طلال حسن: حكايات للفتيان (حكايات عربية)
(2) الهارب

إشارة:
بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال حسن” ، وبعد أكثر من ثلاثين كتابا أصدرها بجهده الخلاق الفذّ ، ها هو يتحفنا بمخطوطة كتاب جديد هو “حكايات للفتيان – حكايات عربية” وهو في مجال أدب الطفل الذي يتقلص كتّأبه –للأسف- يوما بعد آخر ليبقى طلال حسن حامل رايته ومضيء شعلته في هذه المرحلة المدلهمة التي يُخرّب فيها العقل العراقي. باعتزاز كبير تنشر أسرة موقع الناقد العراقي فصول هذه المخطوطة في حلقات مع التمنيات لمبدعنا الكبير بالصحة الدائمة والإبداع المتجدد.
أُسرة موقع الناقد العراقي

الهارب

” 1 ”
ــــــــــــــــــــــ
بعد حوالي الشهر ، من الهروب والتخفي ، وصل الأمير عبد الرحمن على حصانه متعبا ، إلى هذه المدينة الصغيرة ، التي تقع على حافة الصحراء .
ومضى على حصانه ، يبحث عن خان متواضع يبات فيه ليلته ، قبل أن ينطلق في الصحراء ، ويذوب في آفاقها الرحبة ، فلا يصل إليه أعداؤه ، الذين يبحثون عنه، وقد رصدوا جائزة لمن يدلهم عليه .
وعثر على خان ، في أبعد طرف من المدينة ، وترجل عن حصانه أمام بوابته ، وجاءه صاحب الخان ، يسبقه كرشه الضخم ، ومعه خادم عجوز ، فقال له : أريد غرفة صغيرة .
وقال صاحب الخان : يبدو أنك وحدك .
وقال الأمير : كما ترى ، وسأبقى هنا ليلة واحدة ، وربما أكثر .
والتفت صاحب الخان إلى الخادم العجوز ، وقال له : خذ الحصان إلى الإسطبل ، وقدم له الماء والعلف ، فهو أيضاً متعب وجائع .
ومدّ الخادم العجوز يده ، وأخذ زمام الحصان من الأمير، ومضى به إلى الإسطبل القريب من الخان ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة .
ومشى صاحب الخان أمام الأمير ، واجتاز به البوابة إلى الداخل ، وهو يقول له : تعال أريك الغرفة ، التي ستبيت فيها هذه الليلة .
وقاده إلى غرفة صغيرة ، في آخر الخان ، وأراه الغرفة، وقال له : هذه الغرفة تناسبك .
وتطلع الأمير إلى أطراف الغرفة ، وقال : نعم إنها صغيرة ونظيفة ، أشكرك .
ونظر صاحب الخان إليه ، وقال : لدينا طعام في الخان، سآتيك بما تحب إذا أردت .
وقال الأمير : نعم ، إنني بحاجة إلى الطعام فعلاً ، أرسل لي رغيفاً من الخبز ، مع قليل من اللبن .
واتجه صاحب الخان إلى خارج الغرفة ، وهو يقول : سأرسل لك الطعام قبل المساء .
وقبيل المساء ، جاءه خادم برغيف من الخبز ، وقعباً مليئاً باللين ، فانكب الأمير على الطعام ، والتهمه كله ، فهو لم يأكل شيئاً منذ أكثر من يوم .
وأوى إلى فراشه ، بعد أن أحكم إغلاق باب الغرفة ، وتأكد مما يحمله خفية ، والذي شده كحزام داخلي حول بطنه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .

” 2 ”
ـــــــــــــــــ
أفاق الأمير صباح اليوم التالي ، لكنه لم ينهض من فراشه ، إنه مازال يشعر بالتعب ، صحيح أن حاله أفضل من البارحة ، لكن جسمه ما زال بحاجة إلى المزيد من الراحة ، خاصة وأنه مقبل على سفر شاق ، لا يعرف بالضبط نهايته .
ونهض الأمير ، وأنصت إلى ما يدور خارج الغرفة ، وحين اطمأن إلى أنه ليس هناك ما يريب ، فتح الباب بهدوء ، وأطل إلى الخارج ، نعم كلّ شيء على ما يرام، فخرج من الغرفة ، وأغلق بابها ، ومضى إلى السوق ، ليتأكد من أن الأوضاع مطمئنة في المدينة .
ومشى في شارع المدينة الوحيد ، بدكاكينه الفقيرة المتواضعة ، دون أن يتلفت حوله ، لكن عينيه الحذرتين المرتابتين ، كانتا ترصدان ما حوله ، وشعر ببعض الارتياح للناس العاديين ، الذين كانوا يسيرون في الشارع ، أو يتوقفون عند الدكاكين .
وبينه وبين نفسه ، قرر أن يبقى في هذه المدينة ، يوماً أو يومين آخرين ، حتى يرتاح تماماً ، مما عاناه من الهرب والتخفي في هذه الفترة ، ثم يواصل هربه إلى خارج البلاد عبر الصحراء .
وتباطأ الأمير ، واضطربت خطواته ، عندما لمح عينين سوداوين ثابتتين تتطلعان إليه ، عبر الناس المتزاحمة وسط الشارع ، ورمقه بنظرة سريعة ، ثم أشاح عنه ، كان رجلاً ربما تجاوز الأربعين ، غامق البشرة ، مفتول العضل ، أهو عبد ؟ من يدري .
ورغم أنه لم يتذكره ، وربما كان لا يعرفه ، إلا أنه لم يرتح لعينيه السوداوين الثابتتين ، لعل هذا اللعين يعرفه، وتعرف عليه هنا ، و .. وتوقف برهة ، ثم تراجع خطوات ، ثم انسلّ عائداً إلى الخان .
ومرّ بصاحب الخان ، فتوقف عنده لحظة ، وقال له : أرجوك ، مرِ الخادم أن يُعدّ لي حصاني .
فقال صاحب الخان : كما تشاء .
وأسرع إلى غرفته ، ولملم على عجل حاجياته البسيطة منها ، ثم عاد إلى صاحب الخان ، وأعطاه أجرة الغرفة، فقال له صاحب الخان : حصانك جاهز .
وأسرع الأمير إلى خارج الخان ، وهو يقول له : أشكرك .. أشكرك جداً .
وفي الخارج ، قدم الخادم العجوز للأمير حصانه ، وقد أعده له ، فمنحه مبلغاً من المال ، ثم امتطى حصانه ، وانطلق به مبتعداً عن الخان .
وما إن ابتعد الأمير ، وهو على حصانه ، عن المدينة الصغيرة ، وعن العينين السوداوين الثابتتين والبشرة الغامقة ، حتى تنفس الصعداء ، وتطلع إلى الأمام بشيء من الارتياح ، حيث الصحراء تمتد بعيداً ، لا تحدها إلا السماء ، البعيدة الصافية الزرقاء .

” 3 ”
ـــــــــــــــــ
أبطأ الأمير قليلاً ، وهو على صهوة حصانه ، حين غابت المدينة في الأفق ، ولم يعد حوله وأمامه غير الصحراء المترامية ، وها هو ، بعد هذه المعاناة ، قاب قوسين أو أدنى من النجاة .
آه ما أقسى حياة الهرب ، ومواجهة الصعاب ، وخاصة لأمير مثله ، عاش حياته كلها في القصور الآمنة ، لم يصدق أنه يمكن أن ينجو ، هو الذي لم يعانِ في حياته ، من مثل هذه الصعاب والمشقات ، التي واجهها خلال أيام هربه ، والتي تربو على الشهر .
وحين سقطت المدينة في يد الأعداء ، وقتلت زوجته وولداه ، استطاع هو وحده ، وبشق الأنفس ، أن يفلت من القتلة ، ويهرب من القصر ، ولم يستطع أن يأخذ معه غير بعض الذهب ، وجوهرة نادرة ، كان قد اشتراها لزوجته بمائة ألف دينار .
ولاحت له من بعيد ، نخلة باسقة منعزلة ، لا يعرف كيف نمت في هذا المكان من الصحراء ، وما إن وصل إليها ، حتى برز له رجل أربعيني ، غامق البشرة ، ومدّ يده ، وأمسك بقوة زمام حصانه .
وحدق الأمير في الرجل ، وقلبه يخفق بشدة ، آه إنه نفس الرجل ، الذي حدق فيه في السوق ، بعينية السوداوين الثابتتين ، فقال له بصوت مضطرب : أيها الرجل ، اترك زمام حصاني .
وابتسم الرجل ، وقال : هذا الحصان يحمل كنزاً .
ونظر الأمير إليه ، وقال متلجلجاً : أنا .. أنا لا أعرفك .
واتسعت ابتسامة الرجل ، وقال : أنا أعرفك .
ولاذ الأمير بالصمت ، وهو يكاد ينهار ، فقال الرجل : أنت الأمير عبد الرحمن .
وردّ الأمير متلجلجاً : كلا ، لست الأمير عبد الرحمن ، أنت واهم ، إنني رجل عابر .
وشدّ الرجل زمام الحصان بقوة ، وقال : بل أنت هو الأمير ، وقد رصدت عشرة آلاف دينار ، لمن يقبض عليك ، ويسلمك لمن تهرب منهم .
وجمد الأمير فوق صهوة حصانه ، ولاذ بصمت مطبق، فتابع الرجل قائلاً : تعرف ، أيها الأمير ، إنني عبد ، وبمثل هذا المبلغ ، أشتري حريتي ، وأعيش بسعة حياتي كلها .
ومدّ الأمير يده إلى حزامه ، وأخرج الجوهرة ، وأراها للرجل ، وقال له : هذه الجوهرة اشتريتها بمائة ألف دينار ، خذها ، واترك زمام حصاني .
ونظر الرجل إلى الأمير ، الذي كانت عيناه اليائستان متعلقتين به ، تنتظران ما سيقوله ، والسحب المضطربة تتجمع فيهما ، ثمّ قال بصوت هادىء : أيها الأمير ، أنا أعرفك ، أنت رجل كريم ، وأريد أن تعرف ، أن بيننا نحن العبيد من هو كريم أيضاً .
ورفع يده عن زمام الحصان ، وتراجع عنه عدة خطوات ، وقال : أنت هارب ، احتفظ بجوهرتك ، لعلك تحتاج إليها ، اذهب يا سيدي ، ولترافقك السلامة .

25 / 4 / 2020

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *