ليس مألوفاً أن يصبح كائن حي غير الإنسان بطلاً لرواية ، لكن كلب الصيد “بيم ” فعل ذلك بالاشتراك مع صاحبه ” ايفان ايفانيتش ” . فقد صيّرهما الروائي “جافريل تروبيولسكي “بطلين لروايته “كلب الصيد الأبيض ذو الأذن السوداء ” التي كان قد حصل عنها على جائزة الدولة في الاتحاد السوفييتي السابق ، وترجمها الدكتور عبد الواحد محمد عن الانكليزية وصدرت عن دار المأمون عام 1985 . جاءت الرواية في 268 صفحة من القطع الكبير ، في سبعة عشر فصلاً يحمل كل منها عنواناً خاصاً به.
كان كلب الصيد بيم مشكوكاً بأصالة نسبه لكن الصياد ايفان ايفانيتش تبناه وصار رفيقه الدائم في بطولة الرواية ، بل انه انفرد بالبطولة في المدة التي غاب فيها صاحبه عن الأحداث لسبب قاهروظل كذلك حتى أواخر أحداث الرواية حيث انتهى نهاية مأساوية . يتواصل السرد على لسان الراوي وهو الروائي نفسه ، تتخلله أحيانا صفحات ترد تحت عنوان ” من مفكرة سيده ” أي صاحيه أو مالكه وفيها يستعير الروائي صوت ايفان ايفانيتش ويتحدث به ، متقمصاً شخصية الصياد الذي تبنى كلب الصيد وعلّمه ودرّبه حتى كانت ثمة لغة متبادلة بينهما : “وابتدأ الصديقان يفهم أحدهما الآخر أكثر فأكثر وزادا ولعاً الواحد بالآخر وعاشا كرجل وكلب على قدم المساواة ” ( ص 20 ). يقول إيفان : ” في الشهور القليلة المنصرمة وفي غفلة من الزمن ، جعل بيم من نفسه قطعة من حياتي ” ( ص 15 ) وازدادت الإلفة بينهما بعد أن كبر وصار يأخذه في رحلات الصيد وعلّمه عدة كلمات وصارت بينهما لغة تخاطب مفهومة من الطرفين ، كان بيم يؤدي بموجبها ما يطلبه منه صاحيه الذي كان يعيش وحيداً بعد رحيل ابنه وزوجته وكان يعاني من وجود شظية في صدره وساءت صحته بسبب ذلك وتم نقله إلى المسنشفى فواجه بيم أكثر من محنة خلال فترة غيابه التي طالت وكان عرضة للطرد والاعتداء والتحريض ضده واتهامه بأنه مصاب بداء الكلب أو أي مرض معدٍ ، لكنه استطاع أن يفلت منها .
ظل بيم يعيش زمناً في أجواء المدينة قبل أن يتم نقله إلى الريف حين قام سائق مركبة ببيعه إلى راعٍ للأغنام وبذلك القى الروائي الضوء على الحياة في المدينة والريف معاً من خلال التوقف على طبيعة الحياة الاجتماعية والعيش وأنماط البناء فيهما مع الإشارة بحس نقدي سلبي إلى المزارع التعاونية . كان بيم ينعم في الريف بحياة لم ينعم بمثلها في المدينة لا سيما في ظل غياب صاحبه وقد صار في عهدة راعي الأغنام الطيب خريسان أندريقتش ، وأطلق عليه اسم ” سويد ” ولقي رعاية من زوجته وابنه أليوشا ،كان بيم يتناول طعامأ جيداً هناك ” وما لبث أن ألف الباحة وساكنيها كما ألف حياة الرغد التي كان ينعم بها ” ( ص 169 ) ، غير أن رجلاً شريراً اسمه “كلم ” استعاره ليصحبه في رحلة صيد لكن الرجل لم يكن مؤهلاً لذلك ففشل في مهمته فكان على بيم أن يتحمل تبعة ذلك الفشل فقرر أن يهرب عائداً إلى المدينة وكان قد تعرض إلى الكثير من المتاعب وأنتهى به الأمر إلى أن يتم حجزه في سيارة خاصة بالتقاط الكلاب الضالة بوشاية من جارة متغطرسة ، شريرة تدعى ” الخالة ” .
لقد تعامل الروائي مع هذا الكلب مثلما يتعامل مع انسان حتى ليبدو كأن الكلام الذي يدور معه كأنه يدور بين رجلين وليس بين رجل وكلب على درجة عالية من الذكاء والفطنة والى الحد الذي يجعل المرء يعتقد أن بيم هذا تم توظيفه بدلالة رمزية ، وأن التوق للحرية يشكّل ثيمة أساسية في الرواية ومن خلال بيم بشكل خاص . فقد كان يضيق ذرعاً من وجوده داخل شقة صاحيه ويتوق إلى الخروج منها والتنزه في الخارج وحين أخذه خريسان اندريفتش إلى سكنه في الريف” كانت عينا بيم تتوهجان حمرة وكان بدنه ينتفض عصبية ً…. فيما بعد جرى حول الباحة والقلق يلوح عليه، وفي النهاية توقف عن الجري وخربش على البوابة فيما صوّب بصره إلى وراء نحو خريسان ” ( ص 170 ) وكأنه بقول دعني أخرج إلى الفضاء.فقال الرجل” حتى الكلب يريد الحرية “. ويصف إبفان كيف وجده في السيارة المخصصة لإلتقاط الكلاب الضالة فيقول : ” كان بيم ممدداً وأنفه لصق الباب . كانت شفتاه ولثته مشققة بحافات المعدن المسننة . وكانت أظفار براثنه الأمامية ملطخة بالدم . من المحتم انه كان قد خربش على هذا الباب الأخير لوقت طويل جداً حتى الرمق الأخير . وما أقل ما كان يطلب الحرية والثقة فقط . لاشيء سواهما قطعاً ” ( ص254) .
يضع الروائي ثقته بالجيل الشاب ممثلاً بتولك وأليوشا اللذين واصلا البحث عن بيم وكأنهما يواصلان البحث عن الحقيقة ، فضلاً عن العامل الشاب في مفرزة التقاط الكلاب الضالة وقد بدا متعاوناً بالإضافة إلى عمال البناء الذين تعاطفوا مع بيم والعجوزستيبانوفنا جارة ايفان التي كانت ترعاه وظلت ترعى كلبه في غيابه ، وفي المقابل يدين سلوك ” الخالة ” المتعجرف وتشبثها بادعائها بأنها سوفييتية ، فضلاً على إدانة سائق المركبة العمومية الذي رفض صعود بيم إلى مركبته بادىء الأمر لكنه وافق عندما اعطاه إبفان ورقة نقدية رشوةً ثم ادانته مرة ثانية عندما ادعى بأن بيم يعود له وباعه إلى راعي الأغنام خريسان ، وثمة اشارة إلى
في الرواية إشارة إلى ما تفعله الحرب اذ كان ابن ايفان قد قتل فيها فضلاً على كونه هو نفسه بحمل في صدره ــ فرب قلبه تحديداً ــ واحدة من شظايا الحرب .وثمة اشارة خفية إلى معاناة النسوة العاملات في المزرعة التعاونية وهن يقمن بتنظيف رؤوس الجِزَر هناك . كان الجو قارصاً ” أقبلت نحوهم المرأة التي كانت جالسة تشتغل وحدها .كانت شابة ولكنها بالغة النحافة ، وقد شكت من شيء ما وتمخطت وجلست إلى جانب بتروفا وأرتهم يديها. فارتها بتروفا يديها أيضاً. وبحزن ضغطت المرأة قفازها المشمع ذا الاصبع الواحدعلى صدرها وصمتت (ص 179 ) ، ربما لأنها تعرف بأن لاجدوى من شكواها التي لن يسمعها أحد .
روايات مترجمة: (9) كلب الصيد الأبيض ذو الاذن السوداء
(من الأدب الروسي) جافريل تروبيولسكي
ترجمة: د.عبد الواحد محمد
قراءة: ناطق خلوصي
تعليقات الفيسبوك
مقالة جميلة حقاً. أذكر أن لي قصة مع هذه الرواية فقد أعجبتني لكني تركتها لسبب سوف أوضحه. أذكر كذلك من الروايات التي بطلها كلب هي رواية جاك لندن (الناب الأبيض). رغم أن الجاحظ، من بصرتنا، كان ربما أول من كتب مفصلاً عن الحيوانات، إلا أن الأمر الآن للغربيين في التفصيل في ذلك نجد التقارير التلفازية، بل القنوات المتخصصة. وما هذا الفهم العميق لحياة الحيوانات سوى إمتداداً للفهم الحقيقي لنفسياتنا نحن البشر. كنت قد كتبت لماذا تركت قراءة هذه الرواية في مقالة نشرتها في (مركز النور)، وتجد رابط المقالة ادناه، والسبب أن احدهم سخر مني باعتباري (بطراناً) لاني اقرا رواية بهذا العنوان. شكرا للكاتب (ناطق خلوصي) لانه اعاد تذكيرنا بهذه الرواية التي ربما ارجع لها واكملها الان بعد عشرات السنين من تركي لها. رابط مقالتي:
http://www.alnoor.se/article.asp?id=370372