حين يتوهج الشعر
قراءة موجزة لديوان ( توهجات مترامية الأطراف ) للشاعر هشام القيسي
نزار السلامي
لفد كان الشعر وسيبقى في مقدمة فنون الأدب الأنساني ، والذاكرة الأبداعية لجميع الأمم الراقية في ماضيها وحاضرها ، والعلامة التي تشغل المساحة الكبيرة في التلاقح الأنساني في شتى مناحي الحياة ، وتبث الروح فيها ، وتحيل ظلامها الى ضياء ساطع منتشر على فضاءات واسعة من الكون .
وقد أطل علينا زميلنا الشاعر المبدع هشام القيسي مؤخرا بديوان جديد أسماه (توهجات مترامية الأطراف) ، ضمنه باقة من القصائد التي حبكت صورها بعناية فائقة ومكثفة ، بعيدا عن الرتابة والتقليدية ، صاغها بعد أن اتكأ على خزينه الثقافي الكبير ، واعتمد على قريحته الشعرية المتوهجة في آن واحد ، على وفق لغة عذبة هامسة ، تبعث في الحزن جمالا ، وتحيل العتمة ألفا ونورا ، ورؤية عميقة ، واسلوب نابض ، متمسكا بثوابت استحقت التقدير ، سواء اتفقنا معه في رؤاه ، أم اختلفنا ، مادامت قصائده داخل المشغل الأنساني وهمومه ، عبر لوحات وجدانية ، سجل خلالها موقفه الأنساني الذي يؤمن به .
وقد عرفنا القيسي شاعرا يسعى دائما لتقديم نتاجات شعرية مبتكرة ، لاتبعث على الملل ، ولاتقع في شرك الرتابة وشح الخيال ، يشد القارئ ويجذبه ، عبر لغة رشيقة ، يوظف من خلالها ما يشعر به ، يجيد فيها لعبة الكلمات جيدا ، فيختار منها ما يناسب الصورة الشعرية ، وفقا لمزاجه الفكري ، وحضوره الوجداني ، ومقتضيات الظرف في الزمان والمكان ، ينحاز أغلبها الى الأنسان كقيمة مطلقة ، تستصرخ الضمير البشري ، لمعالجة محنته وعذابه ، أيا كان موقفه ، وهذه ثيمية جوهرية في أشعار القيسي .
والأهم في كل ذلك ، ان القيسي يتمتع بقدرة شعرية فائقة ، تخضع لمعارفه وقدراته وخبراته المتراكمة ، في التكنيك الفني عند كتابته للقصيدة ، ويتجه في صياغتها باتجاه منظور علائقي ظاهراتي ، يتميز بالتماثل والتضاد والأنسجام والتنافر والقبح والجمال ، على وفق اسلوب لا يخلو من الجانب الأبتكاري الخلاق ، مبثوثا بهذه الصورة أو تلك ، وبهذا القدر أو ذاك ، أضاف الى بيدر الشعر اضافات تتسم بالصدق في التجربة ، من حيث قراءته لمشهد الحدث ، وفق انزياحات صورية ، وتوليفات مستوحاة من كينونة واقعه ، عبر عنها بنصوص مدهشة بمضامينها ، تجعل المرء يسبح في فضاءآتها العميقة ، والتي لا يمكن التوصل اليها أحيانا عن طريق التحليل الأدبي وحده ، بسبب غرائبيتها ومفاجئاتها والنقاط الدالة التي تحملها ، والتي تضيء ببطء ، على نحو غير متوقع ، عبر مهارة عالية في الوصف ، بحيث يجسد من خلالها الأشياء على وفق مرآة عاكسة صادقة لها بكل تفاصيلها.
ففي قصيدة ( بصدى القلب وبهذا الركام ) نجد ما هو عبارة عن محاورات في الذات الأنسانية ، تتجسد بالمماحكة الحسية والروحية في عوالم تتصف بالألم المنبعث من الحياة ، صيغت بكلمات معبرة عن المكنون البشري المتجسد بالجمل المطلية بالحقيقة :
( من منكم يعلم ان العشق يلامس بقية الأيام ؟
ومن فيض قصصه الراهنة يمضي ملهما
توردا
يشدو ما تبقى في نشيد الأحتراق ،
سأقول لكم
انني أتكلم
وعلى كل باب أنهمر صرخة
تعود الى فصل عاشق بانبهار
وفي صبح من وراء الجدار
يقوم الزمن لتهتف الأزهار
وتتعرى امام المرآة الحكايات
كي تخضر الطفولة
وتتنزه الأقدار ) .
وقد استوقفتني كثيرا ، قصيدة ( حيث ينزف الصمت ) ، إذ تجلى فيها فيضا روحيا وفراقا ، ينساب من وجدان ، عبر لحظات تزخر بالهدوء ، تتشكل من خلالها صورا من الفرح والحزن في آن معا ، فهي موغلة بالعمق ، ولا يستطيع سوى الشعر أن يعبر عنها ، مما يجعل المتلقي يتأملها ، وبذل الجهد لقراءتها بشكل دقيق ، وفهم ما وراء كل كلمة من معان ، أراد لها الشاعر أن تكون كذلك :
( تلوح لي همومي
من أقصى صحف المستحيل
قبل أن تخلع رأسي
أذهب الى تسكع جميل
لأعود من ماض
غسل وجهه متأخرا
في مملكة المستقبل ،
وأذهب الى خلجان المدن المجروحة
لأكتب اسمي على مدينة
تغور في جسدي
دون أن تقتحم
طعنات الذكريات المهجورة) .
ونجد ان الشاعر ينشد بشكل صميمي للوطن ولشعبه ، بجميع جوارحه ، حتى يصبح هاجسه الأكبر ، ويتجلى ذلك في قصائده التي كتبت بتوتر انفعالي قوي وصادق ، يستشرف القادم من الأيام ، التي يكون الوطن معافى من كل داء :
( سلاما (( شعب الجبارين )) ،
سلاما وجه الأرض
سلاما أيها الزمان
الذي لا ينسحق
ولا يحترق ،
هو ذا الوطن يرعب
مملوء بالعيون
والحجر
يشمخ اليوم
جديدا عاشقا مفاطعا الحفر ).
وفي قصيدة ( أوراق من مفكرة طبيب أرجنتيني ) يواصل الشاعر تناغمه الإنساني مع قضايا العصر وارهاصاتها الدالة ، عبر معان دالة بليغة يعكس من خلالها صورا شعرية جميلة ، تترابط مدخلاتها وأواصرها على نحو قيمي أخلافي :
( أحس الغربة
ولا أريد أن أستريح
على وجهي النازف نافذة
من نجمة لا تسأل
ولكن توقظ العيون
والأنتظار الجريح ،
أنا أقرب مني
وأحلى من هوى ملتهب
عندما اغادرها بقصيدة حب
تمتد بيني
وبين الأبعاد
تبقى في كل غد
لنغني معا في الطريق
كيف يغني اليقين
وتعشق الأوراد ) .
وفي قصيدة ( السر ) التي صيغت بلغة تتشظى بشكل لا محدود ، لا تستطيع أن تقول في الظاهر ، كل مايمكن قوله ، بل نجدها تضمر معناها وراء القول المعلن ، لتنزاح في سديم يرهن باستمرار فضاء خاصا لشبكة مشككة من دول الأشياء والكلمات ، يغوص في المسكوت عنه ، ويظهر ما كان محظورا بخطوط حمراء في حقبة ماضية :
( أبيت أم شئت
طرقت أم مت
سر عميق يكتم أنفاسي
يكاد عند أبواب الصمت
يقطر في السنين المفترسة
ثم يخمن كيف تكون الأوجاع
وتعدو تراكمات
على امتداد الدورة الحائرة
ملامح نديم يندب المنافي الغريبة في احتمالين
ويقرأ البدء ما بين عشق يتنفس
وسهر يسعى لهمس خلف ظلال الشجر
وفي كل فصول السنة يغدو رغبة تنبئني بألم هذا الفلب
أهكذا تشتكي صفحات القطر
لترخي بقية العمر !
كانني أعدو خلف الأيام المخمورة
لأبدو بقية تختبر العشق
وحرقته ) .
لقد كانت هذه المجموعة بحق ، واحدة من روائع الشعر التي ألفناها في مجاميع شعراءنا المبدعين المعاصرين في كركوك وخارجها ،حيث جعلتنا بعد أن طوينا آخر صفحاتها ، نستعيد ما تركته في أعماقنا من أثر وشجون ومتعة ،حيث تمكن القيسي فيها ( وهذا ديدنه دائما ) من الحضور في المشهد الشعري بشكل جلي ، ليس كحضور فحسب ، بل كحضور مشع وفاعل ومؤثر ، وستبقى كركوك ديمومة في الأبداع والمبدعين ، وفي مخاض مستمر تنجب لنا في كل وقت فحولا من ادباء ومثقفين .