يستهل الروائي الأرجنتيني ” أرنستو ساباتو ” روايته الأولى ” النفق ” بقوله “يكفي أن أقول أنني خوان بابلو كاستيل، الذي قتل ماريا ايريبارنه، وأعتقد أن الحدث مازال شاخصاً في ذاكرة الجميع ،ومن ثم فلا حاجة إلى ايضاحات أكثر عن شخصي ، اذ ماذا ينبغي أن يتذكر الناس أو لماذا يتذكر الناس أمراً يكاد لا يعرفه حتى الشيطان ” ( ص 17 ) ، وهو يضع بذلك مفتاح روايته في يد القارىء ليدخلها من بابها الخلفي، بمعنى بدءاً من خاتمتها .
نشر ساباتو هذه الرواية عام 1948 وترجمها إلى العربية مروان ابراهيم صديق وصدرت عن دار المأمون عام 1987وجاءت في 174 صفحة وزعها الروائي على تسع وثلاثين فصلاً قصيراً . يقول المترجم في مقدمة ترجمته للرواية : ” يطرح علينا ساباتو في ” النفق “، من خلال وعي كاستيل ، اليأس وعدم امكانية الوصول إلى الحب المطلق على المستوى الانساني ” ، لكن وعي كاستيل يتداخل مع لاوعيه فينعكس نتاج ذلك التداخل على سلوكه اليومي .ويبدو أنه ارتكب جريمته مع سبق الاصرار وأنه كان على استعداد لأن يرتكب مزيداً من جرائم القتل. فها هو يقول : ” أما من جانبي فسأعترف الآن بأنني متأسف جداً لأنني لم أنتهز فترة حريتي في القضاء على ستة أو سبعة أشخاص ممن أعرفهم ” ( ص 18 ) مما يؤكد النزوع العدواني المتأصل فيه ، فضلاً على أن جريمة القتل التي ارتكبها لم تستند إلى رؤية واضحة وسبب ربما يكون معقولاً ، مع أن ما ارتكبه مدان أخلاقياً واجتماعياً وانسانياً ولم يكن منطقياً أن يتوقع أن يجد من يقف إلى جانبه ويتفهم دوافع جريمته حتى لو كانا شخصاً واحداً . يقول عن نفسه : ” ان رأسي متاهة معتمة . أحياناً أشعر بوميض يضيىء دهليزاً ما لكنني لم أعرف أبداً لماذا كنت أقوم ببعض الأعمال ” ( ص 53 ) .
كان كاستيل ، وهو بطل الرواية وساردها ، فناناً تشكيلياً تعرّف على ماريا عن طربق الصدفة حين حضرت معرضاً تشكيلياً ورآها تحدق بإحدى لوحاته وفي أعلى تلك اللوحة ” وعلى الجهة اليسرى منها ومن خلال ناقذة صغيرة ثمة مشهد صغير يلوح في البعد ساحل منعزل وامرأة تحدق إلى البحر ، كانت كمن ينتظر شيئاً أو ينتنظر نداءً خابياً وبعيداً ” (ص 23 ) .كانت لحظات المعرض نقطة البداية في تشكّل العلاقة بينه وبين ماريا . فبدأت ملاحقته لها من مكان إلى آخر ، على نحوٍ ينم عن هوس محموم حتى استطاع أن يوقعها في شباكه واستسلمت له . وبدا له أنها هي الأخرى كانت تنتظر تلك الفرصة . مالبث أن تعرف منها على تفاصيل من حياتها الخاصة بتطفل ملّح فعرف أنها متزوجة من رجل أعمى . وكان يريدها أن تفكر به باستمرار ” قلت لك أني لم أكف عن التفكير فيك، وأنت لم تقولي لي أنك كنت تفكرين فيّ” ( ص 60 ) ، وصار يتحسس من علاقتها حتى بالقريبين منها لاسيما ابن عمها هونتر الذي يعيش في ضيعته وحيداً ،وافتعل مناسبةً للذهاب إلى تلك الضيعة متعللآ برغبته في ممارسة الرسم هناك .لكنه لم يجد ما يشجعه على المكوث أكثر فتسلل عائداً إلى العاصمة بوينس آيرس . ولعل ذلك أحد الأسباب التي دفعته إلى ارنكاب الجريمة . انه يقول : ” ومع أنني كنت أكن لماريا كل ذلك الحب الجنوني ، ألا اننا لم نلفظ كلمة ( الحب ) بيننا . انتظر عودتها من الضيعة متلهفاً لكي أقول لها ذلك، لكنها لم تعد . وبينما كانت الأيام تمضي كان هناك نوع من الجنون ينمو فيّ ” ( ص 77 ) ، وهذا اعتراف صريح بأن سلوكه لم يكن سويّاً .
يعترف كاستل أنه لم يحسن التعامل مع ماريا وكان يتدخل حتى في خصوصياتها وعلاقتها الزوجية فيشعر بالندم ” انني أدفع بطريقة ما ثمن حماقاتي في عدم الاكتفاء بذلك الجزء من ماريا الذي أنقذني مؤقتاً من الوحدة . ان ارتعاشة الزهو هذه وهذه الرغبة المتزايدة في الاستحواذ عليها وحدي كان عليهما أن يكشفا لي أنني كنت أمشي في الطريق الخاطىء وأني كنت منقاداً للزهو والعجرفة ” ( ص 127 ) . كان عليه اذن أن يتفهم طبيعة علااقته يماريا وهي متزوجة ومع ذلك منحته نفسها وكان يشكك في علاقتها بأبن عمها . لقد تطورت أزمته النفسية مصحوبة بتوتره العقلي إلى الحد الذي دفعه لاتخاذ قرار قتلها فتسلل إلى عرفتها في ضيعة ابن عمها ليلاً وقتلها طعناً بالسكين . واعترف قائلاً : “على أية حال ، كان هناك نفق واحد لا غير ، معتم وموحش …. لقد كان نفقي ” وهي الجملة الوحيدة في الرواية ، التي تشير إلى مفردة “النفق” التي أتخذها الروائي عنواناً لروايته .
روايات مترجمة: (7) النفق ( من الأدب الأرجنتيني ) أرنستو ساباتو
ترجمة: مروان ابراهيم صديق
قراءة: ناطق خلوصي
تعليقات الفيسبوك