تستند رواية (عمكا)* للروائي سعدي المالح، على استلهام تاريخ مدينة عينكاوه، وحياة السريان في تلك المدينة، وعاداتهم وتقاليدهم، وأهم التغيرات التي طرأت على ذلك المجتمع المنغلق، من خلال شخصية الراوي وتدرجه العمري، اما الاسلوب الذي بنيت عليه الرواية فكان اشبه برواية السيرة الذاتية، حيث نرى إن الزمان والمكان يتحدان في منظور واحد متواشج، وهو رؤية السارد العليم، فالانتقالات السردية كانت عبارة عن استذكارات لمواقف وأحداث رتبت كحوادث تنتظم ذاكرة السارد، وليس لتراتبية زمنية، أو بناء شكلي معين.
ابتدأت الرواية بقصة اطارية، احتوت على عدة شخصيات، كان اهمها شخصيتين رئيسيتين تحملان نفس الاسم (شربل)، وسيأتي تفصيلهما لاحقا، هذه القصة بنيت على بنية استباقية، تجعلنا نتساءل عن جدوى هذا الاستباق، أو مدى أهمية ما طرح فيه؟ وهل هناك ارتباط بينها وبين المتن؟ حيث تسير هذه التساؤلات معنا على مدار الرواية، وايضا هناك التقديم التاريخي والتعريفي بمدينة (عمكا)، والتي توحي لنا بان هذه الرواية هي اعادة احياء لتلك المدينة بكل تشكلاتها التاريخية والثقافية، حيث تصبح في الكثير من الاحيان عبارة عن دليل سياحي، فرغم ان الرواية قد ركزت على الاحداث، وتقديم الشخصيات، الا ان المكان كان فاعلا من خلال رصد التحولات التاريخية التي طرأت عليه، والتي كان لها تأثير كبير على الشخصيات والاحداث بصورة مباشرة.
والقصة الاطارية التي تحمل توصيفا (بدلا من المقدمة)، تتوالد منها الدوال والعلامات، التي هيمنت على البنية السردية للرواية، ان كان بصورة مباشرة أو ضمنية، اخذت مسارين متوازيين، لكنهما سرعان ما يتحدان في النهاية، والقصة الاطارية تلك، هي عن قسيس يستمع لحكاية احد الاموات تنطلق من داخل القبر، والذي تتصارعه روحان هما (شربل الاله الوثني)، حامي مدينة (اربائيلو) العاصمة الدينية للأشوريين، والذي مثل المسار الاول، و(شربل القديس) الذي مات شهيداً، لأنه رفض ان يتخلى عن المسيحية، ممثلا للمسار الثاني، وبؤرة هذا الصراع كما ستتكشف لاحقا في متن الرواية، هو المكان، الذي لعب دورا مهما ورئيسيا، اذ بنيت حبكة الرواية واحداثها حوله، من خلال ابراز اهم الهويات الثقافية التي أثرت فيه.

لذلك فقد ارتبط المسار الاول بهذه الحضارة والثقافة التي كان جزءاً منها، أكثر من كونه مرتبطا بإله وثني، اي انه أخذ الجانب الحضاري، وانتماءه الثقافي، بعيداً عن مرجعياته الدينية، وهذا يحيلنا ربما الى المسار الاخر، أي (شربل القديس)، الذي ارتبط بالمسيحية التي مثلتها هذه العلامة، مؤكدا عليها كهوية ثقافية، لذلك فهذان المساران مجتمعان يمثلان الهوية الثقافية لهذه المدينة، اي اصلها الاشوري ومسيحيتها، فرغم انهما صورا على انهما منفصلان او مساران متوازيان لبناء هذه الهوية، الا ان هناك الكثير من المشتركات التي تتقاطع بينهما، والذي ساعد في اثراء هذه الصلة، هي الطبيعة التكوينية التي وصفتها الرواية لهذا المكان، وللشخصيات المعجونة بهذين المصدرين.
اذن فان (شربل الوثني) و (شربل القديس) شخصيتا القصة الاطارية، واسقاطاتهما الدلالية قد أخذتا مديين، هما : الاثر الذي تركته الحضارات المتعاقبة التي مرت بهذه المدينة، او هذه البقعة الرافدينية، والتي مثلها شربل الاول، وتأثيرات الديانة المسيحية والكنيسة التي مثلها شربل الثاني كما اسلفنا، والذين قد تمازجا ليشكلا هوية مدينة (عمكا)، حيث نلاحظ الاشارة الى استمرار هذه الهوية، وتعمقها، من خلال المشهد الذي يصور تعميد الطفل الصغير في نهاية الرواية، والذي سمي (شربل) تيمنا بهما، لذلك فيمكننا القول ان هذه الرواية هي سيرة مدينة، بكل تشكلاتها الحياتية والتاريخية، منعكسة بحياة الشخصيات وعلاقاتهم بالطبيعة وتقلباتها، والتي تشربت بكل ملامح المكان وتشعباته، طرقه وأزقته الضيقة، كل ذلك ممزوج بالهوية الحضارية لهذه المدينة، حيث الانسجام والعلاقة المتبادلة معها من خلال العادات والطقوس، وحتى اللغة وهي (السريانية)، التي خرجت من رحم هذه الارض، متعالقة بها، وممزوجة بأناسها وطينها.
* عمكا (رواية)- سعدي المالح- منشورات ضفاف ط1 بيروت 2013