إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
أسرة موقع الناقد العراقي
-1-
هاهو يزحف نحوي ببطء، يتجاوز مستطيل الظل، فيومض سطحه الأصفر الحرشفي بفعل النور الشاحب الذي يعصره المصباح الوحيد المغروس وسط السقف، تتسع عيناي وأنا أتأمل ذيله المستدق الذي ينعقف لينتهي بإبرة سوداء دقيقة. حين يقترب مني، استل أحد العودين الصغيرين كالعادة وأدفعه بعيداً عني وبمسافة تضمن لي أن أمد ساقيّ بامتداد غير كامل لتحاشي لدغته، حينها أما أن يغيّر مساره باتجاه الحائط الذي تقشر ملاطه وتشققت زواياه، أو يؤوب ثانية، وهكذا أظل أطرده حتى يبتعد، فربما اتخذ له ملجأ في أحد الشقوق أو يروح يدب متسلقاً الجدار حيث أكون حذراً لئلا يبتعد ويصبح خارج قياس طولي المعتاد فيخرج من سيطرتي متجهاً نحو الكوة الصغيرة القريبة من السقف وربما اجتازها إلى الخارج.
قد تتساءلون لماذا لا أقتله؟ سأجيبكم بأنه عقرب ليس ككل العقارب التي تؤذي فتقتل، إنه من الممتلكات الخاصة، شأنه في الأهمية شأن بندقية أو مسدس، هو الآن في ذمتي، فأي ضرر يلحق به يعني عذابي وموتي.
ـ 2ـ
حين جاء بي السجان إلى هنا، أصغيت إلى المفتاح وهو يدور في فتحة الباب، حلّ رباط عيني ووثاقي، دفع الباب بكتفه فانبعث صرير حاد وانفتحت الباب الحديدية الواطئة قليلاً، دفعني إلى الداخل بقوة، ترنحت وأقعيت مستنداً إلى الجدار فانداحت برودته على ظهري الملتهب وأفغمت أنفي رائحة عطنة كانت تشيع في الهواء الراكد، وقبل أن يتلاشى العشو الذي أطبق على بصري سمعت صلصلة الباب الحديدية ثم دار المفتاح دورة أخرى فأيقنت أن سجاني قد ولى، نهضت وتلمست طريقي وسط الظلمة الموحشة، وفي كل اتجاه أدور وأمد ذراعي فإنهما تصطدمان بحائط خشن، وبينما كنت أمد بصري للأعلى فرّ شعاع واهن وعبر الكوة الصغيرة التي بدت لي نائية جداً، غمرني فجأة حنين طاغ إلى معانقة النور الحميم المنبلج في الخارج والأشياء المغسولة بغسق المساء.. الوجوه.. البيوت.. النخيل.. النهر.. السفن.. المنارات…
وشعّت أمامي هذه العبارة (الحنين هو أسوأ العذابات، مثل ترتيب غرفة الابن الذي مات)، لا أدري لمن هذه؟ وأين عثرت عليها، لكني حفظتها ودونتها في الصفحة الثانية من كتاب اصطحبته معي حينما كنت في أحدى المرات أستقل القطار النازل إلى الجنوب.
ألجمتُ ذاكرتي ورحت أفكر كيف سيكون حالي هنا وسط العتمة فأصابني الهلع وغمرني شعور كمن هو على وشك أن يدفن حياً، تسارعت أنفاسي وهمست متضرعاً:
– احضر يا شفيع !
فتردد الهمس وذاب في الصمت المطلق.
بعد برهة أرهفت السمع إلى وقع قدمين خارج الباب، طق زر كهربائي وانغمر المكان بالضوء الأصفر الشحيح وبانت الأشياء من حولي. كان المكان قبواً بأبعاد ثلاثة أمتار طولاً ومترين عرضاً بجدران متآكلة يعلوها سقف يتدلى منه مصباح منقط ببراز الذباب، وقريباً من السقف كوة مربعة صغيرة، وفي أحد الأركان تقبع “تنكة” مملوءة بالماء وفي الزاوية المقابلة ثمة مقعد محفور في الأرضية الإسمنتية مع بقايا براز متيبس، وقريباً من الركنين الآخرين توجد بطانية متهرئة تنبعث منها رائحة الإسطبل.
شرعت أوصالي تئن، نزعت حذائي واتخذته وسادة، تقرفصت ونمت.
ـ 3 ـ
استيقظت مذعوراً على صوت طرق شديد وبرؤية غائمة لاحظت وجهاً عابساً كان يطل عبر الفتحة المربعة في وسط الباب، بعينين صقريتين وشاربين كثين وفم غليظ راح يرشقني بكلمات لم أتبين مخارجها لأني لم أتخلص للتو من إسار النعاس. توارى الوجه وصحوت أكثر، امتدت يد مشعرة تقبض على علبة سوداء مرقمة ذات غطاء معدني، وانسل صوته الأجش من خلف الباب:
– خذ !
تناولت العلبة بيد مرتعشة ولم يتح لي الوقت لأفكر بمحتواها فصاح:
– افتح !
فتحت الغطاء بتدويره عكس عقرب الساعة وقبل أن أرفعه ألقيت نظرة على السجان فنهرني:
– أسرع !
رفعت الغطاء على مهل، نظرت داخله وأغلقته بسرعة، سرت قشعريرة في جسدي وشعرت بالأرضية التي تحتي وقد أضحت جوفاء على وشك أن تهوي بي، جفلت بعد أن صاح بي:
– هل رأيت ؟
انعقد لساني فهززت رأسي للإجابة ؟
– ماذا رأيت ؟ قل..
– عقرباً .. عقرباً !
مد يده من جديد وناولني عودين صغيرين ، فأخذتهما وكلي تساؤل وفزع..
– عليك أن ترعى هذا العقرب وتسرح به يعينك هذا العودان، وإياك أن يضيع أو يموت..
ثم هتف بي:
– هيا أرمه وأعطني العلبة !
قذفت العقرب وابتعدت وسلمت العلبة الفارغة. ظل مسمراً للحظات ثم ما برح يجول على الأرضية. أمعنت النظر فيه فكان مطابقاً لصورته المرسومة في خارطة الأبراج.
اختفى الوجه العابس وصرّت درفة الفتحة ثم أغلقت، فقلت في سرّي:
– راعي عقارب إذن !
ـ 4ـ
انطوى شهر وأنا أسوق هذا العقرب الذي أصبح قدري أراقبه ليل نهار وأحذر من أن يدنو مني أو يبتعد كثيراً خشية فقدانه، وحدث في يوم أني كنت مضطجعاً فغلبني النوم. وفجأة شعرت بشيء ما يتسلق عليّ، أوشكت على النهوض لكني أدركت أنه العقرب، بقيت جامداً كالخشبة ولم أحرك ساكناً، كفت عيناي عن الرفيف وكتمت أنفاسي، تركته يجول في رقعتي وفي كل ثانية أظن أنه سيغرز أبرته في لحمي، ثم استكان على صدري، فكنت كمن ظل واقفاً على لغم لا يقدر أن يخطو أكثر، تحرّك قليلاً وعلى حين غرة هبط مسرعاً إلى الأرضية الرطبة، قفزت وابتعدت بسرعة مبهور الأنفاس.
كما حدث أني نمت مرغماً بعد أن تداعت قواي وحينما استيقظت لم أجده، بحثت عنه في الزوايا والشقوق علني أعثر عليه، فلما يئست من العثور عليه خلصت إلى أن روحي ستتلاشى في إثره لاحقاً بعد أن فرطت به، وبينما كنت أقلب فكري كان بصري معلقاً بشعاع الضوء النافذ من الكوة القريبة من السقف فلمحته يعبرها للداخل ثم يتخذ طريقه للأسفل، فلما اقترب تنفست الصعداء؟
بعد هذين الحدثين أيقنت بأن في يوم ما لا بد من أن يغلبني بلدغة أو يختفي عندما أغفل عنه أو تأخذني غفوة، لهذا دارت في ذهني أفكار شتى وطرحت على نفسي حلولاً تبدو حينها مقبولة ثم لا تلبث أن تنتفي في اليوم التالي.. وهكذا كابدت ووصلت حداً لم أطق فيه التفكير إلى أن بلغت حلاً تيقنت فيه بخلاصي واطمأنت له روحي.
ـ 5 ـ
حين دخل السجان إلى الزنزانة ليملأ “التنكة” بالماء فوجئ بجثة متيبسة إذ الرأس يتوسد حذائين عتيقين، وتبدو العينان مطمئنتين والشفتان طافت عليهما ابتسامة، وثمة عودان يتصالبان بالقرب من نثار عقرب مسحوق.
البصرة 1999