثة .

المؤتمر الثاني عشر1979 دمشق … والـمـخـاطـر الـتـي تـواجـه الامـة، مـن مـجـمـل الـمـشـاريـع الـتـآمـريـة الامـبـريـالـيـة-الـصـهـيـونـيـة-الـرجـعـيـة، وفـي …

| زيد شحاثة : توازنات ما بعد حرب غزة .

من السهولة القول أن الصراع العربي الفلسطيني ومنذ عشرات السنين, لازال يراوح في محله تقريبا, …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *