إشارة:
يسرّ أسرة موقع “الناقد العراقي” أن تقدّم لقرّائها الأعزاء هذا الملف الأسبوعي الثر عن الشاعر العراقي المبدع “سعد جاسم” المجبول إنسانا وشعرا من طين فرات الديوانية السومري العراقي الحرّ.. كائن من شعر وموسيقى حمل هموم وطنه في المنافي وجسّد واكتوى بقيامته عبر الكلمة الملتهبة الصادقة الخلاقة. تدعو أسرة الموقع أحباءها القرّاء والكتّاب إلى إغناء الملف بما يتوفر لديهم من مقالات وصور ووثائق. وعلى عادة الموقع سوف يكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية لأن الإبداع الحقيقي لا يحدّه زمن. تحية للشاعر المبدع “سعد جاسم” .
أسرة موقع الناقد العراقي
لم أجد أجدى من الغربة نافذة أطل منها لقراءة (المتلفّت في منفاه) المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر المغترب سعد جاسم، هذا (المتلفت)، الجوّاب، المسافر الذي تقلبت به الخطى صوب مدن، ومنافٍ ،وهو القائل ( توزعت حياتي في مدن شتى) ،ها هو يفتش في محطات الغربة عن وطنٍ بعيد، يودُّ لو يعيد تشكيلهُ بالقصائد، تلك الغربة يرسمها الشاعر لوحة مؤطرة بالألم يجسدها استذكاره لبلاده، بكل تفاصيل عذاباته، مشفوعة باستحضار الأصدقاء، الطرقات، وكل نقطة دالة على الحنين لتلك البلاد البعيدة / القريبة ، وهو يتساءل هامسا في نص أهداهُ الى أحد أصدقائه (نخبكَ هل يكفي بالدمع؟أم بعصير الدم) وكأن تلك البلاد وكلّ مافيها لاتستحضرها الذاكرة الا وهي،منقوعة بالدم، إذْ ما عاد الدمعُ يكفي نخب هذا الحضور الذي يتلمسهُ( في مأتم الغياب)، وهذا لا يتأتى لهُ الاّ بالشعر المتشظي من قلبه ، وهو يشجُّ بأحرفه جراح المنافي، وبالأسئلة أيضاً
( ما ذا تعني الغربةُ التي نحسها في الداخل؟
وما معنى الغربة في الغياب ؟ )
يقف الشاعر في مواجهة ضعفه، ومَن أضعف ممن اتخذ الكلمة ليتمترسَ بها أمام مَن أحال الحياة الى غابة((ما أضعفنا نحن “المهووسون” بالكلمة، والفكرة، والموسيقى، والحلم ، والقصيدة))
هنا فقط يعلو الشاعر على وجعه، وهو يروّض غربته، ولا وسيلة لهُ في ذلك سوى الكتابة(الكتابةُ وطنٌ آخر يأوينا في تشردنا الفادح وفي غربتنا الشائكة) ، حيث يتلبسهُ المكان/ المنفى ووحشته ، ليتلو آيات من العشق، علّنا بذلك نستقريء همومه الخفية ومايكتنفها من ألم (وأنا- رغم الوحشة، ومخالب الذكرى، وحرائق الحنين- أربّي معكِ العصافير، وأزهار الظل وسناجب الألفة، ونلعب بكرات الثلج مع أطفال الشمس، حتى نطرد أشباح الضجر وكوابيس المنفى)
للأمكنة هناك التي ما انفكت تأسرهُ وتشدهُ اليها، وان ظلت المسافات الظالمة، تفصلهُ عنها ،ذاكرة جياشة موشومة بالحزن الدفين الذي لايكف عن وخزها ، لتجود بانثيالاتها شعراُ ولوعة ، وهنا يأتي الحديث مدفوعاً بايقاعات الغربة التي عادةً ماتغيب عنها الفنية في بناء النص ، حيث يقف الشاعر متألماً ومتأملاً تحت ضغط الشعر المفرِط، وفي لحظتها حيث يتنازل الشاعر(لا انتقاص من الشعر في ذلك) عن الفنية في نسج بعض نصوصه، والنزوع لِما يمكنهُ من الإستجابة لذلك الضغط/ والإنسياق لهذا الدفق الشعري وهو يتحدث عن هموم الوطن ونكباته.( (الحياة تتبددُ أكثرَ فأكثر ، والإيميلات تأتي كالحرائق من هناك) “نص حياة مفخخة”.
كيف يستطيع الشاعر أن يجعل من المنفى مكاناً يتوحد معهُ دون الشعور بالإنفصال الروحي عن وطنه الأم، على اعتبار إنَّ الوطن قريب اذ يستحضره بالشعر والوجدان. فالشاعر الغريب كثيراً ما ينزع لإستخدام مفردات الذكرى / المحطات / المسافات /الوحشة/ الحنين، ففي نص(نهرٌ لهُ مزاج البنفسج) يتمثل فيه الشاعرُ بالنهر بسريانه، بغبطته ، ووحشته وهو ينسابُ وحيدا(أنا ناصعٌ ومكتظٌ بالحنين والشجن،كلّما تحاصرني السدود، أغويها بخضرة السهول، وأهادن الصحراء بالندى) الى قوله(عندما يقفلُ الألمُ شراييني وعيوني، وعندما تخنق الوحشة قلبي الأخضر، أنبجسُ دافقاً) وبمفردة الدفق ودلالتها، يحقق الشاعر ذاته ويشبّه عطاءه بعطاء النهر ، الذي يحيل اليباب الى خضرة زاهرة،
الشاعر ليس باستطاعته أن يستحضرالغياب دن أن يمتح من لغته المتفجرة مفردات تشي بمشهدية الحضور أولاً في اللامكان، ذلك الحضور الذي يؤكده الوجود في مخيال الشاعر ليتعامل معهُ وكأنه حقيقي وهذا لا يتم الا بالشعر، فالعراقي يتحسس غربته لا كما يتحسسها غيره ،فتراهُ يتناول كل التفاصيل بشعر تلقائي، نمطي تجود به شكوى طافحة، حيث لايجسدهُ البوح الشفيف،مادام هذا الشعر يقلّب الواقع ومواجعه،وبما أن الغربة هي موضوعة نتناول تداعياتها هنا وهي هم الشاعروثيمة وجعه الرئيسة في الواقع الذي يحياه ، لهذافالواقع لايمكن محاكاته الا بالملموس، اما المتخيل فبدلالاته، فللواقع هذا صورة واحدة يعالجها شعريا بصورة ثابتة نسبياً، وللمتخيَّل صور لاتحصى، والشعر بطبيعته أكثر انفتاحا على المتخيّل، وتتحدد نافذة الشعر على الواقع، وقلّما نجدُ في الشعر تلازمَ الرمزي بالواقعي بعيداً عن المباشرة في القول،ومن النص(حياة مفخخة) الذي ذكرتهُ آنفاً وهو يتصفح بريد غربته(ايميلات اللوعة والإشتياق، إيميلات الإحساس بقسوة الغياب، إيميلات الحنين، ايميلات الضجر والفقدان ، ايميلات، ايميلات، ايميلات)
هذه اذن الغربة (على الرغم مما فيها من مباهج) أمست فضاءاً موحشاً ومكانا تتجلى فيه لوعة الشاعر وهو يتلفّت باحثاً عن الأمان (هل الحياة ُ مجرد ايميلات مفخخة، تأتي بالفواجع من هناك؟) سؤآل الغربة ليس كسؤآل الإغتراب، وهما يتنازعان في ذات واحدة، والنتيجة لا نعرف لأي من السؤآلين يكون الجواب الوحيد في زمن تداخلت فيه أصوات الغرباء ، وكا العادة لايفاجئنا سعد جاسم بغربته فهو واحدٌ من الأصوات الشعرية التي جاهرت بالغربة بلغة يانعة تستدعي آفاق الحضور في فضاءات الغياب الممتدة ،( أوووه يالهُ من مقلقٍ ومحيّرٍ، وتبدو عليه أعراض المنفى، ترى هل يمكن أن يشفى؟؟؟؟)،لذا ففي الغربة تبدو الحياة ثقيلة بالرتابة، ومريرة بكيفية التعامل مع هذه الرتابة، وللخروج ولو لبعض الوقت الى مساحة أخرى من مساحات الشعر الممتدة ، بعيدا عن شدّ الرتابة تلك، وثرثرة التعامل معها، لابد للشاعر من أن يوزع شعرهُ، أو يوزعهُ الشعر على مهيمنات تضغط بالخفاء، لاتخفي مداعباتها، أو مشاغباتها لقلب الشاعر وأحاسيسه الموزعة للبلاد، للأصدقاء ، للناس،
وهذه المهيمنات ،( المرأة، الحب،الكراهية ،وهموم أخرى تختبيء في ذات الشاعرلاقبل لقراءة موجزة أن تستكشفها ) لا يمكننا أن نغفل تلك المهيمنات أو نتجاوزها، وهي التي أجبرت الشاعر على امتداد مساحة الشعر(التي توزعت عليها نصوص المجموعة)أن ينساق اليها، والتي فجرّت لغتة ،وسرت بنصوصه الى تخوم الشعر الملتهبة، بالوجد والإشتياق، بلا انفعال فنراها تتداعى في روح الشاعر وكأنها لاتُنتزع منها الا بالشعر،هكذا يخرج سعد جاسم من منفاه ، وقلقه، وأوجاعه، ليستنطق قلبهُ في عفوية الشعر الشفيف، بمفردات مغرقة في البوح، وبمعان لاشك لافتة(أتذكرك بقوة) عنوان النص وكأنه يريد بهذا العنوان أن يفرض على ذاته الخروج الذي أشرتُ اليه، وصولا الى تلك الغائبة/ البعيدة ،ويؤكد كذلك رفضهُ للنسيان، واحتجاجه عليه، خاصة وهي امرأته التي مازالت حاضرة حتى في النسيان، والتي عادةً ماتذكره فيها بقوة (المرايا،الحدائق،)( وأغاني فيروز)، وعلى الرغم مما اختزنت روح الشاعر من مواجع، وأمنيات، الاّ أنهُ يتخلى بدراية معرفية عن الإثارة،ولحظتها التي تزج بالشاعركشاهد ،على ما يدور من حوله، ويتحول عن مشهديتها ويتوجه للتأمل ، (بعد أن أثقل روحه بهمومه، وتداعيات الغربة والمنفى) وبث ومضات دالة التعبير لمحاكاة العقل، برؤى تستقريء بهدوء(هذه الروح، لم تُخلق لتكون رهن اشارة الفم، هذه الروحُ، روح العالم)، انها دعوة لينهض بالروح من غفلتها وانجرارها الى مايجعل منها نهمة شرهة تذل صاحبها، أو تجبره لينساق في فوضى متطلباتها العارمة، وفي ومضة تأملية صوفية يرمم بها روحه المتعبة يناجي الله(كلّما أراك بقلبي، أشعرُ بفرحٍ خفيٍّ) وهي مناجاة لاتسوقنا بالضرورة لتهجدات الصوفي المعتزل ،المستوحد بربه، ، لكنها علاقة حتمية لذلك القلق ، الخائف المتلفّت.
.وسعد جاسم لايلجأ للغموض في طرح رؤآه، ،على الرغم من أن الغموض هو نتاج حتمي لكل مايدور حولنا من تشفير للحياة، (وعندما صحوتُ، ولم أجد رغيفي، أحسستُ بالمخافة، قبري كما رصيفي)
هاهو يضيء ببمفرداته أسرارالمعنى في خوفه على الرغيف ، وما أشد الخوف حينما تتحسس رغيف الغد وأنت في غيابة الرصيف.
*شاعر وناقد عراقي