
إشارة:
بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال حسن” ، وبعد أكثر من ثلاثين كتابا أصدرها بجهده الخلاق الفذّ ، ها هو يتحفنا بمخطوطة كتاب جديد هو “حكايات للفتيان – حكايات عربية” وهو في مجال أدب الطفل الذي يتقلص كتّأبه –للأسف- يوما بعد آخر ليبقى طلال حسن حامل رايته ومضيء شعلته في هذه المرحلة المدلهمة التي يُخرّب فيها العقل العراقي. باعتزاز كبير تنشر أسرة موقع الناقد العراقي فصول هذه المخطوطة في حلقات مع التمنيات لمبدعنا الكبير بالصحة الدائمة والإبداع المتجدد.
أُسرة موقع الناقد العراقي
ديك جحا
” 1 “
ـــــــــــــــــ
فزّ جحا فجراً ، وقد اتسعت عيناه ، وزوجته أم جحيح تشخر إلى جانبه في الفراش ، وأنصت ملياً ، لعل ما سمعه كان حلماً ، لقد جاءه صوت من السرداب ، أهو ديكه ؟ لكن ما سمعه هو .. قيق قيق قيق .
وجاءه الصوت ثانية ، قيق قيق قيق ، هذا الصوت ليس صوت ديك ، يا إلهي ، ونهض بهدوء من فراشه ، وبهدوء أشدّ تسلل من الغرفة ، ومنها إلى سرداب البيت، حيث حماره وديكه العجوز .
وتراءت له أمه ، تقول له ، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة : جحا ، أوصيك بالديك ، إنه ديك أبيك الغالي ، الذي لم يترك لي شيئاً غيره في الحياة .
وربت جحا على يدها ، التي راحت البرودة تسري فيها، وقال لها بصوت دامع : اطمئني ، يا أمي ، لن أتخلى عن الديك ، مهما كانت الظروف .
ورغم عتمة السرداب ، رأى جحا الديك العجوز ، على بصيص الفجر ، الذي كان يتسلل من الكوة الصغيرة ، وخفق قلبه متوجساً ، حين رآه ينهض قليلاً ، وبدل أن يصيح ككل الديكة كوكوريكو ، صاح متوجعاً : قيق .. قيق .. قييييق .
وابتعد الديك العجوز قليلاً ، والتفت إلى الوراء ، والتمعت عيناه ، ومعهما اتسعت عينا جحا ، حتى كادتا تخرجان من محجريهما ، فقد شاهدا معاً بيضة ، بيضة كبيرة ، لم يسبق لجحا أن رأى دجاجة تبيض مثلها من قبل في يوم من الأيام .
وخرج جحا من السرداب ، وقفل عائداً إلى الغرفة ، وفوجىء بزوجته أم جحيح ، تجلس في مكانها من الفراش ، وتحدق فيه متعجبة ، ثم تقول : ما الأمر ، يا جحا ؟ أقلقتني في هذا الليل .
واندس جحا إلى جانبها ، وقال : أمر لا يُصدق ، يا امرأة ، لا يصدق .
ورمقته أم جحيح بنظرة غاضبة ، وقالت بصوت طار منه النعاس : ليس هناك أمر لا يُصدق ، يا جحا ، إذا كان يتعلق بك أو بحمارك الأرعن .
ونظر جحا إليها بعينيه المتسعتين ، وقال بصوت خافت يشي بالخطورة : الديك ..
وصمت جحا ، فشهقت أم جحيح : مات !
وقال جحا : ليته مات ..
ونظرت أم جحيح إليه مندهشة ، فتابع قائلاً : اللعين ، وضع بيضة .
وشهقت أم جحيح ثانية : بيضة !
وهزّ جحا رأسه ، وقال : نعم بيضة ، بيضة كبيرة ، مع أنه ديك وليس دجاجة .
وتمتمت أم جحيح متذمرة : لا عجب ، إنه ديك رعته أمك المرحومة ، ورفضت أن تذبحه ، عندما اشتهى ابننا جحيح أن يأكل لحم ديك .
وصمتت أم جحيح لحظة ، ثم التفتت إلى جحا ، وقالت: جحا ، ماذا لو سمع بذلك .. تيمورلنك ؟
وعلى الفور ، وبسرعة فائقة ، مدّ جحا يده ، وأطبق بها على فم أم جحيح ، وهو يقول لها : صه ، للحيطان آذان، وأي آذان آه ..
ورفع يده عن فمها ، وأضاف بصوت خائف : لو سمع تيمور لنك ، بأنّ ديكنا وضع بيضة ، آه يا ويلي ، من يدري ماذا سيفعل ، من يدري .
” 2 “
ــــــــــــــــــ
للحيطان آذان ، هذا ما قاله جحا لزوجته ، وفاته أن لحائطه الأحمق جحيح أذنين مثل أذني الفأر ـ كما تقول أمه ـ ، وبهاتين الأذنين سمع جحيح أباه يخرج من غرفته ، حوالي الفجر .
وتلصص جحيح من شق في نافذته ، ورأى أباه يدخل السرداب ، ترى عمّ يبحث في مثل هذا الوقت المبكر من الفجر ؟ وسرعان ما رآه يخرج من السرداب ، ويتسلل بخطوات غير مسموعة إلى غرفته .
وتسلل جحيح من غرفته ، وأصغى خلسة إلى ما دار بين أبيه وأمه ، وهاله ما سمع من أبيه خاصة ، يا للويل، لقد جّنّ أبوه ، جّنّ جحا ، وإلا كيف يقول لأمه ، إن ديكه قد وضع بيضة ؟
وخلال تناولهم لطعام الفطور ، ظلّ جحيح يختلس النظر إلى أبيه جحا ، وانتبهت إليه أمه ، فنهرته قائلة ، وهي تطحن طعامها بين أسنانها : جحيح ، غضّ بصرك ، وتناول فطورك ، قبل أن يبرد .
وأبعد جحيح عينيه عن أبيه جحا ، وانهمك في تناول الطعام ، وهو يقول : طعامك لذيذ ، يا أمي .
لم تردّ أمه عليه ، فالتفت إلى أبيه جحا ، وقال : أنت لا تأكل ، يا أبي ، كلْ حتى تشبع .
وفزّ جحا ، وكأنه كان نائماً ، أو مستغرقا في أمر فائق الأهمية ، وردّ على جحيح قائلاً : يبدو أنك أعمى ، إنني آكل مثل .. مثل .. مثلك تماماً .
وأنهى جحيح فطوره على عجل ، وعلى عجل خرج من البيت ، واتجه إلى بيت ملا صالح ، ووقف على مقربة من الباب ، ينتظر خروجه .
وخرج ملا صالح ، ولحيته المخضبة بالحناء تهتز مع خطواته البطيئة ، ومسبحته الشيح الثمينة في يده ، ثم سار ، وهو يدمدم بالأوراد والأدعية .
ولحق جحيح به ، وصاح : ملا صالح ..
وردّ ملا صالح ، دون أن يتوقف ، أو يلتفت إليه : جحيح ، لا تصح هكذا ، إنني أسمعك .
وهرول جحيح إلى جانبه ، وهو يقول : ملاتي ، ليتك تأتي إلى بيتنا ، وتعزم لأبي جحا .
وواصل ملا صالح سيره ، وقال : أبوك ، يا جحيح ، لا يحتاج إلى عزامتي .
وواصل جحيح هرولته إلى جانب ملا صالح ، وهو يقول : بل يحتاجها الآن ، تعال إلى بيتنا ، وعزم له دون أن يحسّ بذلك ..
وصمت جحيح لحظة ، ثم قال : لقد جنّ .
وتوقف ملا صالح ، وهو يغالب ابتسامته ، التي غطاها شارباه المخضبان بالحناء ، وقال : جنّ ! جحا جنّ ؟ هذا أمر محال .
ومال جحيح على ملا صالح ، وقال له بصوت هامس : أبي جحا ، قال لأمي فجر اليوم ، ديكي قوقأ في الليل ، ووضع بيضه .
واختفت ابتسامة ملا صالح ، أم أنه أخفاها عمدا ، لأمر في نفسه ؟ وقال : ماذا !
ومال جحيح عليه ثانية ، وقال : يا ملا ، أبي يقول ، إن ديكه وضع بيضة ، أهذا الكلام يقوله عاقل ؟
ولاذ ملا صالح بالصمت ، ثمّ ربت على كتف جحيح برفق ، وقال له : عدْ أنت إلى البيت ، وابقّ إلى جانب أبيك ، واترك الأمر لي .
واستدار جحيح ، ومضى مسرعاً إلى البيت ، والتمعت عينا ملا صالح ، وقال وهو يغالب ضحكته : سيضحك سيدي تيمورلنك كثيراً هذا اليوم .
” 3 “
ــــــــــــــــــ
طرق باب بيت جحا ، عند منتصف النهار ، وحين فتح جحا الباب ، فوجىء بثلاث حراس ، شاكي السلاح، يحدقون فيه عابسين .
وتمتم جحا مرعوباً : خيراً .
فردّ كبير الحراس : سيدي تيمورلنك يريدك الآن .
وشهق جحا قائلاً : تيمورلنك !
وتقدم منه كبير الحراس ، وجرّه من ياقة ثوبه ، وقال له: هيا تعال معنا ، وإلا غضب سيدي تيمورلنك عليك ، وأنت تعرف سيدي عندما يغضب .
وانقاد جحا لكبير الحراس ، وسار أمامه ، وهو يتمتم منهاراً : أعرف .. أعرف .
ووقف جحا أمام تيمورلنك ، مكبلاً من غير قيود ، ولمح إلى جانبه ملا صالح ، بلحيته الطويلة المخضبة بالحناء، وقال بصوت خانع : مولاي .
وحدق تيمورلنك فيه ، وقال : جحا ، أسألك ..
ورد جحا بصوت خانع : تفضل ، مولاي .
وتابع تيمورلنك قائلاً : الدجاجة تبيض أم تلد ؟
وفوجى جحا ، ولبث صامتاً ، ماذا وراء هذا السؤال ؟ وقال تيمورلنك : أجب ، يا جحا .
فقال جحا : تبيض ، يا مولاي .
وقال تيمورلنك : والديك ؟
واتسعت عينا جحا ، حقاً للحيطان آذان ، وتمتم متردداً ، خائفاً : الديك ، يا مولاي ؟
ورمق تيمورلنك ملا صالح بنظرة سريعة ، ثم قال : نعم، يا جحا ، الديك .
وتمايل جحا ، وأوشك أن يتهاوى على الأرض ، ثم قال: مولاي ، ليس ذنبي ، إذا كان ديكي اللعين ، قوقأ مثل الدجاج ، ووضع بيضة .
ورمق تيمورلنك ملا صالح بنظرة سريعة ، وقال : لم تقل لي ، أن الأمر هكذا .
وتقدم ملا صالح خطوة ، وقال : مولاي ، الأمر واضح الآن ، لقد تلبسه الشيطان .
وصاح جحا : الديك اللعين هو الذي وضع البيضة وليس أنا ، يا مولاي .
وقال تيمورلنك ، وكأنه يحدث نفسه : لننادِ الجلاد إذن ، ويقطع بسيفه البتار رأس ..
وشهق جحا منهاراً ، وتقدم ملا صالح خطوة أخرى ، وقال : مولاي ..
وقاطعه تيمورلنك : تكلم .
وتابع ملا صالح قائلاً : لا أقول إن جحا لا ذنب له ، يا مولاي ، لكن .. لنعاقبه عقاباً شديداً ..
وصمت ملا صالح لحظة ، ثم تابع قائلاً : هذا الديك عزيز جداً على جحا ، فليأتِ الجلاد ، ويعاقب جحا بأن يقطع بسيفه البتار ، رأس الديك .
وعبس تيمورلنك ، وبدا أنه يفكر في قول ملا صالح ، الذي تابع قائلاً : ثم يشوى هذا الديك ، ويأكله جحا بأكمله ، وإلا فليقطع رأسه .
وقهقه تيمورلنك ضاحكاً ، وقال : نادوا الجلاد .
وأغمض جحا عينيه الغارقتين بالخوف والدموع ، وتراءت له أمه ، وهي تقول له : جحا ، كله ، كل الديك، وسيكون في مأمن داخل بطنك ، وإلا انقض عليه الأعداء ، وافترسوه كالوحوش .
وأطرق جحا رأسه أمام تيمورلنك ، وقال بصوت خافت مستسلم : مولاي ، الأمر لك .
29 / 4 / 2020