هو منظر أول الشتاء أذن ، يشي بمصيبة . قد أكون مستهتراَ في هذا التوصيف الأبتدائي . ربما كان الأمر لا يتخطى بعض حزن وضجر . حتى اللحظة ، لم أوفق في رسم الحال . لسعة برد خفيفة . عويل رياح من الشمال . شدة غيمات بيضاوات ورماديات ، يأتين مهاجرات من بعيد ، فيصنعن صوراَ مروعة . غيمة مفتوح فمها مثل غولة ، تتحفز لقنص دولفين رضيع ، وثانية تتشكل كما لو أنها هبّة دخان تلفظها معدة بركان غاضب . رشقة مطر ، تعزف لحن الوحشة فوق زجاج الشباك ، جعلتني أحزن بألف مرة من بدر شاكر السياب . أظنها كآبة مباغتة مثل ضربة جزاء مغشوشة ، أو مكتشف أن ليس ثمة الّا القليل من الأمل . عندي مدفأة ممتازة تشتغل ببركة النفط ، لكنني أفضّل موقد حطب من الصنف الذي يظهر في أشرطة القرون الوسطى . أحب جداّ طقطقة الخشب . طبعاَ ، ألخشب يمنح المشوى المملوح ، طعماَ طيباَ زكياَ . في الواقع ، أنا أذوب في كانون الخشب ، حتى لو كان من منزلة ما هو متاح في منازل الفقراء . مواقد الأفلام ، تؤدي الى مداخن تنتهي أعناقها فوق سطوح مقرمدة . في بيتنا العتيق ، كانت مدخنة . لم تكن تلك المدخنة الراية ، تؤدي الى موقد فخم . كان دخانها مهاجراَ من انفناء كومة حطب تتآكل تحت برميل ماء ضخم مبني بخاصرة الحمّام . بالنسبة لي ، كان حمّام الدار ، أحلى وألذ من حمّام الحارة . أظنني كنت خجولاَ لذا أراني منحازاَ الى هذا الوصف غير العادل . أنا لا أفرض معتقداتي على الآخرين . ربما أنتم تفضلون حمّام السوق على حمام المنزل . أنتم أحرار كما ولدتم أول مرة . مع ذلك ، بمستطاعي أن أسركم بأنني لم أذهب الى حمّام شارع ، سوى مرة واحدة في كل حياتي القائمة حتى هذه الليلة . كنت أوانها جندياَ مشتولاَ في شرق البصرة . كان سخام الأيام قد جلل جسدي ، وكنت عندما أغطي رأسي ببطانية الجيش ، أحس بأنني أحيا بحضن فطيسة ، لذا أستسلمت لسلطة حمام الشارع . في باب لذة الشواء فوق مجمرة الحطب ، نسيت أن أخبركم بأنني لم أكن مغرماَ بأكل العصافير والزرازير المشوية التي كانت تقدمها حانات بغداد ، كمازّة مشهية تثلم من هيبة كأس العرق . مكتوبي الليلة ، لم يخطر على بالي قبل سويعات قليلات من الآن . ربما شاف أحدكم أو كلكم ، أن هذا محض هذيان سخيف ينز من ذاكرة معطوبة . ألصح هو أنني كنت على نية صافية لأن أثنّي وأثلث وأجدد غزوتي في مسألة أسرى بلاد ما بين القهرين الذين مازالوا يئنون في أقفاص وزنازين أيران القاسية ، وكنت أشتهي اعادة كتابة معتقدي الراسخ ، بأن الأمريكان اذا دخلوا قرية ، أفسدوها ، وأن الحكومة ببغداد العباسية ، قد أصدرت فرماناَ متأخراَ ، بقيام لمّة من شمّامين وفاحصين ومخمنين وممحصين ، من أجل الوقوع على سبعطعش مليار دولار ضائعة من صندوق عافية البلاد . وأيضاَ كنت أشتهي الكتابة عن ظاهرة مخجلة ومؤسفة صارت ملمحاَ مشهراَ من ملامح المنظر العراقي ، ألا وهي ظاهرة التبويس ، واستعمال القوة المفرطة في الشد على الكف ، وفي رص الكتفين ، حتى صار بمقدور واحدنا ، أن يتعرض الى صلية بوسات ، بعضها أقرب الى فعل العضّ ، من فم واحد يتمنى أن يحشرك في حلق مدفع عملاق يطير بك الى الجحيم . كنت – والله وحقكم – على شهية عظيمة لأن أكتب عن هذا وسواه ، لكن شويّة مطر ، وعولة ريح ، وخشخشة وريقات صفر يابسات فوق زفت الشارع ، مثل تلك التي أتت عليهن ، فيروز العظيمة ، ورعشة برد ، كانت أغوتني وسحلتني نحو عتبة هذا المكتوب البطران . شكراَ جداَ . كونوا بخير .
alialsoudani2011@gmail.com
عمّان حتى الآن
علي السوداني : أحزن من بدر شاكر السياب
تعليقات الفيسبوك
سلامة قلبك يا علي السوداني
يا له من حزن شريف
شكرا لك من الاعماق
محمد الدباس
شكرا لهذا العسل الطيب
مع محبتي ابدا
علي
عمان حتى الان