(الظل ضوءا) بين جماليّة التصوير و جزالة التعبير
قراءة نقديّة في ديوان الشّاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي
محمد جودة العميدي

إنّ الوقوف على ديوان واحد لشاعر تمتدّ تجربته إلى ما يقارب ( 40 ) عاما من الكتابة ، وثمانية دواوين ، هو وقوف منقوص في القراءات النقدية ، ولا يخفى على أحد أن الشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي له تجربة عميقة وواعية وتحمل رؤيا جديدة ، وهذه التجربة أخلصت لعمود الشعر العربي من جانب ، ومن جانب أخر خاضت تجربة قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ، و من ناحية المضمون فقد توسط الشاعر وليد الزبيدي ما بين القديم والحديث، فشعره امتداد للقصيدة العربية عبــــــــــر مراحلها التاريخية ، وهو معاصر أيضا في ابتكاره للصور الفنية ، وسبق لي أن توقفت عند دواوينــــــــــه ( تغريدات نخلة ) و ( ايقونات على مكتب الذاكرة )
و ( أناشيد الرائي) .
لا يكتب الشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي الشّعر فحسب ، بل يرسم كونه الشعري بعفوية نسيجها مفردات وصور شعرية وأساليب تعكس بوضوح وعي الشّاعر بقيمة شعريته فيحتويها في شبه نرجسية مقصودة تؤسّس لقوْلٍ شِعريٍ يناهض الوجودَ بالمغامرة، مِن خلالِ الحضورِ المُكثَّفِ، والانزياحيةِ الدّلاليّةِ، وهاجسٍ متوتّرٍ يُؤطِّرُ الحَدَثَ الشعريَّ بتقنياتٍ فنيٍّة تنحتُ كيانها من سديم الوعي الهادف بالتجربة الإبداعيّة الذاتيّة بعيدا عن بريق الغرور ونسغ البساطة المقيتة ..
وانا إذ أزجّ بإمكاناتي النقديّة المتواضعة في الكون الشعري للشاعر وليد الزبيدي أعلن بدءا أنّ مكابدة النصّ وعذاب معاشرته يفرضان عليّ التأنّي في التعامل مع نصوص ديوانه ( الظل ضوءاً ) ..
فالشّاعر وليد الزبيدي شاعر واع بما حوله مدرك لخصوصيّة اللّحظة الإبداعيّة المرتهَنة بين امتلاء الذّات وصخب الوجود وأحيانا عبثيّة الفعل الكتابيّ الذي يرحل في قلب الحياة فيعود منتصرا تارة و منكسرا تارة أخرى ..
عندما نقرأ نصوص الدّيوان فأننا سوف نتقاسم مع الشاعر ذلك الوجع السّاكن فيها وتلك الفرحة بالحبّ الذي يملأ كونها الشعريّ ونفسها الوديعة .. وذلك الانتماء الجيني لأصالة النصّ . وسوف ندرك أيضا إنّ الشّاعر وليد الزبيدي يتأسّى باللّغة نافذا إلى عمق الوجود يختبرها حينا فتغدق عليه، ويفجّرها حينا فتهبه بناتها مطواعةً تحفل بابتهاجه ولوعته وانكساره وشموخه وشقائه وجنونه أيضا. وفي كلّ ذلك يمنحنا الشاعر بَوْصَلَةَ الغوص في عالمه الفريد من خلال رشاقة لغته وفرادة أساليبه وجزالة ألفاظه وإن كان أحيانا يبسّط لغته لتصل إلى المتلقي بغير إسفاف أو ركاكة ..
أهتم الشاعر وليد الزبيدي بعنونة قصائده ، ذاك أنّ العنوان يسهم في البنية الأساسية للقصيدة من جوانب سيميائية semiotic وتفسيريّة interpretive ، إذ يعقد العنوان مع النصّ وشيجة وثيقة تمكّن من التّأويل السايكولوجي والفكريّ وربّما الفلسفي أيضا لكلّ قصيدة .. لذا فقد اختار الشّاعر وليد الزبيدي عنوان (الظل ضوءاً ) لنَقْل مدلولاتٍ فكريّةً ونفسيّةً تأخذ منحى التضاد العلمي وانكار ( الحقيقة العلمية ) ، فالظل في المنطق العلمي ( عتمة ) ، وإلا فمتى يكون ( الظل ضوءاً ) ؟
سأقيم قراءتي النقديّة ومصاحبتي لنصوص الديوان على استنطاق اللّغة الشعريّة والصّور الشعريّة والإيقاع والبُنَى الدلاليّة آملا ألاّ تكبوَ بيّ الخطوات ولا أهضم حقّ النصّ والشاعر ولا أحيد عن عالمه ..
يقول جون درايدن : ( إنّ الشعر هو صوت الانسان الفرد وحتّى حين يعبّر الشّاعر عن آلام الجماعة وآمالها فإنّه يعبّر عنها من خلال فرديّته الخاصّة ) ، وهذا ما أداه الفعل الشعري في نصوص الديوان .
يضمّ ديوان « الظل ضوءاً» الصادر عن دار الفرات للثقافة و الاعلام ( العراق/ بابل ) مايزيد على السبعين قصيدة متنوعة في بناءها بين العمودي والتفعيلة والنثر وفي مضامينها وثيماتها ، ففي قصيدة «هل لي ببغداد» شوق وحنين لأيام بغداد في الزمن الجميل ويبقى حلم الشاعر في عودة تلك الأيام .
وقصائد ( مزماري – من للعراق – واقرأ على الدنيا السلامة ) تفيض مشاعر وطنية صادقة واسى وحزن على ما حل ببلادنا من خراب .
و كتب الشاعر وليد الزبيدي في الإخوانيات قصائد ( سبع وردات ) لشعراء المتنبي، و (قد كنتها) للاستاذ ناجح المعموري و قصيدة ( آل الشلاه ) للاستاذ حسام الشلاه ، و ( اصداء الروح ) للفقيد التربوي محمود رشيد .
وقصائد ( بقايا سؤال – – للذكرى – صدى حلم –ودروب عشق نزرع – بل انني أمل – اني اليك –انت البدء – جنون فكرة – الذنب ذنبي – بعض ذكرى – تنفس الوجد – جاء الوحي يبتسم – ماكتمت هواك- ان احمل القلب درعا – مخمورة الصوت ) قصائد عشق وجداني تشحن وجدان القارئ بالعاطفة القوية المتدفقة لأنها تصدر من مشاعر صادقة ، فيها الألم والحزن والعذاب واللوعة والفراق والغربة واللقاء والفراق والدموع وقسوة الحياة والحنين والشوق واللوم والعتاب والليل الطويل ، وفي المجمل ترتبط مفردات القصائد مع عنوان الديوان .
والشاعر وليد الزبيدي – كغيره من الشعراء – اختار عنوان قصيدة مائزة تجلت فيها شاعريته لحمل عنوان المنجز فكانت قصيدة ( الظلُ ضوءاً ) . وللحق ان هذه القصيدة فيها من الجماليات بمستوى بعض قصائد العشق في الديوان ، أو تفوقها في جماليات الصورة وتشكّلها. والقصيدة فيها شكوى من التقدم في العمر و تقلب الحياة على غير ما نتمنى .
وعندما نقرأ في قصائد المناسبات ، تجد فيها مفردات المحبة والتبجيل ، كما في قصيدة ( نيل الله ) التي ألقيت في دار الأوبرا في مصر . وقصيدة ( إلى النجف الشريف) التي القيت في امسية المكتبة الأدبية المختصة إلى السيد مهند مصطفى جمال الدين ، وقصيدة ( يامنبر الغد ) القاها الشاعر في احتفالية اليوم العالمي للغة العربية وقصيدة ( ابتسامة هوليود ) بمناسبة عيد ميلاد ابنته .
ومن يقرأ قصيدة ( صحاف الجوع ..! ) يجد فيها اقتباسات من شعراء آخرين بلغة شعرية فنية عالية .
فنقرأ :
٠١ ( هل جادك الغيث ) وهي إقتباس من موشح لسان الدين بن الخطيب الاندلسي
منذ ٩ ساعات
٠٢( يا نائح الطلح ) وهي إقتباس من احمد شوقي ( يانائح الطلح )
٠٣ (حييت سفحك ) إقتباس من ( دجلة الخير) للجواهري
٠٤ ( أضحى التنائي بديلا ) إقتباس من قصيدة ابن زيدون
٠٥ ( وراهب الدير ) وهي إقتباس من قصيدة منسوبة لمجنون في دير هرقل بالشام :
لما علمت بأن القوم قد رحلوا
وراهب الدير بالناقوس منشغلُ
وضعت عشري على رأسي وقلت له :
يا راهب الدير ، هل مرّت بك الإبلُ ؟

٠٦ ( ماذا تقول لأفراخٍ ) وهي إقتباس من قصيدة الحطيئة .
وتبقى بيروت ولبنان حاضرين في وجدان الشاعروليد الزبيدي ، يجسدهما في قصيدة « بيروت تبقى »، وقصيدة ( للبنان اغني ) وفيهما مشاعر حزن و اسى لما أصابهما من عاديات الزمن .
ويختم الشاعر وليد الزبيدي ديوانه بقصائد ( بعد الصوت – بعض الظن- جسد اوبرالي- ترانيم فيروزية – لولاك يا.. بنفسج – كتابة جسد ) التي غرق فيها بالمد الرومانسي فكانت هذه القصائد تتغنى بالحياة، وظل الشاعر في شوق لتلك المرأة المتجلية في قصائده كأجمل ما تكون عليه الانثى .
ما يميز قصائد الديوان هو جزالة التعبير و جمال الصورة الشعرية الذهنية التي تنقل المتلقي الى واقع افتراضي بعيد ، مما يكسب النصوص فيضا دلاليا عميقا تأكيدا لمقولة الشاعر الفرنسي لويس أراغون : ( أغمض عينيك عن الواقع ، ترى العجائب ) . قصائد الديوان هادئة فيها من الانسجام الصوتي harmony و المتواليات الصوتية الجهرية والمهموسة
consonant clusters
ما يجعلها بعيدة عن الصخب .

وأخيرا إنّنا مع شاعر يدرك ما يقول ويعي جدّية فعل الكتابة .. وتَعـَدّ تجربته مائزة ولدت من رحم الأصالة الشعريّة القديمة ومن ثورة الحداثة الشعريّة الجديدة .. تجربة القصيدة العموديّة الحديثة التي تصالح بين روح البداوة وكيان المعاصرة المتينة .. تجربة تبني لنفسها عالما خاصا من الشعريّة .. تجربة تتقصّى الذات لتكشف عن الآخر في محاولة لتصدير شعورها واختلاجاتها إلى المتلقّي …

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *