تجربة حياتية لدكتور عراقي مغترب تكاد تكون فريدة من نوعها تثبت إن العراقي قادر على خلق الجمال في أي مكان يحط فيه ما أن تتوفر له أبسط الإمكانيات لذلك، بينما الواقع داخل بلاده يقوض ملكاته ومواهبه، بل يدفعه إلى الشعور بفقدان أبسط حقوق المواطنة جراء التهميش للكفاءات العلمية والقدرات الإنسانية الساعية إلى التطوير والخروج بالبلاد من ويلاتها المتتابعة، فهل نحن كشعب نستطيع أن نحوّل الركام إلى وهج حياة جديد؟
الدكتور والكاتب رعد صادق الحلي يرد على هذا السؤال وأسئلة كثيرة أخرى من خلال وجوده في قرية “غارذيكي” اليونانية، قرية صغيرة ونائية عن آثينا العاصمة حيث يقيم وعائلته، ذهب إليها بعد معرفته بحاجة تلك القرية إلى دكتور يهتم بصحة سكانها، خاصة وأن أغلبهم من كبار السن، لكن ليس إلى أي دكتور، إنما هم بحاجة إلى الدكتور الإنسان المتفهم لمشاكلهم وما يعانون، إلا أنه دكتور عراقي معتز بوطنه وحضارته الموازية حضارة اليونان القديمة، لعل هذا التناص التاريخي كان أحد وربما أهم أسباب التقارب السريع الذي حصل بين الدكتور الغريب وأهل القرية البسطاء والمنفتحين بدورهم على الآخر بكل طيبة وتلقائية مستلهمة من نقاء الطبيعة وخصب تجاربهم الحياتية التي واكبت الاحتلال الألماني ـ الإيطالي خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حرب أهلية فرقت بين أبناء العائلة الواحدة، تاريخ مخضب بالجراح والذكريات الأليمة، يرويها الكاتب كنوع من الإسقاط غير المباشر على واقع بلده الموجوع.
“إنه أمر يشبه نسج الصوف؟ كل البلدان تنسجه ولكن كل بلد ينسجه بمنواله الخاص به وبالشكل واللون الذي يناسبه في النهاية هو نفس الأمر.” ص 51
حكمة مكتنزة قالها أحد رجال القرية الريفية البسيطة، تشبه إلى حد كبير حِكم أجدادنا وكبار السن الذين خبروا الحياة حتى وصلوا إلى حقيقة جوهرها، خاصة أن المجتمع اليوناني من المجتمعات القريبة من روح الشرق وفلسفته الفطرية، بل إننا لو تمعنا في تاريخ الإنسانية لوجدنا أن تلك الفلسفة أتت نتاج تقارب تلك الحضارات القديمة إلى حد التمازج قبل أن ينشأ مفهوم (صراع الحضارات) الذي زاد من وتيرة التصادم الداعي إلى الانغلاق الفكري المتعصب، يلمس الدكتور المقيم هذا الأمر في كثير من مفارقات الحياة وما تمثله العادات والتقاليد الحريصة على ضمان وحدة العائلة واستمراريتها، وضمن مواقف يومية مفعمة بالأمل ورح التحدي، لا تخلو من خفة الظل غير المصطنع، يجد القارئ نفسه يعيش تلك الأجواء الرحبة ليتعرف أكثر على بلاده ولو من خلال وصف شيق ومتكامل لمكان غريب عنا من حيث الطبيعة الجغرافية التي لا تشكل عائقاً يحول دون التمعن أكثر في النفس البشرية بكل ما توغلت فيها رواسب الفقر والحرمان والاضطهاد وسطوة معتقلات الحقبة الديكتاتورية، تطفو على السطح ضمن سخرية متهكمة وضحكة قوية تصفع واقع الحال، أليس هذا ما اعتدنا حصوله في العراق المتنقل بين عهود اللعتة؟
“أبدأ بالسيد (ساكي) أولاً لأنه من وجهة نظري شخصية فذة، فريدة من نوعها، يملك خيالاً خصباً وذكاءً فطرياً وروح نكتة يندر أن تجد لها مثيلا، يستطيع بسخريته أن يقلب الأمور رأساً على عقب، يعلق على الأحداث بطريقة مثيرة للدهشة والإعجاب، يجعلك تضحك وأنت تفكر بنفس الوقت بما قاله.” ص 90
تفاجأت عتدما أبلغلني الدكتور والأديب رعد الحلي أن مدة خدمته الوظيفية في تلك القرية لم تتجاوز سنة وشهر واحد لا أكثر، في أواسط التسعينات، زمن الحصار المفروض على العراق الذي كان يمكن أن يتجاوز الكثير من مآسيه لو امتلك بعض روح التعاون من قبل النظام الحاكم، بينما ذلك البلد الواقع جنوب أوروبا وذو الاقتصاد المنهك، نسبياً على الأقل، يولي أبسط قراه المنسية مثل هذا الاهتمام الذي رصده الكاتب بعين المشاهد والمعايش للأحداث، ففي خلال تلك الفترة المحدودة استطاع إعادة هيكلة التأهيل الطبي للقرية والقرى المجاورة حتى أتى الوقت الذي كادت تفرغ عيادته والعيادات التي أنشأها بأبسط الإمكانيات من المرضى، غالبيتهم من ذوي الأمراض المزمنة، خاصة في فترات العواصف الثلجية التي تمنع التنقل وتسد الطرق رغم حرص الجرافات على فتحها دون تأخير أو انتظار أمر مسؤول متنفذ في الدولة، وهنا تبرز شخصية الإنسان العراقي الباحث عن نقطة ضوء يستدل من خلالها على الطريق الصحيح.
ينتقي الكاتب الأحداث والشخصيات وفق رؤية جديدة ومختلفة عن أغلب نصوص الكاتب العراقي عن الغربة وما تبثه من أسى وحزن، فيعمد بصورة متصاعدة نحو كوميديا الموقف مما يدعو إلى المزيد من التأمل والبحث عن نظرة مغايرة نبصر بها إلى جدليات قد يقع المغترب في براثنها إلى ما لا نهاية، فتحجب عنه بصيص النجاح الذي غادر أهله وبلاده لأجله، بينما استطاع الدكتور رعد تجاوز إشكالية الوطن والوطن البديل، ولم يكن ذلك بالأمر السهل ظبعاً، فلو لم يحقق إنجاز التحصيل العلمي العالي وفي أصعب الظروف الأقتصادية التي صارت بالنسبة لديه الآن محط تندر لمّا تمكن من الوصول إلى تلك القرية ليحصل على تتمة السؤال عن حقيقة وجوده على هذه الأرض، لا ضمن حدود هذا الوطن وذاك، ولطالما يشغلنا مثل هذا السؤال السكشبيري (أكون أو لا أكون) ويبقى يواجهنا في مختلف المراحل العمرية، عبر مواقف صغيرة وأخرى تقرر مصائرنا، وإن بدأ كل شي في هيئة صدفة عابرة لم نتوقعها، وضعتها الأقدار كامنة في مرامِ مساراتنا ووهبتنا حق الاختيار في كيفية التصرف بكل خطوة نخطوها نحو مكامن صدف أخر ظلت تترصد حياة الدكتور بعد عودته إلى أثينا، بينما ظلت قرية “غارذيكي” تلقي بنسائمها العليلة وضلالها الوارفة على دنياه بشكل ملموس وآخر محسوس عرف من خلاله جوهر الحياة والإنسان بصورة مجردة من كل صور التعصب.
“اكتشفت، ربما، بأنني عندما أجلس هكذا، كنت أفكر أكثر اتزاناً وعمقاً بالأمور، كنت أحس بالأفكار تأتيني بتمهل وتدرج غريب، لم تعد الأفكار كالسابق متزاحمة في عقلي وتمنعني من التفكير الهادئ، كنت أجد حلولاً سريعة للمشاكل وبقلق أقل، لكني كنت أفكر بالموت أيضاً، لم يكن عندي أدنى شك بأنني تأثرت بأصدقائي الحكماء، يبدو أن طريقة تفكيرهم قد حطّتْ في تفكيري خطوطاً عريضة.” ص 190
ذلك التواشج الفكري بما يشمل من مضامين انسانية جذبت الدكتور المقيم إلى سوح التأمل في بواطن المجتع الصغير الذي تبادل وإياه المشاعر الحميمة غير الغريبة عن البيئة العراقية الحاضنة لقيم النخوة والكرم والعطاء واحتضان كل وافد غريب، فلم يجد نفسه مقصياً عن رقصة “زوربا” الشهيرة، تلك الرقصة الضاجة بمعانٍ شتى، يترصد الكاتب إيقاعها المحبب حتى يومنا هذا، وإن كان لا بديل عن الوطن الأصلي فالعالم بأسره موطن جوهر الإنسان، لو تمعن في دواخل فطرته الأولى.
“القيم أو الأخلاق هي نفسها موجودة في كل مكان وزمان وعند كل شعوب الأرض. المشكلة الكبرى لا تكمن في الأخلاق ولكن في مدى الالتزام والعمل بها.” ص 395
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور رعد الحلي يزاول مهنته ويشغل منصب المسؤول الطبي في المركز الحكومي لإعادة تأهيل الأطفال جسديًا وعقليًا في أثينا، ومركز حماية الطفل والتبني، ورئيس قبول الطلبات واللجنة العلمية.
حاصل على مواطنة الشرف من الدولة اليونانية تكريماً لجهوده الطبية والاجتماعية.
تم تكريمه من قبل السفارة العراقية في أثينا.
…………………..
أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي
حبذا لو ذكرت أكثر من هذا، في الأقل حالة معالجة واحدة، تمنيت لو حصلت على الوورد أو الكتاب
شكرا مرة أخرى
مرحباً مبدعنا المتميز والصديق العزيز أستاذ محمود سعيد
أنا عادة أكتب عن فحوى النص برؤية عامة دون التطرق إلى التفاصيل كي لا أستلب متعة التشويق ممن يرغب بقراءة الكتاب، كما أن التجارب بمثابة فصول قصيرة تتكامل مع بعضها لتعطي صورة متعددة الأوجه.
ممتن لاهتمام حضرتك.
خالص تقديري
عندما يعانق الناقد كتابا و يمنحه الاهتمام يخرج نصه النقدي ليضيف للكتاب جمالا فريدا و يمنح القارئ صورة مبهجة عن الكتاب. منحني الاستاذ الكاتب احمد غانم الكثير من السرور بقراءته النقدية العذبة.. تعمقه في اسطر الكتاب اذهلني ،احسست و كأننا تناقشنا و تحاونا عن الكتاب لساعات . ممتن لك استاذ احمد و ممتن لموقع الناقد العراقي و اتمنى من اعماق قلبي كل التوفيق. اشكر ايضا الاديب الاستاذ محمود سعيد على مداخلته و اهتمامه .اخبرني الاستاذ احمد غانم بأنه ارسل له المسودة و إلا لكنت فعلت انا ذلك.كل مودتي للجميع.