ثم أكتشف أبو علي الغالب بطلان كل آماله في النيل مــن الحسيني، لكن هذا جاء بعد فوات الأوان . عزى السبب الى سوء الحظ الذي نكد عليـــه ليس عيشه فقـــط وأنمــا
أشاع الأضطراب في كل علاقاته مع الآخرين الذين لم يتجاوز نظره اليهم أكثــر مـن
خواتيم في أصابعه . غير أنه لم يفلح في تحقيق هذا الأمر مع أي من المسؤولين الذين
عمل معهم ، بل في الغالب كانوا يرمونه بعيدا عنهم . في كل الحالات التــي وجد فيها
نفسه مبعدا ومهانا ومعاقبا كان يرد ذلك الى القدر الغامض الذي يتحكم بــه بنوع مــن
العماء العصي على الفهم ، فهو مؤمن كأيمانه بالله أن أباه السيد قــد رباه وأنشأه علـى
المفاهيم الحقيقية الكفيلة بجعله من الرجال الذين يشار لهم بالبنان . علمه أبوه السيد أن
لا ينقاد خلف عواطفه ، فلا مقتل للرجل الطموح سوى عواطفه ، وكذلك أيمانـــه بمـا
يسمى الحق ، الأيمان الوحيد الذي ينبغي أن يتمسك به هــو القوة ، كن قويا وأفعل مـا
ما تشاء يا أبا علي الغالب ، تذكر أنك حين تنام نم ظالما وليس مظلوما . كررأكثر من
مرة عليه القول الأخير ، فأعترض مرة :
– ولكن الأمام علي بن أبي طالب قال عكس ذلك .
– وماذا حدث له ؟ لقد فلقوا هامته .
آمن أن أباه السيد على حق ، وقرر منذ ذلك اليوم أن لا ينام مــــن دون أن يظلم أحدا،
وهكذا أصبح الظلم عادة لديه ، ثم تحولت تلك العادة الى حاجة فـــي أعماقه ينبغي أن
تشبع كل يوم ، وحين لايجد من يظلمه فأنه يسدد اللطمات الى أمه ويرميها الى قارعة
الطريق ليلا . الآن لم يعد أبوه السيد موجودا وما كان ليحس بأنه سيهزم بسهولة أذ أن
عوده قد عجم ، وأن أباه السيد لم يترك شيئا مـــن دون أن يبصره بـه ، كما أنه قد قتل
فيه كل ما يمت الى العواطف الرقيقة ، وهكذا نهض أبــو علي الغالب خارجــا الــــى
الحياة بعقل أمتلأت تجاويفه بسم زعاف . الآن أستعد وهيأ وسائله للسير فــــي ركاب
القادم الجديد فقد شم أنفه أن هذا الرجل يمكن أن يحقق له ما فشل فيه الآخرون .كانت
حساباته التي أوصلته الى ذلك الأستنتاج غاية في البساطة ، فمـــا دام قريبه وزير في
دولة الحزب ، وما دام هو من أعضاء الحزب القدامى ، فهذا يعني أنه قوي . ثم أنـــه
أيقن بهذه القوة في الأيام التالية حيث رفض علـي الحسني تسلم مسؤولية القسم الثانـي
من دون صدور أمر خاص من أعلى مصدر في السلطة . هذا الأمـر جعل المسؤولين
وغير المسؤولين في الدائرة العملاقة ينظرون بدهشة وأكبار لهذا الرجل ، لا لجرأتـه
وأنما لجدة الموضوع الذي يعني أنه سيأتي الى الدائرة العملاقة مديرا عاما ثانيا،يعني
أن القسم الثاني أصبح مديرية عامة غير معلنة .
الوحيد الذي أنبثقت لديه قناعة بأن حربا ظاهرة أو مخفية ستندلع بيـن علــــي الحسني
ومدير عام الدائرة العملاقة . لذلك وطن النفس علـى أمتطاء موجة الخلافات القادمة ،
ففي مثل هذه الأجواء المتوترة تزدهر أفكاره . أضافة الى أنه سأل وبحث بمثابرة عن
شخص له معرفة عميقة بعلي الحسني ، فأحد أهـــم الأمور لديه أن يعرف الكثيرالذي
يخص هذا الرجل ، وعثر على بغيته في الطابق الرابع نفسه ، فقـد كان هناك موظف
له علاقة صداقة متينة معه .
قال لشريكه سميع المحمود :
– عرفت الكثير عنه ، لكن أهم ماعرفته هو الذي سيكون فيه مقتله .
سأله سميع المحمود بأستغراب :
– ما هو ؟
– أنه زير نساء .
أطلق شريكه صيحات تعجب :
– ها .. ها .
تساءل أبو علي الغالب مدهوشا :
– ماذا ؟
– يعني أن القسم الثاني سيتحول الى مبغى .
رد عليه أبو علي الغالب بهدوء :
– لا أتوقع ذلك .
– لماذا ؟
– أنه ذكي جدا ولا يمكن أن يقع في هذا المطب .
– ماذا تتوقع ؟
– لا أتوقع أي شىء .. علينا أن ننتظر .
– ننتظر ماذا ؟
– أن تتكشف الأمور .
غير أن الأمور جاءت على العكس مما يأمل فيها أبو علي الغالب ، وهذا ما أصابــــه
بالدوار والحيرة التي لم يعرف كيف يخرج منهما ، أذ أن علي الحسني حين تسلم مهام
عمله قام بنقل جميع الموظفات من القسم الثاني الــــى الأقسام الأخرى ، وبذلك حوله
الى قسم رجالي كما وصفه العاملون فيه . أيقن أبو علي الغالب أنه سيعمل مـــع داهية
من العسير اللعب معه بقواعد مغشوشة . مع ذلك وطن النفس على الصبر والتأني من
أجل أن يتكشف الكثير الذي يعينه للوصول الى مبتغاه . ثم بدت له الأجراءات التــــي
قام بها فيمـا بعد ، ليست مثيرة للدهشة حسب بــل للشك أيضا ، فهــــو قد جلب مــــن
القسم الخامس موظفا ليصبح سكرتيرا له . عرف فيما بعـــــد أبو علي الغالب أن ذلك
الموظف له علاقة قربى بأحد المسؤولين في قيادة الحزب العليا . ثــم تقاطر الآخرون
الذين أتوا من دوائر مختلفة ، يربطهم رباط هـو سؤوهم وخلفياتهم المشكوك بها .أيقـن
أبو علي أن هذا الجيش من السيئين سيقفون فــي مواجهته ، أذا مـــــــا حاول أن يسيء
الى علي الحسيني .
قال سميع المحمود :
– أليس من الأفضل أن نقوم بزيارة المدير الجديد لنذكره بنا ؟
قال أبو علي الغالب مؤكدا :
– لا .
– لماذا ؟
– لننتظر حتى يستدعينا . أنه يعرفنا فقد نادانا بأسمائنا عندما ذهبنا للسلام عليـــــه بعد
تسلمه مسؤولية عمله .
– وأذا لم يستدعنا ؟
– بل سيفعل ذلك .. أصبر .
صح ما ذهب اليه أبو علي الغالب فقد أستدعاهما فــــي ضحى اليوم التالي . أستقبلهما
كما يستقبل صديقين قديمين له . أشار لهما بالجلوس ثم قال :
– قمت بتقييمكما السنوي .. تستطيعان الأطلاع عليــــه عند السكرتير . أنكما موظفان
جيدان . والآن لنتحدث كأصدقاء ، فقد عرفت أنك ياسميع من أعضاء الحزب ، فهل
ما سمعته صحيحا ؟
– نعم أستاذ .
– وأنت يا أبو علي الغالب ما مشكلتك مع الحزب ؟
– وقعت في منتصف الطريق مثلما وقع الكثيرون مثلي ، لكــن الحزب لا يريد ضمي الى صفوفه مرة أخرى .
– سأعمل على أعادتك للحزب . أنا الآن بحاجة الى جهديكما فأمامنا قفزة كبيــرة بهذا
القسم الذي ظل نائما فترة طويلة .
قال سميع المحمود :
– أننا بأمرتك .
– سأجعلك رئيس قسم التنسيق وسيكون أبــو علي الغالب مساعدك . وستجــري لكمــا
مخصصات مقابل عمليكما هذين .
تبادل أبو علي الغالب وسميع المحمود نظرات ملؤها الفرح . شكــرا علــــي الحسني
على هذا الصنيع الجميل . قال معلقا على ما قالاه :
– لست بحاجة الى هذا الشكر وأنما أنا بحاجة الــــى جهديكمــا وبخاصة أنكمـــا مـــن
الموظفين القدامى المشهود لهما بالكفاءة .
جاءت الفرصة التي يتوجب على أبي علي الغالب عدم أضاعتها فقال :
– قسم التنسيق من الأقسام التي توجب الأتصال بك بأستمرار من أجل أطلاعك علــى
ما تم ، والأستماع الى تعليماتك التي تخص الأعمال الجديدة .
قال علي الحسني مبتسما :
– أعرف ذلك .
رد عليه أبو علي الغالب :
– لكن غيرك لا يعرف .
– تعني سكرتيري ؟
– نعم أستاذ فجنابك يعرف أنه جاء من قسم الحسابات ولا علاقة للحسابات بعملنا .
نادى علي الحسيني سكرتيره الذي فتح الباب ووقف في فتحته . خاطبه قائلا :
– في أي وقت يأتي أبو علي الغالب أو سميع المحمود لمقابلتي أسمح لهما ، مــــا عدا
الأوقات التي أكون مجتمعا فيها بأحد الأقسام .
– أمرك أستاذ .
بعد رجوع السكرتير الى مكتبه ، أمضى الثلاثة أكثر من نصف ساعة فـي حديث عن
العمل في قسم التنسيق . نهض علي الحسني من كرسيه ففهم سميع المحمود ومساعده
أن عليهما مغادرة مكتب المدير الجديد .
بعد هذا الأجتماع تشابكت الخطوط علــى سميع المحمود وأبي علي الغالب ، وعلــــى
الرغم من ذلك لم يرتكبا الأخطاء التي تجلب لهما اللوم ، علــــــى العكس قاما بأعمال
يمكن وصفها بالجيدة والمتميزة التي بعثت الأرتياح لدى علي الحسيني الذي لـم يكتف
بالأطراء وحده بـــل صرف لهمـــا مكافآت تقديرية .خلال تلك الأيام الأولى لعملهمــا
الجديد زار أبو علي الغالب المدير كثيرا معززا صداقة أملتها ضرورات العمل.لكنــه
كان ينظر الى أكثر من العمل الظاهر ، يعني أن خدماته الآخرى ينبغي أن تنطلق في
مجاريها . ألا أن أبا علي الغالب ليس بذلك الرجل الغرير الذي تدفعه الريح في كـــل
أتجاه ، أذن عليه جس نبض الرجل ، وكان أنف الكلب الذي يحمله في منتصف وجهه
قد شم رائحة فيها بعض العفونـــة . فــــــي أحدى زيارات العمل المسائية وبعد أنتهاء حديث العمل همس في اذن المدير بتلك الرائحة . رجع المدير الــــــى الوراء وتساءل
غير مصدق :
– أصحيح ما تقول ؟
– نعم أستاذ .
– هذه خيانة لثقتي به .
قال أبو علي بخبث :
– هذا ما آلمني ودفعني لأخبارك أستاذ .
شكره علي الحسيني على أخلاصه في العمل . بيد أنه توخى الحذر منــــه أذ أنــــه لا يعرفه ، على الرغم من علاقته الوثيقة بالدائرة العملاقة منذ تأسيسها . آيقن أنه تعرف
على كلب سيتبعه أينما يذهب ، ويعدو في أي أتجاه يوجهه اليه . غير أنــه كان بحاجة
الى معلومات أكثر عنه ، فهو لايثق بالكلاب التي تتمسح به كثيرا ، لأنها قادرة علــى
النهش والعض في كل وقت . كان جيشه الجرارمن السيئين قد جمع له من المعلومات
ما يكفي لدائرة أمن متخصصة ، ولم تنقص أي معلومة عن أبي علـــــي الغالب سوى
يوم ولادته . حتى غاياته التي حول من أجلها نفسه الى كلب يضــع ذيلـه بين قائمتيــه
الخلفيتين عرفها علي الحسني ، فأتخذ كل ما يمكن أن يجعله فـي مأمن مــــن شر هذا
الكلب البشري .لكن هذا لا يعني أنه أغلق باب مكتبه في وجهه ، أنما على العكس فقد
قربه اليه كثيرا وأغدق عليـــه المكافآت والمديح أمام الآخرين جراء الخدمات الكثيرة
التي قام بها له .
لم يعد أبو علي الغالب يندب الحظ الخائب ولا الطالع السىء ، لأنه الآن من الأصدقاء
المقربين جدا للمدير شبه العام .بدا للسيئين الآخرين أن أبا علي الغالب قــد أنتهى مـن
أبتلاع علي الحسني ، عندئذ أخذوا يحيكون المؤآمرات بدافـع الغيرة والحسد ، ألا أن
حاسة شم الفضائح والمصائب التـــــي يمتلكهـــا أبو علي الغالب كانت كفيلة بفضـــح
تلك المؤآمرات التي بدت أنها غير محاكة بدقة وجودة .ثـم أقتنع الجيش السيىء أخيرا
بالأبتعاد عنه والأكتفاء بالنظر اليه منتظرين أن يرتكب الأخطاء التي تجيز لهـم نهشه
وتقطيعه ، والأمر الغريب في كل هذا أنه يعرف نواياهم هذه .
سطع نجمـــه فــي سماء الطوابق الأربعة للدائرة العملاقة .حتـــى شريكه القديم سميع
المحمود نظر الى هذا السطوع بقليل من الثقة وعدم التصديق ، كما لــو أنــه ضـد كل
قوانين الحياة والطبيعة ، لذلك حذره من التمادي في هذه العلاقة التي نشأت بينه وبين
مدير هو أكثر أهمية وتأثيرا من المدير العام الحقيقي . هــــذا التحذير جعلـه يتذكر ما
قاله له يوما أبوه السيد :
– تعلم ألا تسير مع الرجال الأقوياء الذين تعمل تحت أمرتهم ..سر دائما وراءهم لكـي
يثقوا بك ، هؤلاء الأقوياء هم أسود قادرة على تمزيق وأكل من يسير الى جانبها .
لكن عقله الملىء بالسم ما نفعه ؟ .. أنه الأن يقترب كثيــرا وبسرعة مــن تحويل علي
الحسني الى خاتم في أصبعه ، فهل يضيع الفرصة ؟.فاجأه سميع المحمود حين قال :
– هل تفكر بذلك الخاتم ؟
– كيف عرفت ؟
– أنت صديقي وشريكي منذ سنوات فكيف لا أعرفك ؟
– لقد تقدمت كثيرا من ذلك الهدف .
– كن حذرا جدا من هذا الرجل .. أنه أدهى منك ومني .
– أنا في أنتظار الفرصة التي سأقفز فيها على كتفيه .
أكد عليه سميع المحمود :
– أكتف بما أنت عليه الآن .
لم يجهل أبو علي الغالب المخاطر التي ستترتب على أقدامه علــــى أي خطوة خاطئة في مواجهة علي الحسني . لم يفته أن الجيش السيىء قد أزداد حنقا عليه بسبب كل ما
فعله لأفساد مؤآمرته .عندئذ دأب علـى وضع أوراقا كثيرة علــــى منضدة المدير شبه
العام في كل مساء ، أوراقا قليلها يحـــوي مقترحات حــول سياقات العمل ، وكثيرها يقطر سما . أكتشف علي الحسني ثقل الأوراق المليئة بالسم على منكبيه ، كما أكتشف
أن العديدين من جيشه قد فقد ثقته بهم . تنبه الى أن أبا علي الغالب قد نسج خطة بالغة
الدقة والتعقيد لفصله عن جيشه ، ودفعه للأعتماد عليه. فزمجر :
– أبن العاهرة .
لكنه أستقبل أبن العاهرة أستقبالا يليق بأبناء الشريفات . بادره قبـل أن يهمس أبو علي
الغالب بصوته الذي أعتاد به على مخاطبة علي الحسني :
– أرجو أن تلتزم بما أقوله لك يا أبا علي الغالب .
أحتج من دون أن ترتفع درجة صوته :
– هل خالفت ذلك يوما ؟
– لا .. هذه المرة أقول لا تخبرني بما يفعله الذين أتيت بهم معـــــــي .. أنهم أصدقائي
وجيشي الذي أعتمد عليه .
أرتعشت عضلات وجهه وأخذت عينه الحولاء تتحرك من دون أرادة منه . تبادر الى
ذهنه أن هذا الرجل القوي قد رماه خارج خيمته ، يعني أنه عاد الـى كونه طريد الجنة
الأبدي . تساءل مـع نفسه وهو جالس علـى الكرسي المجاور لمنضدة علي الحسيني :
أذن ما الذي سيفعله اذا لم ينفث سمه على هؤلاء ؟ . قرر أن يواجه هذا الرجل ، قال :
– أيعني هذا أنك أبعدتني عن رحمتك ؟
التفت اليه وسأله بدهشة :
– من قال ذلك ؟
– أنني أسأل فقط .
طمأنه قائلا :
– ستظل عزيزا يا أبا علي الغالب ولن أسمح لأحد أن يسيء اليك .
لم يصدق أبو علي هذا القول فقد خبر خلال حياته التي عمل فيها مع الرجال المتنفذين
أن ثلاثة أرباع كلامهم من الأكاذيب . فما الذي يتعين عليه القيام به ؟ .هــل يبتعد عنه
مفضلا السلامة على الغنيمة ؟. تراءى له أن كل ما سيقوم به لـــن يكون الحــل الـذي
سيعيده الى منزلته السابقة عند هذا الرجل . لاح لشريكه سميع المحمود وكأن وباء قد
مر به أذ نحل كثيرا عن الأيام السابقة ، سأله :
– هل أنت مريض ؟
– لا .
– هزلت كثيرا يا أبا علي .
قال بأسى :
– لا أستطيع النوم بسهولة .
– ما معنى ذلك ؟
– لا أنام من الليل سوى ساعة أو أقل .
– لماذا ؟
– الأرق .. أنه لا يفارقني .
– بسبب ذلك الخاتم ؟
لم يرد عليه بل نهض من كرسيه وغادر المكتب . جال فـــي ممرات الطوابق الأربعة
مثل ذئب جريح ، لكنه يكتم صرخات الألم التي تتدافع في دمه . لم ير أيا من موظفـي
وموظفات تلك الطوابق على الرغم مــن أكتظاظ الممرات بهم . كان يومان مرا مـــن
دون أن يزور شبيه المدير العام ، وكان ذلك ضد كل مفاهيمه التـــي تعلمها مـــن أبيه
السيد الذي دأب على التأكيد :
– لا تبتعد عن الرجل المهم الذي تعمل معــه مهما كانت الأسباب ، وأذا رماك خارجا
من الباب فعد اليه من الشباك ،أذا أبتعدت عنه فهذا يعني أنك تترك الفرصةلأعدائك أن ينهشوك عنده .أياك والشعور بالكرامة الجريحة وتعلم كيف تبتلع الأهانات .
في صباح اليوم الثالث ولج مكتب سكرتير علي الحسيني الذي أستقبله كما يفعل دائمـا
عندئذ أطمأن الى أن تغييرا فــي النظر اليــه لــم يحدث . أشار بسبابته الى باب مكتب
شبيه المدير العام ، فأخبره السكرتير أنه لم يأت بعد . حاول الأنصات جيدا عله يلتقط
صوتا من وراء باب المكتب . تنبه له السكرتير فسأله بحنق :
– لماذا لا تثق بما أقوله ؟
أسرع أبو علي الغالب ناكرا الأمر ، لكن السكرتير تمادى به الغضب :
– لن أصفح عنك أذا فعلتها ثانية .
خرج من مكتب السكرتير مسرعا من أجل أن لا يتطور الأمر الى مشكلة .فـي طريقه
الى مكتبه شعر أنه يعيش في زمن ملىء بالأزعاج الذي لا يعرف من أين يقبل عليـه
أو لماذا يقبل عليه حينما تنضج كل الظروف مـن حوله لكـي يجلس وراء منضدة مـــا
يمكن وصفها بالمهمة جدا. كما شعر أنه يعيش مخاضا عسيرا خلال زمن فــــي غاية
الرداءة . لم يرد أن يعلق أخفاقاته المتكررة على سوء الحظ والطالع ، فهو يؤمـــن أن
التدبير الحاذق أشد قوة وتأثيرا من الحظ . فجأة ، خطر في باله ما كان غائبا عنه فــي
الأيام التي مضت ، هكذا أكتشف أنه وقف فـــي مواجهة جيش مــن المنافقين الذين لا
يقلون مهارة عنـــــه . كان بحاجة الـــى قليل مـــن الوقت ليصفي دماغه من الفوضى والأضطراب اللذين يعصفان به . لم يتجه الى مكتبه بل ذهب الى مقهى مجاورللدائرة
العملاقة مـن أجل أن يخلو لنفسه بعيدا عن الآخرين .
توصل في توحده في مقهى تكاد تكون خالية فــي ذلك الصباح الــى اللغم الـــذي داس
عليه من دون تبصر. كما توصل الــــى أن عليـه أن يكتسب صداقة عدد مــن أعضاء
ذلك الجيش ، وعلـى الأخص أولئك المقربين مــن علي الحسيني والذين سيجعل منهم
دروعا تحميه من رماح وسيوف الآخرين . أخرج ورقة وقلما وكتب أكثر مـــن ثلاثة
أسماء أعتبرها جديرة بصداقته . عاد الى مكتبه بنفس تخلصت مـــــن أكتئابها . بادره
شريكه سميع المحمود :
– أين كنت ؟
نظر اليه من دون أن يقول شيئا ، أضاف شريكه :
– المدير العام أرسل في طلبك أكثر من مرة .
– أي مدير عام منهما فلدينا أثنان ؟
– مدير عام الطابق الرابع .
– علي الحسني ؟
– نعم .. أذهب اليه بسرعة الآن قبل أن يرسل عليك للمرة الرابعة .. قلت للفراش أنـك
تتابع بعض شؤوننا في القسم السابع .
أستقبله السكرتير قائلا :
– أين كنت ؟ .. قال سميع المحمود أنك تتابع بعض الأمور فــي القسم السابع لكنك لــم
تكن موجودا في هذا القسم .
– كيف عرفت أنني غير موجود هناك ؟
– أرسلت الفراش الى هناك لكنه عاد ليقول أنه لم يجدك هناك .
– كنت موجودا هناك .
رفع سماعة الهاتف ثم قال :
– جاء أبو علي الغالب أستاذ ..
وضع السماعة وقال لأبي علي الغالب :
– أدخل .
أستقبله علي الحسيني بأبتسامة عريضة قائلا :
– أين أنت خلال اليومين الماضيين .
– أواصل عملي تحت أمرتك .
حاول أن يجلس على الأريكة المقابلة لكن علي الحسيني أشار له أن يجلس قريبا منــه
على الكرسي المجاور لمنضدته ، ثم طلب من السكرتير أن يأتي لهما بفنجانين مـــــن
القهوة . تناول ملفا من الورق المقوى مــن أحد جانبي منضدته وناوله الـــى أبي علي
الغالب ، ثم قال :
– هذا ملف مهــم وسري عليك أن تدرسه وترفع لـي تقريرا وافيا متضمنـــا أقتراحات
وحلولا حول الموضوع أؤكد مرة ثانية أن ما يتضمنه هذا الملف غاية فــي السرية
ولا أحد في هذه الدائرة يعرف عنه شيئا سوى أنت وأنا ، فأياك أن تسرب منــه شيئا
مهما كان بسيطا .
– نعم أستاذ .
تناول الأستاذ ورقة وناولها الى أبي علي الغالب الذي قال :
– أهذا أمر آخر أستاذ ؟
– هذه مكافأة لهذا العمل الذي ستقوم به ، وأذا توفقت في الوصول الـى الحلول فسوف
تحصل على مكافأة أخرى .
أنهى شرب قهوته وتبادل حديثا لا علاقة له بالعمل اليومي ، وأشار مـــن طرف خفي
الى موظفة غاية فتي الجمال فــي القسم الثالث . نظر اليــه علي الحسني مــــــن فوق
نظارته الطبية بأستغراب . تظاهر أبو علي الغالب بعدم ملاحظة أو فهم نظـــرة مدير
عام الطابق الرابع ذات المغزى العميق . قرر أن يفر من مكتب هـــــذا الرجل قبل ان
تتطور تلك النظرة الى أمر آخر . خرج مسرعا والملف تحت أبطه .. لم يذهب الــــى
مكتبه ، أنما خرج من الدائرة العملاقة ذاهبا الى بيته ، من أجل أن يتفادى أسئلة سميع
المحمود أو أجباره على قراءة أوراق الملف السرية .
سيطر العجب والأندهاش علـــى أبي علي الغالب جراء المعلومات التـــي تحويها تلك
الأوراق التي كتب علـى كل واحدة منها كلمة (( سري للغاية )) . لــم تكن المعلومات
ذات خطورة على الحزب أو الدولة ، أنما هـي تخص أجراءات رسمية يمكن أن يقوم
بها أحد الموظفين الذين يمتلكون ذكاء وفطنة . سهرفـي تلك الليلة مـــع الملف السري
وملأ ثلاث أوراق بالمقترحات والحلول التي تفتق عنها فكره الـذي أتقد بسبب شعوره
أن علي الحسني لـــم يطوح بـه بعيدا عنـه . كان أحساس بفرح طـاغ قـد أجتاحـه وهو
يستعيد كلمات الرجل شبيه المدير العام ، كما أنه أرتاح كثيرا مــــن العناء الذي رزح
تحت ثقله طوال اليومين الماضيين . لكنه لم يلم نفسه أو يوبخها علـــى الوساوس التي
تجعله يتخيل أمورا غير صحيحة تدفعه الى أرتكاب الكثير من الحماقات .
أنتظر علي الحسني فــي مكتب سكرتيره . تبادل مـــع السكرتير حديثـا طويلا حـــول
أمور غير ذات أهمية ، لمس من خلالها محدودية ذكاء هذا الرجل الضخم الأنيق .بدا
له أن علي الحسني مـن الرجال الفطنين جدا ، بحيث أختار سكرتيرا له ضيـــق الأفق
لكي يسيطر عليه ويتلاعب به بسهولة .في الضحى نال أبو علــي الغالب علـــى الكثير
من المديح والأطراء مــــن علي الحسني الـــذي أطلع علــــى حلوله وأقتراحاته، كـما حصل على مكافأة دسمة مثلما وصفها السكرتير.
الآن ، بعد أن تأكد أن الحياة لم تكفهر في وجهه ، عاهد النفس علـى أن تكون خطواته
القادمة على درب علي الحسني محسوبة بدقة ، وينبغي عليه ألا يتهور أو يتسرع فــي
كلامه أو أحكامه ، أذ ليس كل يوم تأتيه فرصة مثل هذه . بدأ في تنفيذ مــا أزمع القيام
به فتقرب من ثلاثة من المهمين جدا في جيش علي الحسني ، وعلــى الرغم مـــن تقدم
سنهم وكياستهم فقــد مزح معهم كفاتحة للتعارف . أخذ يزورهم مرات عدة فــي اليوم ،
جالبا لهم المجلات العربية والأجنبية التي يحصل عليها فــي قليل من الأحيان ويسرقها
في كثير من الأحيان من سكرتيرة المدير العام للدائرة العملاقة . هــم أيضا تقبلوه فـــي
ضوء أحاديث شبيه المدير العام عن ذكائه المفرط . بدأت نفسه المضطربة تستقر بعــد
أن لمس أعجـــاب علي الحسني وأركان قيادته الثلاثة . أدرك الآن أن المصائب التـــي
دأبت على تمزيق أشرعته لم تكن كلها من تدبير الأقدار غير المؤاتية ، أنما هــي مــن
صنع وساوسه وشكوكه . لكن نفسه هدأت وسكنت .. أعتقد أنــه أفلح في ترويض هذه
النفس الجموح ، فمر عليه الصيف هادئا خاليا من عواصف الحقد والغضب . حتـــى
شريكه سميع المحمود راعه هدوء أبي علي الغالب ، وأعتبر الأمر برمته غيرمعقول
وغير منطقي ، وأن هذا الهدوء يعني أن كارثة كبيرة يعدها هـذا الشريك ستجرف كل
ما موجود من بشر ومن جماد في الدائرة العملاقة . غير أن الـذي يمكن توكيده أن أبا
علي الغالب قد أنتهى مـن التحول الى كوكب صامت يدور فـــي مدار علي الحسني ،
وكان هذا يسعد ويريح شبيه المدير العام .
ثم ظهر ذلك الكوكب الغريم الذي أعتقد أبو علي الغالب أنه يزاحمه في مداره ، وأنــه
ربما سيفلح في الأستئثار لوحده بذلك المدار الذي جهد في شقه لنفسه .كان موظفا فـي
أحدى دوائر الوزارة ، وكان أبو علي الغالب يعرفه جيدا ، فهو داهية في الكذب وفـي
الأحتيال ، ولكن كيف تسنى لعلي الحسني التعرف عليه ؟. لم يستقدمه كموظف ليعمل
فــــي أحد مكاتب القسم الثاني ، بل ليصبح سكرتيره الخاص وحارسه الشخصي الذي
يرافقه أينما يذهب . سأله سميع المحمود حين وجده لا يستقر في مكان :
– ما الأمر ؟
– هل تعرف علي رومي ؟
– نعم .
– ماذا تعرف عنه ؟
– كذاب ومحتال .
– هل تعرفه منذ زمن طويل ؟
– تعرفت عليه في الوزارة خلال أحدى مراجعاتي .
– أهو صديقك ؟
– لا .
– أنه الآن السكرتير الشخصي والحارس الخاص لعلي الحسيني .
قهقهه سميع المحمود ثم قال :
– ستحل علينا اللعنات بدلا من البركات .
– هل عرفت الآن ماذا يقلقني ؟
– نعم .
– ماذا نفعل أذا ما حاول أيذاءنا ؟
– لا تبدأ في الهجوم عليه ، ولننتظر ماذا يفعل ؟
– هل نترك له الفرصة للهجوم علينا ؟
– أعتقد أنه لن يفعل ؟
– ما الذي يمنعه عن فعل ذلك ؟
– خبثه وذكاؤه .
– وأذا فعل ؟
– سيكون لي شرف تحطيم وجهه وأضلاعه .
– والحزب ؟.. هل تخاطر بعضويتك في الحزب ؟
– لقد طرده الحزب منذ سنة .
أطلق أبو علي الغالب زفرة أرتياح ، قال
– الذي يجعلني حائرا أن معظم الذين جلبهم معه علي الحسني هـم مـــن السيئين الذين
يمتلكون سوابق أو مطرودين من الحزب .
سأله سميع المحمود :
– ألا تعرف لماذا ؟
– أنه رجل مهم وله علاقات جيدة بقيادة الحزب والدولة ، فمـــا حاجته الـــى أن يحيط
نفسه بهؤلاء السيئين ؟
أعاد عليه سؤاله السابق :
– ألا تعرف لماذا ؟
– لا .. لا أعرف .
– حتى لا ينافسه أحد على منصبه ، وأذا ما أساء أحدهم فأنه سيبطش به ولا أحـــد من
المسؤولين الكبار في الحزب أو الدولة سيلومه بسبب سمعتهم السيئة .
– يا للداهية .
لم يكن بوسعه أن يتحمل فكرة أن يهاجمه أحد ، فهو قد جبل علــى أن يكــون المهاجم
دائما . بدأ السخط يتسلل اليه بهدوء وببطء . هل كتب عليه أن يصطدم فــــي منتصف
الطريق بمن لا يرتضي له التمتع بالقوة والسلطة . ليس السخط وحده مــن تسلل الــى
قلبه وأنما غيوم الغيرة القاتلة ، كان يحس بها وكأنها السكاكين ذات الأنصال المدببــة
الحادة . كان يفكر بحنق : لماذا عند كل منعطف ينتظرني أبن زنا لينغص علي الحياة
التي أتمناها ؟..هو يعرف أن علي رومي سيصطدم به قريبا أو فيما بعــد ، وأن عليه
ألا يمنحه الفرصة لهذا الأصطدام . قرر أن يكون حكيما ولو لمرة واحدة فــي حياته،
لأن علي الحسيني لن يضحي بسكرتيره الخاص وحارسه الشخصي من أجله هو أبو
علي الغالب . لكن الحكمة التي تدرع بها لم تشر له أن يعقد أواصر صداقة مـــــع هذا
الحارس ، ضاربا عرض الحائط بأقوال أبيه السيد التي تخص اليد القوية التــــي مــن العسير ليها وأذن يتوجب مصافحتها . فجأة ، عثر على الوسيلة التـي تزيح أبن رومي
من سبيله حين تذكر وعيد سميع المحمود بتحطيم ضلوعه ووجهه. عليـــــه أن يستغل
بطريقة ناجعة سرعة غضب شريكه ويوجهها نحو ذلك الحارس الشخصي . عليه منذ
هذه اللحظة أن يؤجج النيران قرب براميل بارود سميع المحمود . بدأ عقله ينـز السم
المشبع به لتحقيق أنتقامه القديم من ذلك الحذاء الذي سبب له طنينا لم ينقطع لعدة أيام.
أضافة الى تنكيله من أبن رومي هذا .
على أنه بالرغم من عقده العزم على نسج المؤآمرات من دون أنقطاع لكـــي يقع ذلك
الأصطدام المدوي بين شريكه وبين علي رومي ، فأنه كان يشعر بوحدة لا نظير لها،
وحدة باردة وقاسية . كان بوده – وقد بدأ السم ينز من تلافيف دماغه – أن يعيث فــي
العالم الذي يحيط به الخراب والدمار. ثم ثارت السماء مــن دون سابق أنذار ، أطلقت
رعدا طويلا عبر تلك السماء المدلهمة مـــن طرف الـــى طرفها الآخر. تساءل : ماذا
يعني كل هذا ؟ .. تراءى له أنه يسمع صوت الرعد لأول مرة في حياته ، ثم تذكر أن
الشتاء قـــد حــل منـــذ أكثر من شهر لكن مــن دون مطر أو رعد . الآن يسمع صوت
المطروهو يضرب زجاج نافذة غرفــة الأستقبال ، كما يسمع صوت أرتطامه بأسفلت
الشارع .
نام تلك الليلة نوما زاخرا بالكوابيس المليئة بالعنف والدم والحيوانات التي لا توجد في
واقع الحياة .أستيقظ في اليوم التالي خاليا من الآمال ، يعني أنه لم يكن فـــي لهفة لأي
شىء مما يهم الآخرون .لم يكن فـي دماغه سوى السم الذي أنتهى من ملىء تجاويفــه .
في الطريق الى دائرته التقى مجاميع مـــــــن الأطفال الذاهبين الى مدرستهم ، أثارت
ثرثراتهم وأصواتهم الحادة حنقه حتى كاد يزجرهم ، ألا أنه أبتعد عنهـم مسرعا.أزداد
حنقه حين ألتقى علي رومي في بهو الأستعلامات . حاول أن يتحاشاه لكـــن الحارس
الشخصي بادره :
– صباح الخير أبا علي الغالب .
أجبر على رد التحية ، فخاطبه :
– ليلة أمس أمطرت مطرا ثقيلا .
– وهذا ما جعلني أنام متأخرا .
– هذا الشتاء ينذر بمطر كثير .
صعد الأثنان السلالم القصيرة الى الطابق الرابع . كان علي رومي لا يكف عن الكلام
ولا عــن التدخين . علـــى عتبة الطابق الرابع وقف الأثنان يلهثان قليــــلا . سأل علي رومي :
– هل تشرب يا أبا علي الغالب ؟
– أشرب ماذا ؟
– العرق .
– لا .
– شىء مؤسف .
نظر اليه أبو علي بدهشة وسأله :
– شىء مؤسف؟ .. لماذا ؟
– لأنني كنت سأدعوك هذه الليلة لجلسة في أحد النوادي .
– شكرا لك على كل حال .
تركه متجها الى مكتبه في نهاية الممر الأيمن بائسا ونادما على أضاعة فرصـة بسبب
تعجله بالكلام ، فالجلسة تلك كانت ستخدمه كثيرا في توريط هذا الحارس فـــي العديد من المشاكل .وحتى في تلك الحالة مـــن البؤس والندم لم يكــن قد هزم تماما ، أو فـي
الطريق الى الهزيمة ، أذ أنه قادر دائما على الأستعانة بدروعه الوهمية التي تحميه من
أن يكون فريسة للآخرين . لم تكن تلك الدروع سوى الوصفة الذكيـة والناجعـة التـــي
صنعها له أبوه السيد منذ كان طفلا :
– لا تبك أمام من يتمنون محقك ، تماسك حتــى لــو شعرت بقلبك على وشك الخروج
مــن فمك قطعا قطعا ، العــق جراحك بصمت مثلمــا يفعل الكلب ، وراكم آلام تلــك
الجراح فوق بعضها الى أن يأتي اليوم الذي تعيد هــذه الجراح الى من أحدثها،وأنس
كل ما قيل عن الكرامة ، فأؤلئك الذين هبوا من أجل كراماتهم ذهبوا مبكرين الـــــى
القبور .
لكن الصرير على الأسنان جراء تحمل آلام الضرب، أضافة الـى نسيان كل مـــا يمت
الى تلك اللعنة التي تسمى الكرامة ، لم يمنحه السعادة أو حتى الشعور بها ، وهــا هـو
بدأ منذ زمن غير قصير في ركام الآلام التي جناها مـن الآخرين معلـلا نفسه المذلــــة
والمهانة بأنتظار يوم الأنتقام . أو فـــي الحقيقة أيــام الأنتقامات أذ أن الذيــن أهانـــوه
وأغطسوا كرامته في الوحول كثيرون ولا يمكن له أن ينتقم منهم جميعا فـي يوم واحد.
تساءل بأسى : هل أنتقم من واحد منهم ؟.. طوى جوانحه علــــى الصمت الذي يجرح
أكثر مما يعالج ، فهو يدرك أنه عاجز عن مقاتلة أعدائه ، عاجز عن مواجهتهم والنيل
منهم كضرب من الأنتقام لنفسه وكرامته ووجوده . تحمل الكثير مــن الضرب والشتم
وحتى البصاق من دون أن يثور ويهجم ويقاتل ، كان أفضل ما يفعله فـي تلك الأوقات
هو اللجوء الى دروعه الوهمية ، هربا من الخوف الذي كان يخلخل كل المفاصل فـي
جسمه . كانت عينه الحولاء تتحرك مرتعشة في مقلتها بسبب الألم القاسي الـذي يتمدد
بسرعة هائلة في أعماقه حين يعترف لنفسه أنه ولد جبانا . هل كتب عليه أن يجتر كل
تلك الآلام التي حفرت عميقا في نفسه مثلما تجتر الأبقار طعامها لأنــه ولـد بجنان غير
متماسك وغير قوي ؟. ألا أنه سرعان مــــا ينسى تلك العذابات التــــي تعود عليها منذ
الصغر . كان يتردد بسرعة بين طرفين غاية في الأختلاف مثل مكوك الحائك،طرف
الأحساس العميق بالذل والأهانة وطرف نسيان هذا الأحساس .
لم يجد في مكتبه المشترك مع سميع المحمود ما يثير حماسته للقيام بعمل ما . بدا لـــه
شريكه مهموما هذا الصباح ، فلم يسأله عما حدث له ، وأنما فضل كعادته أن يتركـــه
يتكلم من تلقاء نفسه ، لكن الوقت أقترب من الظهيرة من دون أن يفصح هذا الشريك
عما جرى له . فجأة ظهر فراش الطابق الرابع فـــي باب المكتب ، قال مخاطبا سميع
المحمود :
– الأستاذ يريد أن يراك .
تبادل سميع المحمود وأبو علي الغالب نظرات الأستفهام . سأله أبو علي الغالب :
– أترغب في أن آتي معك ؟
– لا .
ترك المكتب يتبعه الفراش . ثـم عاد سريعا بوجه منقلب ماضغا شفته السفلى بعصبية.
قال بغضب قبل أن يجلس وراء منضدته :
– وبخني بشدة .
– من ؟
– كاد يعاقبني .
– من هو الذي وبخك بشدة وكاد يعاقبك ؟
– وهددني بالرمي خارج القسم الثاني .
– ألا تقول لي من هو ؟
– ومن يكون غير علي الحسني ؟
نظر اليه أبو علي الغالب بأستغراب ، سأله :
– لماذا ؟ .. ماذا حدث بينكما ؟
قال سميع المحمود وهو يلهث من الغضب :
– لم يحدث أي شىء بيننا .
– لماذا وبخك وكاد يعاقبك أذن ؟
– بسبب أبن الرومي الكلب .
أوشك أبو علي الغالب على القفز من كرسيه ، سأل شريكه مندهشا :
– ماذا فعل هذا الكلب أبن الرومي ؟
– شكاني عند علي الحسني .
– لماذا ؟
– لأنني أوشكت أن أحطم وجهه هذا الصباح .
شعر أبو علي الغالب بالأرتعاش يهز ساقيه ، ولم يستطع أن يميز فــــي تلك اللحظات
بين مشاعره الغامضة المترددة بين الفرح والخشية . مع ذلك فهو متلهف لمعرفة كــل
ما يتعلق بهذا الأمر .. قال :
– هيا قل لي ما حدث بكل التفاصيل .
حكى له كل ما حدث في هذا الصباح في بهو الأستعلامات ، كان سميع المحمود قــــد
جاء مبكرا جدا خلافا لعادته ، فجلس علـى كرسي المنضدة الثانية للأستعلامات ريثما
يمر بعض الوقت ليصعد الى مكتبه ، فـــــي ذلك الوقت عينه دخل علي رومي صالة
الأستعلامات ،وحين رأى سميع المحمود جالسا وراء المنضدة سأله ضاحكا :
– هل نقلوك الى الأستعلامات ؟
شعر المحمود بالغضب يتحرك تحت جلده ، قال :
– لا وأنما أريد أضاعة بعض الوقت .
قال علي رومي مازحا :
– الأستعلامات تليق بك .
الآن أرتفعت درجة الغضب فقال بحنق :
– لا تردد هذا الكلام مرة أخرى .
لم يتنبه علي رومي لهذا الغضب الذي تصاعد بشكل مفاجىء فقال متماديا في المزاح
– أنت تصلح زعيما لهذا المكان .
نهض سميع المحمود من مكانه وهدر غاضبا :
– سأحطمك تحطيما يا أبن عاهرة العاهرات .
قبل أن يخرج مــن وراء المنضدة ركض علي رومي نحــو السلالم وتسلقها بسرعـة قبل أن يدركه سميع المحمود . ختم كلامه :
– فر من بين يدي .
– أنت لا تحسن التصرف الحسن .
سأله بذهول :
– كيف ؟
– ما دمت قررت ضربه لمــاذا هددته بصوت عال ، كان عليك أن تنهض بهدوء ثـــم
تتقدم نحوه بهدوء وتسدد اليه الضربات بهدوء أيضـــا . أنهم حسبوها عليك مشاجرة
وأنت لم تفعل شيئا .
وافقه هازا رأسه :
– أنت على حق .. كان يجب أن أفعل مثلما قلت لكنه الغضب .
– والآن ؟
سأله بأستغراب :
– والآن ماذا ؟
– ماذا ستفعل ؟
– لا أدري .
– يجب أن تتصرف بسرعة .
– ماذا تعني ؟
– يجب أن تصلح الأمور قبل أن تفسد أكثر .
– كيف سأصلحها ؟
– سنذهب سوية الى علي رومي من أجل أن تعتذر منه .
صرخ سميع المحمود :
– أعتذر منه ؟ .. أنني سأقتله لو رأيته .
– بل تعتذر منه ..الآن .
نهض أبو علي الغالب من كرسيه وخاطب شريكه :
– هيا أنهض .
– يبدو أنك مجنون ..
– المجنون هو أنت ..هل نسيت أن علي رومي هــــــو السكرتير والحارس الشخصي
لعلي الحسني ، وأنه سيهمس طوال الوقت في أذنه ما فعلته بــه أمام الآخرين فـــــي
بهو الأستعلامات ، يعني أنه سيوغر صدر الرجل عليك وسيدفعه للتنكيل بك .
– أتعتقد أنه سيفعل ذلك ؟
– أعتقد ؟ .. أنا واثق أنه حين فر منك لم ينتظر علي الحسني حتــى يقدم الــــى الدائرة
بل أخبره بما حدث عبر الهاتف . يعني أنه عجل بقدوم سيده . والآن أنهض .
– هل يجب أن أعتذر منه ؟
– نعم حتى تقطع الطريق عليه من أجل أن لا ينفذ ما في رأسه .
دخل الأثنان في مكتب السكرتير ، سأله أبو علي الغالب عن علي رومي وأين يمكــن
أن يعثر عليه . رد عليه السكرتير بسؤال :
– لماذا ؟
– من أجل أن يعتذر منه سميع المحمود .
أنفرجت أسارير السكرتير المشدودة .. قال مخاطبا سميع المحمود :
– لا ينبغي أن تكون سريع الغضب دائما .
رد عليه أبو علي الغالب :
– أنه ليس سريع الغضب ولكنه أمس مساء أصابته حمى جعلته يرتعش طوال الليل.
تفحص السكرتير سميع المحمود ليتأكد من صحة هذا الكلام ، فتصنع سميع المسكنة
عندئذ قال السكرتير :
– في مثل هذه الحالة كان عليك أن لا تأتي الى الدائرة .. كنت تتصل بـــــي وتخبرني
بحالك .
سأله أبو علي الغالب :
– والآن أين نجد علي رومي ؟
– ستجدانه في مكتب المستشارين .. هل آتي معكما ؟
أجابه أبو علي الغالب :
– ستجعلنا شاكرين لك هذا الصنيع .
تقبـــل علـــي رومي أعتذار سميع المحمود وسط كلمـات أستحسان المستشارين وأبي
علي الغالب والسكرتير ، وقيل كلام كثير عـــن الصداقة والأصدقاء والهفوات التـــي
تحدث على الدوام ، غير أن الأعتذار يرممها في كل الأحوال .
حين عادا الى مكتبهما أحس أبو علي الغالب أن شريكه هدم كل ما بناه في خياله مــن
خطط تدميرية تطيح ليس بعلي رومي وحــده ، بل بمعظـم المحيطين بعلــــي الحسني
الذين يطلق عليهم تسمية جيشه المحارب . كان يتساءل بحنق لمــاذا تصرف شريكــه
بهذا الشكل الذي يدلل على الحماقة والطيش .فكر: ضاع كل ما يمكن الأعتماد عليـــه
فـــي كفاحه المرير للسيطرة على شبيه المدير العام .الآن عليــه الأعتماد علـــى نفسه
وعلـــى عقله المليىء بالسم فـــي مواجهة العالـم الــذي يضرب حولــه طوقا متماسكا ومجهزا بمختلف الأسلحة التدميرية التي لا طاقة لــه علــى مقاومتها مــن دون حليف
قوي وماكر. تساءل بأسى : أيـــن يجد مثل هـــذا الحليف ؟.. كان قـــد أعتقد أن سميع
المحمود العضو في الحزب يمكن أن يكون شريكه ، لكن هذا الرجل برهن علـى عدم
أهليته للشراكة في مهمة تماثل مهمته في بسط السيطرة والسطوة علـى الآخرين.هكذا
غسل يديه يائسا وحزينا وبائسا من عالم زاه وبراق أنبثق مـن أحلامه هو وليس مـــن
تواتر الأحداث والظروف .
فقد الزمن الذي كان يعلـــق عليه فيما مضى كل أهمية بالنسبة له ، فما عاد يجدد همـه
كل يوم لأداء الخدمات ذات الخصوصية لشبيه المدير العام ، لكي يرصن موقعـه لديه
موحيا اليه بأستمرار أهميته في مرافقته طريقه ، لا لأنه فشل فــي شق الطريق معـــه
ولا لأنه لم يجتز الموانع المنصوبة في منتصف ذلك الطريق ، وأنما لأحساسه العميق
بقدرات هذا الجيش الذي يحيط بالرجل والتـي تتجاوز قدراته بكثير . كان ذلك أعلانا
صريحا بفشله في السباق الذي عول عليه كثيرا فيما مضى . ثــم حل زمــن الحماقات
التي طوحت بكل الأماني والأحلام المشروعة وغير المشروعــة . يعنــي أن الشريك
الذي أعتقد أنه الشخص الوحيد فــي عالمه الفارغ المهجور الذي يمتلك القدرة لأعانته
في تنفيذ مآربه قد أحبط آماله،ورأى أن ذلك الأعتقاد باطل وأنه سبح بعيدا جــدا فـــي المياه الزرقاء لأحلامه الزاهية . بحث في ذاكرته وكد فـــي هذا البحث علــه يجد مثل هذا الذي يحدث له الآن في قول مـن أقوال أبيه السيد ، ألا أنه فشل فأبوه السيد لـم يكن
يثق أبدا بأحــد أسمه صديق . فجأة ومــــن دون سابق أنذار طفت الـــى السطح ذكرى
مرارة المرارات التـي تتحول بسرعة الـــى ما يشبه مسمار طويل محمى حـــد الأتقاد
لينغرز فــي أعماقه ، تلك هي لجان تطوير العمل ، تلك الجنة التي فقدها والتــي ينوح
عليها دائما .
عادت أعتقاداته القديمة في عقم الحياة التي يحياها الى الطفو علــى سطح دماغه ، أذ
رأى أن علي الحسني قـــد نأى عـنه كثيرا ، كمــــا أن محاولاته لزيارته في الصباح أو
فـي المساء قد آلت الــى الفشل . لـــم يشك أبدا كعادتــه بالسكرتير ولـــم يصمه بالكذب
عندمــا يخبره أن الأستاذ يعتذر عـــن أستقباله فهــو مشغول جـدا ، لأن السكرتير كان
يرفع سماعة الهاتف ويخبر شبيه المدير العام برغبة أبو علي الغالب فـــي زيارته ،كان
يسمع أعتذاراته عبر السماعة . تساءل مرارا وبحنق عـن ذنبه فــي الحادثة التـي جرت
بين شريكه والسكرتير والحارس الشخصي لعلي الحسني . أختفت مـــــن حياته الجديدة
المجدبة تلك الأحاديث الحميمة التي كانت تدور بينـــه وبين الأستاذ مثلمـا يكنيه الجميع
لوقت قد يتجاوز الساعتين . ثم بدأ يحوم حـــول مكتبه صباح وظهر ومساء كل يوم عل
الحظ أو المصادفة تجعلهما يلتقيان . غيــر أن الحظ والمصادفة أدارا ظهريهمــا لأبـــي
علي الغالب . كان هذا مدعاة لأضرام نار الحقـــد والغضب فــي أعماقه الملتهبة أصلا
بكل أنواع النيران .
سافر الــى قريته ، سافر ليضع رأسه الذي يكاد ينفجر على صدر أبيه السيد . لـم يشعر
فيما مضى بمثل عظم حاجته للنصائح ، لا أنه الآن بحاجة الـــى تعليمات عملية ترشده
الى كيفية العودة الى مملكة علي الحسني حيث السطوة والمال . قال:
– طوح بي بعيدا عنه مـــن دون ذنب يا أبي . أنا على يقين أنهــم أوغروا صدره علــي
وأمحوا كل الود الذي يكنه لي .. أنه الآن يتحاشى رؤيتي .. أننــــي الآن أشبه برجــل
يجلس علــى طرف الرصيف بعد أن كان ذا حظوة وسطوة ..ماذا أفعــل يا أبــي لكـي
أعود الى ما كنت عليه .
قال أبوه السيد :
– ذكره بك .
– كيف وهو يتحاشى رؤيتي وينفر من لقائي ؟
– أظهر له قوتك ، أعني مهارتك في الأساءة وعمل الشر .
– تعني أسيىء له ؟
– حين لا ينفع تذكيره بالخير ذكره بك بالشر .
– وأذا بطش بي ؟
– عندما يكتشف قوتك الشريرة سيهابك .
– أنا أخاف منه فهو لا يهاب أحدا .
– ماذا ستخسر أكثر من الذي خسرته يا أبا علي الغالب ؟
– ألا يوجد شىء آخر غير الأساءة له؟
– الأقوياء لا يهابون ألا الأشرار يا أبا علي الغالب .
– ولكنني ياأ..
قاطعه أبوه السيد بصوت هادر :
– أنت شرير تحدرت من سلالة طويلة من الأشرار وتقول لي أنك تخاف ؟
هب أبو علي الغالب من نومه . جلس في السرير وتساءل :
– أكل هذا كان حلما ؟ .
لكنه حلم يحمل الكثير من البشائر اليه ، فقد أشار له مارآه فـي المنام أن يركب زورق
الشر ويمضي منطلقا الى هدفه مـن دون شعور بالخوف أو الوجل . أيقن أن أباه السيد
ذو منفعة عظيمة في الصحو والمنام .عقد العزم على عض علي الحسني عضة دامية
حتى يجعله يعرف قيمة وأهمية أبي علي الغالب .
في ضحى اليوم التالي دخل مكتب السكرتير الذي لم يكن موجودا في ذلك الوقت.فتش
بسرعة حافظة الأوراق علــــى منضدته فوجــد ملفا يحمل مذكرة تشير بتعليمات الـى
القسم السابع ينبغي أن تطبع وتوزع علـــى جميع دوائر الوزارة بموجب أوامر القيادة
العليا للحزب والدولة . بــدا لأبي علي الغالب أن طير السعد الجالب للحظ السعيد حط
على كتفه . خرج الــى الممر ليرى أن كان أحــد قادما في أتجاهه . كان الطابق الرابع
خاليا تماما ، فعاد مسرعا الى تلك المذكرة ، قرأها مرة ثانية ، ثـم أخرج قلمه وشطب
بضع كلمات وكتب بدلها كلمات أخرى فتغير المعنـــى الى العكس تماما . أعاد الملف
الى مكانه في حافظة الأوراق وخرج مسرعا من مكتب السكرتير . لـم يلتق أحدا فــي
الممر خلال ذهابه الى مكتبه . أخرج أوراقا أخذ يخربش بها مـــن أجل تضييع الوقت
الذي كان يحس بثقل وقعه . لكن ما قام به كان من الأعمال الخطرة التـــي يجفل لهــا
القلب ، لذلك علا الأصفرار وجهه .
فـــي ضحى اليوم التالي تحركت الدنيا حركة سريعة جــدا جعلت الكثير مــن الأشياء
تتصادم ببعضها . كان هذا ما يتوقعه أبو علي الغالب ، لذلك بكر كثيرا فـــي المجيىء
الى الدائرة لكي لا يفوته شيئا مما يحدث . في الضحى وزع فراش القسم الثاني علــى
جميع الموظفين أوراقا تحمل كل واحدة منها سؤالا محددا : هل رأيت أحدا يدخل فـي
مكتب السكرتير ضحى يوم أمس ؟.. كانت جميع الأوراق التي عادت الـــى السكرتير
تحمل كلمة : لا . جلب السكرتير الملف الذي يحمل المذكرة من القسم السابع ووضعه
على المنضدة أمام شبيه المدير العام . لم يجد مذكرته في الملف الذي كان خاليا .نظر
الى سكرتيره ثم هب من كرسيه قائلا له :
– أتبعني .
ناول علي الحسيني الملف الفارغ الى رئيس القسم السابع :
– هل تشرح لي ماذا يعني هذا ؟
أرتبك رئيس القسم وهو يرى الملف فارغا . قال :
– أنا أيضا لا أفهم معنى هذا ؟
– ألم تر أنت أو أحد موظفيك شخصا دخل الى قسمكم أمس أو هذا الصباح .
– أنا لم أر أحدا من غير موظفي القسم يدخل الى مكاتبنا .
أستدعى جميع الموظفين واحدا بعد الآخر ووجه لهـــــم السؤال نفسه . كانت أجاباتهم
جميعا بالنفي . قال رئيس القسم :
– في هذا القسم نطبع ونوزع جميع مذكرات رؤوساء الأقسام، ولم يحدث مثل هذا أبدا
فيما مضى .
قامت القيادة العليا للحزب والدولة بالتحقيق مــع علي الحسني الذي أعترف أن الرجل
الذي يعمل سكرتيرا لــه لم يتخذ أحتياطات السلامة ،فترك باب مكتبــه مفتوحا وذهب
ليتابع قضية مهمة فـــــــي قسم آخروالملف الذي يحمل المذكرة فوق منضدته . أكتفت
القيادة بتوجيه توبيخ أثر فيه كثيرا . بعد أكثر مــــن أسبوع أدخل السكرتير على شبيه
المدير العام أحد أفراد الشرطــــة الذين يقومون بحراسة مبنى الدائرة العملاقة . طلب
منه الجلوس على الأريكة المقابلة له .. سأله :
– أذن من هو ؟
– أبو علي الغالب .
مضغ علي الحسني شفته السفلى ، قال :
– في أي ساعة مر بك من الباب الخارجي ؟
– لم يمر بي من هناك ؟
– أذن أين رأيته ؟
– في الطابق الثاني .. كنت أقوم بجولتي في الفجر فــــي طوابق الدائرة عندمــا لمحته
يدخل غرفة الطابعة .
– كيف دخل اليها وهي مقفلة ؟
– لا أدري .. كنت عند بداية السلم وغرفة الطابعة تقع في نهاية الممر.
– هل رأيت في يده مفتاحا ؟
– لا أستطيع أن أقول نعم لأنني كنت أرى ظهـره فقط حين وقف أمام الباب . ثم خرج
بسرعة وحياني حين مر بي .
– ألم تسأله ماذا يفعل في ساعة مبكرة وفي طابق غير طابقه ؟
– أنه ليس غريبا حتى أسأله فأنا أعرف أنه أحد موظفي الدائرة .
بعد خروج حارس الدائرة من مكتب علي الحسني . التفت الى سكرتيره قائلا :
– لا نملك أي دليل ضده سوى قول الحارس أنــه رآه يدخل في غرفة الطابعة ، وحتى
هذا القول يمكن أن ينكره .
سأله السكرتير :
– يعني ستتركه من دون عقاب ؟
– أنا أعرف أنه هو من قام بذلك ، لكنني لا أمتلك الدليل .. لقد ضربني ضربة مؤلمــة
جدا لن أنساها أبدا .
– دعني أنتقم منه .
– ماذا ستفعل له ؟
– أقسم أنني سأسحقه بالأحذية مثلما فعل سميع المحمود .
– أحذر مــن أن تفعل ذلك .. الأيام ستكشف كل شىء . وأقفل مكتبك حين تخرج .
قال السكرتير بأسف عميق :
– لم أتصور أن مثل هذا يمكن أن يحدث .
– عندما تكون محاطا بالسيئين توقع أن يحدث كل شىء .
– أرجو أن توافق على أستبدال قفلي بابي مكتبي ومكتبك .
– هذا رأي حكيم .
شاع فـــي مكاتب الطابق الرابــع ما جـرى لشبيه المدير العام ، وكانت شائعـة تتداول همسا بأن مــن تلاعب بكلمات المذكرة هــو أبوعلي الغالب الــذي قرر معاقبــة علي
الحسني لأبعاده عنه وحرمانه مــن المكافآت التـــي كان يغدقها عليه فيما مضى . ذلك
الهمس لم يقف عائقا دون أن يسمعها أبو علي الغالب وهمسا أيضا . منــذ تلك الحادثة
دأب أعضاء الجيش السىء علــى الأبتعاد عــن أبي علي الغالب ، وكأنــه مصـــــاب
بالطاعون . لم يغضب أبو علي الغالب لما يسمعه أو يراه مـن هذا الجيش الذي لا يقل
أعضاؤه قذارة ولؤما عنه ، على العكس كان سعيدا ، كان فرحا الى حد أنه يكاد يطير
في الجو من شدة هذا الفرح ، لأنه أستطاع لأول مرة في حياته أن يحقق أنتقاما ممـــن
نبذه وأحتقره كما لو أنه أبرص . نظر الى نجاحه فــي أنتقامه كمن أنجز أقامة الجنائن
المعلقة . في قمة سعادته التـي لم يشعر بسعادة مماثلة لها فــي كل سنواته السابقة قرر
أن يتذوق مـن دون توقف حلاوة أنتقاماته القادمة التــي سيقوم بها تباعا ضد كل مـــن
آذاه وعامله كدودة أرض لا قيمة لها . أحس بالسم ينز مــن كل تلافيف دماغه ، أحس
أنه يتحول الى أفعى تسعى الى عذاب وموت الآخرين . هزه الشوق الــــى رؤية علي
الحسني بعد أن كيل لـه العقاب والتوبيخ ممن لا يستطيع أن يرد عليه بكلمـة . ظهرت
أبتسامة شاحبة في محياه الذي مازال يعلوه الأصفرار ، قال بصوت خافت جدا :
– هذه أولى الضربات يا علي الحسني .. أنتظر., ستنال الكثير منها حتــى تعرف مــن هو أبو علي الغالب ؟ .
لم يكن وعيده أبن هذه اللحظات ، أنما كان يدور فــــي دماغه مثل كوكب ينثر العذاب
والغم منذ سنوات طويلة ، منذ طرحه خضير أرضا لاكما ورافسا أياه . لكن أنتقامـــه
الذي أوجع علي الحسني هـو مـن جعل وعيده يبدو حديث الولادة . قرر أن يضع على
لائحة أنتقامه أسماء الذين يتوجب عليهم أن يتجرعوا سمه الزعاف . أقتنع مــــن دون
أي أمارة مـن الشك أن المنتقم الخالي قلبـه من الرحمـة قـد ولـد ، وأن زمـن الوجــــل
والخوف الذي كان يعصر أبي علي الغالب قد وصل نهايته . أدرج العديد من الأسماء
على لائحة الأنتقام ، وكان يمضغ شفته السفلى خلال حفره لتلك الأسماء فـــي ذاكرته
التي لا يتسرب منها شيئ . توصل الى أن عليه تأجيل القصاص من شريكه الـى وقت
آخر فهو مايزال يحتاج اليه كحام له من تهورات الآخرين ،وعلى الأخص مـن أولئك
الذين ينضوون تحت خيمة الحزب . أن أساءته الكبيرة لشبيه المدير العام دفعته الـــى
تصور نفسه أحد الأشخاص العصيين على الأنهزام أو الأندحار ، لذلك شعر خلال ما
كان يخطط لسلسة أنتقاماته أنه أشبه بقائد عسكري لامع يتمتع بعقل نير .
مع كل الذي حدث مــن حنق وغضب وفوضى فــي الطابق الرابع بعد ذلك التحقيـــق
الشهير الذي تعرض له علي الحسني ، والذي أقسم العديد مـن أعضاء جيشه أنه لـــن
يمر مثلما تمــر سحب الصيف البيضاء ، وأن الأنتقام سيكون ذا جلجلة وأصداء ، فأن
أبا علي الغالب أخفـــى كل مخاوفه بمهارة مرتديا ثياب البرىء المسكين الـذي أنهالت
عليه الأتهامات من الجدران والسقوف . واصل تظاهره بالبراءة والمسكنة فزارمرارا
المستشارين الثلاثة فــي مكتبهم ، متحدثا عــن كل الأمور التي يعرف أنها تهمهم . لـم
يتطرق الـــى ما جرى لعلي الحسني وكأنه لــم يسمع بــه ، وهــذا ما أثار دهشة اولئك
المستشارين وأستغرابهم ، فقرروا أجراء تحقيق غير رسمي وغير مباشر معه، يعنـي
جره الـــى حديث طويل ذي أفخاخ عديدة . لكن أبا علي الغالب تفادى الوقوع فــي تلك
الفخاخ بمهارة وحيلة ثعلب ، مـن دون أن يشعرهم أنه أكتشف نيتهم في الأيقاع بـه منذ
الوهلة الأولى لحديثهم الملغوم .
هل حاول أبو علي الغالب فــي زياراته المتكررة للمستشارين أن يزرع الشك وعـــدم
اليقين في صفوف جيش شبيه المدير العام ؟ . مـــن الــذي يجزم على ذلك ؟ . الحقيقة
أن أبا علي الغالب كان متحرقا لأستعادة الحظوة عنـد علي الحسني ، فهــو غير معتاد
على البقاء في الصفوف الخلفية بعيدا عــن المسؤول الأول ، كان متحرقا للسير خلف
علي الحسني من أجل أن يستعيد السطوة التــي تجعله مرهوب الجانب مــن الأخرين .
صحيح أنه أساء ، وصحيح أنه أنتقم لنبذه بهذا الشكل ، ولكن ذلك لــم يكـــن للكراهية
وحدها ، أنما كان لترويض شبيه المدير العام وأيصال معلومة اليه هــي أنـــه لا يجوز
رمي أبا علي الغالب بعيدا عنه .
في صباح أحد الأيام لاحظ أن شريكه يطيل النظر اليه ، سأله :
– ماذا ؟
– أصبحنا من المغضوب عليهما .
– ماذا تعني ؟
– أعني أننا الآن مثل فردتي حذاء قديم مرميتين في برميل القمامة .
– لماذا هذا التشبيه ؟
– ما قيمتنا في هذا القسم ؟
– سيحتاجون الينا .
– متى ؟
– لا أعرف بالضبط ، لكنهم سيحتاجون الينا .
– أعتقد أن علي الحسني سيرمينا خارج القسم .
– ما سبب أعتقادك ؟
– لأننا سرنا في أتجاهه المعاكس .
– أنا لم أسىء اليه أو الى أحد بطانته مثلك .. أذا رماك خارج القسم فهــو يمتلك بعض
الحق ، لكن أنا ماذا فعلت له ؟
قال سميع المحمود ضاحكا :
– أنت حاولت رميه في السجن .
أحتج أبو علي الغالب بعنف :
– أنت تقول مثل هذا الكلام ؟
– يا أبا علي الغالب أنت صديقـــي وأعرفــك جيـــدا وأعرف أساليبك فـــــي التلاعب
بمذكرات رؤوساء الأقسام ، هـــــل نسيت ماذا فعلت بمذكرة عبد الجبار حسين ، أم
أذكرك بما فعلته بمذكرة حسين العلوان ؟
شحب وجه أبو علي الغالب وبدأت عينه الحولاء تتحرك بسرعة في محجرها ، قال:
– هذه المرة لست أنا ..
– بل أنت فلا أحد يجيد هذه الطريقة غيرك .
قال أبو علي الغالب بغضب :
– لست أنا .. هل تريد تدمير حياتي ؟
– أنت تعرف جيدا أنني لن أسيىء اليك أبدا ، كما أنني لست من الغباء لأخبرالحسني
بما فعلته لأنه سيشركني معك . أنت تتصرف من دون الأهتمام بمصير الآخرين .
تجنب أبو علي الغالب الحديث مع شريكه لفترة من الوقت بعد تلك المحادثة التي رآى
أنها قاسية وجارحة ، كما أنها تضمنت أتهاما صريحا له بما حدث لشبيه المدير العام،
وأن هذا الأتهام لو تناهى الــى سمع هذا الشبيه فسوف يرسله الــــى السجن . أستطاع
سميع المحمود أن يحصره في أخطر أنواع الزوايا التي لا تجلب المهانة والذل حسب
وأنما تجلب السجن وربما الموت . أنقلب زهو نجاح أنتقامه الـــــى رعب مستديم مما
يمكن أن يفعله سميع المحمود . لــم يمحضه ثقته فـــي أي يوم مـن الأيام علــى غرار
ما كان يفعله أبوه السيد عندما كان كاتبا وأمين سر أسرار الشيوخ فـــي العهـــد القديم
الذي ولى . خطر في باله أكثر من مرة أن هــذا الشريك يمكنه ببساطة لا نظير لها أن
يبيعه من أجل مكافأة بائسة ، من أجل ثمن بخس . رأى أنه ينحدر بسرعة فوق طريق
مائل نحـــو هاوية مظلمة يجهل أيــن يكمن قرارها . أيقن أنـــه أذا لــم يوقف أنحداره
السريع هذا فأنه هالك لا محالة .
ثم بدأت تهاجمه الأخيلة السوداء الهائجة مـــرة ، وتتقاذفه بعنف فيما بينها مثل كرة لا
وزن لها مرة أخرى . كانت تلك الأخيلة السوداء التي أخفق في تحديد معالمها تصرخ
وتعوي وراءه وأمامه مثل قطيع من الذئاب الكاسرة . تلك لـم تكن أحلام منام أو يقظة
بل هو يراها حقيقة تسير معه علــى الأرصفــة وعبــر الشوارع .. توقف يوما علـــى
ناصية الطريق قريبا من بيته ، وتساءل بصوت مسموع :
– هل أنا في طريقي الى الجنون ؟
لكنه أنكر ذلك فيما بعد ، أنكر أنه وقف على ناصية الطريق ، وأنكر أنـــــه سأل نفسه
هذا السؤال . كمــا أنكر أنه تلاعب بمذكرة علي الحسيني وقلب معانيها ، وأكــد لنفسه
أن هذه ليست سوى أشاعة لبلبلة عقول الناس ودفعهم للنيل منه . فجأة عاد اليــــه ذلك
الوعي بنفسه كما عادت اليــه قناعاته القديمة الراسخة التي تشحذ همته ونشاطــه لكي
يحوز مجد السلطة والمال . تساءل : مـــاذا حدث له قبل عودة هذا الوعي اليه ؟. أكان
خائفا الـــى حـــد أنـــه فقــد كــل أرتباطاته بالحياة والواقع ؟. أكان خائفا مــــن وشاية سميع المحمود التي كانت ستقلب كـل أموره ؟ . لكنــه رأى فـــي سمائه الصافية الآن
الكثير الذي يدحض تلك الوشاية،هكذا نام تلك الليلة من دون أحلام أو كوابيس، وهكذا
أستقبل يومه الجديد بصدر صاف ، يعني خاليا من الوساوس ، وعلى الرغم مــن ذلك
وطن النفس على مراقبة شريكه وعدم أغفاله أبدا .
في الضحى أبلغ فراش الطابق الرابع أبا علي الغالب وشريكه أن أجتماعا سيعقد فـــي
القاعة الرئيسية في الساعة الحادية عشرة . سأل شريكه :
– أجتماع ؟ ماذا يعني ؟
– يعني أن علي الحسني لديه ما يريد قوله لنا .
لكن أبا علي الغالب هجس شيئا آخر ، شيئا مريبا ربما له علاقة به . كانت حاسة شم
المصائب والفضائح التي يمتلكها قد أنبأته بذلك . أنه الآن متردد بين حضورالأجتماع
والفرار منـه . كان يريد أن يعرف كل شىء ، ويسمع كل شىء ، لذلك قررأن يحضر
وأذا هاجمه علي الحسني فسيتدرع بالصمت ويتحمل كل شىء بدهاء .
لم تخطىء حاسته تلك ، فقــد أحس كل المجتمعين أن هناك ما يشبــه سحابــة صغيرة تدور في فضاء القاعة ، وكانت فـــي كل مرة تتوقف فوق رأس أبي علي الغالب قليلا ثم تواصل دورانها . تحدث شبيه المدير العام عن كل شىء ، عـن الماضي والحاضر
والمستقبل ، عن المهمات الآنية والمستعجلة التي يجب القيام بها بسرعة تتوافق مــــع
أيقاع الزمن ، ودراسة المهمات التي تخص الزمن الآتي ، وما يجب تهيأته لها مـــــن
الضروريات الكفيلة بتنفيذها بنجاح . خلال كــــل ذلك الوقت والسحابة الصغيرة دائبة
في دورانها في فضاء القاعة .
ثم بدأت الأسئلة تخرج مــن الأفواه لتدخل الأسماع ، وكانت الأجوبة سريعة وقصيرة
وكأنها تريد أفساح وقت للشيىء المريب .فجـــــأة قويت الرائحة التــي شمها أنف أبي
علي الغالب ، حاول أن ينهض ليغادر القاعة لكن صوتا عن يساره أرتفع ليمسمره في
مكانه .. قال الصوت يخاطب شبيه المدير العام :
– أن أبا علي الغالب يسخر منا دائما ؟
سأله شبيه المدير العام :
– ماذا يقول ؟
– يسخر منا كوننا لا نمتلك خبرة في العمل ؟
ضحك شبيه المدير العام ، ثم قال :
– وهل لديه هو خبرة في العمل ؟ .. أنه قوادي الذي يأتي لي بالنساء .
سقط صمت ثقيل جدا على القاعة . التفتت الرؤوس الى أبي علي الغالب الذي أستحال
لون وجهه الى ما يشبه لون الزعفران ، وتحركت عينه الحولاء بسرعة .
محمد شاكر السبع : أبو علي الغالب (الفصل الخامس)
تعليقات الفيسبوك