يقول (غابريل غارسيا ماركيز) صاحب ( مائة عام من العزلة) “الحياة ليست ما عاشهُ أحدهم , بل ذكرياتهُ وكيف يتذكرها ليرويها” وأنا طوال السنوات الماضيات كنتًُ أعمدُ إلى ذاكرتي المضنكة واحاول أن أحفر فيها وازيح الأتربة عَلّي أجدُ بعض الذكريات التي لم أروها , رُبما أعثرُ فيها جدة واصادف طراوة , كنتُ أعصرها لأرتشف سلافها الطازج . ذكريات الانسان تؤلمهُ دائماً لأنهُ عاشها في زمنٍ لن يعود ثانية . أيام كانت خضراء ومعشبة وليست ثمة من قوةٍ تعيد إليها الاخضرار أو تنبتُ أعشابها المائتة , ولكن يبقى العزاء في الكتابة وإقامة معمار بيوتاتها التي تتنفس والمحافظة عليها من عبث النسيان تلك العوالم التي نتحاور معها ونتلامسُ ونكسوها ثوباً هارمونياً لنتعايش معها ثانية ونعيد لفح أنفاسِها على وجوهنا وأظن جازماً في هذا بعض من أقواتِ السلوان .
كتبتُ كثيراً عن صَوْبيْ كركوك , ولكن كتاباتي جاءت كثيراً عن صوب (القورية) وهذا بديهي فإن طفولتي وصباي ملاعبهما تدحرجت في أحياء الصوب المذكور , إلا أنني عندما اكتشفتُ الجانب الثاني من المعشوقة (كركوك) واعني صوب القلعة كتبتُ أيضاً الوفير من القصائد والخواطر والمقالات عن خانات وحمامات واسواقِ ومقاهي المنطقة إلا أن الأمر الذي استقطبني فأبحرتُ في الكتابةِ عنهُ هو القلعة ونهر كركوك والأُغنية الحالمة والخالدة التي تتدحرج من أعاليها لتهبط وتغتسل في أمواهِ نهرها الحزين , هذهِ الثلاثية التي سحرتني وامتلكتني حتى النخاع , القلعة بمبانيها ومعمارها والنهر المنتفض أيام الشتاء والمنطفئ الهامد أيام الصيف والأُغنية التي تتسرسح بينهما , بريد مترع بالحب والمودة والفرح والحزن ودعوة لحب الانسان واحتضانهِ والانفتاح عليهِ بهذا القلب الذي يتسع البراري وامتداداتها الفساح .
كنتُ أُبصر المكان بعينِ قلبي وأنا استروحه وأحسُ نبضهُ وأُبصر الوصيفات السبع يهبطْنَ على مهلهنَّ , تنساب خطواتهن من فوق السلالم الحجرية , حفيف أثوابهنَّ البيضاء يتموسق , يضوع , وهذهِ الضحكات التي تتلاحق وتتساير ثمَّ تعشب في كتاب الليل المفتوح بين يديْ الريح وقلبي العاشق أرى خفقانهُ ينبجس من داخلي أليس من حقه منادمة هذا الطقس الباذخ والظلام الشفيف المنزلق من الأعالي أرى نيران كركوك تهدأ وتتفتحُ أورادها القرمزية, الطقس يرتدي بذاختهُ ويدخل حيز الكرنفال . تدلي الأميرة قدميها في الأمواه الجارية وأنتنَّ يا (يدي قيزلار) – الوصيفات السبع أُستُرنها بشعوركن المسبلات , يترمد القمر الأبيض من لظى شوقهِ, وقلبي العاشق الملهوف يَدِب في مماشي الليل , يستطعم خبز ما يرى ويفتت أثمار أحلامهِ على أشجار التين الخوالد . وتصعد من تحتِ عباءة هذا الكرنفال أُغنية اسيانة حتى الأعماق :
” اسقط اثمار هذا الشغف الحبيب
في سِلال كركوك
ولأطيار المساء
ألقي رغفانها المدورة
ليل يكتب أسرارهُ الصغيرة
ويبقى الفؤاد
يضيعُ بصمتٍ , وحزناً يسيل
يقول الحفيف : هذا العشق المتسول
من يربتُ على كتفيهِ الدامعين
ومن يداري صهيلهُ الجريح “
أكتبُ هذهِ الأُغنية واضعاً إياها في قنينة واسدها بسدادة محكمة وأرميها في نهر كركوك – وأظنُ أن شيئاً من هذا قرأتهُ في حكاية لادغار ألان بو تحمل عنوان (مخطوطة وجدت في قنينة)– ثم مياه النهر تجرفهُا إلى نهر (العظيم) وهذا الرافد ينقلها إلى (دجلة) ومن هذا النهر إلى شط العرب فالخليج ومن هناك تنجرف القنينة حتى تصل إلى مياه المحيطات وربما بحّار من ضجر أيامه الرتيبة يتمشى على سطح سفينتهِ يلمحها طافية بين الأمواج يدفعهُ فضولهُ إلى التقاطها وفك سدادتها وعثورهِ على الورقة التي احتوت الأُغنية الخالدة , أُغنية القلعة وأظنُ صادقاً البحار سيحبها ويقرؤها بلغة وجده ويفهم ويتذوق كلماتها المترجمة , تلك المفردات المعجونة بخمرة القلب وربما يفتح اطلسهُ . يبحث عن كركوك ونهرها وقلعتها ويحلم طويلاً بتلك المعالم التي تغنت بها الكلمات . ما برحت الأُغنية تدور , تهوّم بأجنحة عشاقها , وهي تتمسح بالحوائط القديمة ثمَّ تعلو وكأنها تريد أن تأخذ خِطاب تسامحها لكل عناصر الطبيعة التي تصادفها , لقد كان حلمي أن ألتقي بمنشئ كلماتها وآخذ بيدهِ وأطوف معهُ أسواق المدينة وحواريها , نمضي وقد امتلأ قلبانا بكركرات الأطفال اللاهين وهم يتدحرجون مع مسرات النهار من أعالي القلعة إلى أسافلها والشمس تلقي المزيد والمزيد من أشعتها القرمزية .
فاروق مصطفى: ذاكرة كركوك/ ثلاثية كركوك: قلعتها ونهرها وأًغنيتهما الخالدة
تعليقات الفيسبوك