يقين يتناسل في مواسم الاسرار
قراءة في ديوان (( اشارة لعالم الرماد )) للشاعر هشام القيسي
محمود سليم
منذ ان دهمه الشعر في نهاية الستينيات , وتحديدا عام 1969 , عانقته اتجاهات مسكونة بفكرة التطلع الحي , وكانت هواجسه في هذا مبررة . ويبدو ان وعيه الفلسفي والثقافي قد اتى اكله في نتاج آت وهو لم يزل في بداياته الأدبية . ( أعرف اسمي في خارطة اللغة
وأنا في لون المشهد
أتغرب سحابة داخل المغفرة ….. ) (1)
وبذلك فقد امتلك مصادر قوة رفدت موهبته الأدبية . ومحاولتنا في هذه القراءة تعتمد قدر الامكان على افكاره وموضوعاته في شعره , وهي بالضرورة لا تشكل صورة وافية لنتاجاته قدر ماتقترب منها .
ان فرز الحقائق والروى الإنسانية في حشد أشعاره تلعب دورا كبيرا في كشف اتجاهاته الحياتية والاخلاقية . وانسيابيتها . بداية هو يعاني بنفس القدر الذي عاناه جيله إزاء الرؤيا وذبذباتها وآفاقها الوسيعة , مما أيقض في نفسه وذهنه مساحات حكمت توازنه , ودفعت به الى ان ينحو صوب سلم تطوري استدلالي . وبروح تواقة للبحث والتمرد أيضا .
( قرأت أبراج الوقوف . على وشاح الصمت
يزهو سعير المجهول
وتئن أقاليم الذهول
اعرف الزوايا المخصبة
بأسماء المواعيد
تعد النذور
واعرف الأشعار
وحرب المرور ) 0(2)
يخيل لمن يقرأ أشعاره لأول مرة بأنه يلامس السريالية لكنه غير ذلك , حيث ان أسلوبه وشاعريته تتسم بالإتقان والتناغم ووحدة الموضوع , رغم ثراء صورها وتعددها في بعض الحالات :
( جور الروح تقايض حاضري
ايتها الارصفة في طوفان الجهات ,
في اعمدة الوهم ابحث عن مملكة
تصرخ قربي )0 ( 3 )
هو يجمع الفكر والادب واللغة وبدراية في اسرار اللغة وجماليتها , ومن يقرأ شعره يحس من خلاله تميزا عن اقرانه , حيث المعنى البليغ والخيالية المتألقة ,وفيضها باللوان تنطوي عليها جوانحه :
( توحدت فيك ,
وتوحد في الذي حل بي
فأنت نبعي
وصبحي
وانت منفاي
والذي غدا حضورا … ) 0(4)
انه شفاف , رغم ما تتفاقم في اشعاره فخامة لغوية وصور إبداعية , ترتكز على دوافع نبيلة , منحته مشاعر واجواء واعدة , عاشقة للحياة :
(أودعت أرصفة الوجه
في شفره
ودارت بي حسرة
ودرت بها علامة
بين النعاس والسفر
تركت سرا
لم تسلخني من قبل امرأة ) 0(5)
ان قصائده تنبئ عن عمق والفة , وود يستعيد الى درجة كبيرة طاقة عاشقة متنامية بمتتاليات تمتلك روح الصفاء والوجد :
( هو ذا الصحو
من رهبة الرؤيا
يبس يذر
ومن صليب الدمع
جسد يبارك المسافة ,
هو ذا البحر
شهادة تصعد
وضلمة تدور
بين العشب والموجة
عرس يطفو
وحافة ترش الحضور … )0 ( 6 )
والى جانب ذلك , فهناك تصويره المدهش على نحو يثير الاعجاب في انبجاس موضوعات قصائده وبمهارة واضحة . انظر قصيدة ( الشاهد) ذات المحتوي و البناء الجميل , وما تحمله من ولاء وشهادة وتواصل , اضافة الى قابليته على التقاط الصور الحياتية , الداخلية والخارجية . وهي تطلعات واسفار للمستقبل بدلالة الحاضر :
( لست وهجي , وانت غصن الشواطئ
وخاصرة الظل .
الصلاة وجهي , والسفر زادي
ايها الأتي
خميرة العروق شهوة
وشرخ الضوء قطر )0 (7)
ان اتقان التلوين ,و انسابية الصور , وصياغتها , وتطويع الافكار لها , ونسيج وحدة الموضوع في قصائده تدل على عمق التجربة الشعرية لديه , وهي على وجه العموم استنطاق للاشياء بما يشيع الدفء في النفوس :
( اتوضا بوجهك حتى ابحر . التيه اول الرعد
والطفولة تشرب الظلمة ,
المدية في كل حرف , اعين الرحيل ,
حد الرهبة غبار المنفي ,
قالت السماء : انت الخارطة
قالت الأرض : انت النار
قال الألم : هذه الدار
وما تهجاه العشاق في الواحة
وعلى الثياب ) 0( 8 )
ومما يلاحظ على صورة الشعرية , استخدامه للمجاز والاستعارة , اضافة للمدركات الحسية , وبذلك جمع طاقة في معادلة اكسبت شعره دلالات وابعاد متنوعة , منحته حيوية في تجسيد احساسه الأنساني ، وتراه احيانا يتناول الرمز , ولاغرابة في ذلك حيث صخب الحياة وغرابة اسئلتها في مواجهة هدوء وسكون النفس والاتصال الروحي مع موضوعاته , ومنابعها :
( للذي وهب الخطوة امنح الشجر خارطة
تنبت في دمي
وتسبح ,
مابين الموجه والصحوة ازمان
وعذراء في مغادرة الحلم
وعند الاسماء
الى سواحل الحرف تطوف جزر الليل
الى افوا ه الرؤيا
تطوف القيثارة ,
وتزهو ) 0(9)
انه يمتلك خصوصية تبلغ الهدف , ويحتكر مساحات لها لونها , شكلا ومضمونا , يكرز لاتجاه شعري يشار له :
( عند باب الجوع
علقت في مواسم الصدفة
زفاف الايام
و
جسد الضوء الهارب
من شيخوخة التوبة ،
من يهب شراب الحكمة
اية مدارات تبكي
على حنجرة اللحن
وتتوقد ) 0( 10 )
ان قصائد ديوان ( اشارة لعالم الرماد ) تجسد صوتا قويا يرقى بالمعناة الذاتية الى مستوى المعاناة الانسانية ، وتمثل ادراكا لحدس الشاعر , بان الهيام قادر على التعاطي مع الاشياء , واسقاط مخرجاتها عبر مخيلته وذاته . وهنا يكمن سر حيوية شعره , وفنه الجميل بايحاءاته ودلالاته .
الهوامش :
من ( 1 – 10 ) اشارة لعالم الرماد ، الصفحات ( 2 ، 3 ، 4 ، 13 ، 16 ، 9 ، 18 ، 20 ، 23 ، 29 ، 38 )