إبن جني وجاك دريدا: يجران مراكبهما *
كتابة: مرزاق بقطاش
ترجمة: سامي عادل البدري

*نشرت المقالة الاصلية باللغة الفرنسية في جريدة الوطن الجزائرية الناطقة باللغة الفرنسية بتاريخ ١٩ سبتمبر (أيلول) (٢٠٢٠)

بينهما عشرة قرون، يترك أحدهم مدينة الموصل، ويرحل الآخر عن الجزائر العاصمة التي ولد فيها، فكيف سيجدان نفسيهما على ضفاف المعرفة؟

لقد وجد هذان الاثنان خلاصهما في اللغة وتفرعاتها. الأول، إبن جني، الذي عاش في بغداد القرن العاشر بكل ترفها وبهائها، أما الثاني، جاك دريدا، فقد جاب مرتحلاً في ثلاثة أرباع القرن العشرين خارجاً في البدء من الجزائر.

إن عملاقي الفكر هذين، العملاقان حقاً على مستوى كل تاريخ المعرفة، لم يتوقفا أبداً عن ترحالهما. الأول، في حقول علم الدلالة وعلم اللغة، أما الآخر فقد انطلق من كل ما يتعلق بماهية الأشياء الصغيرة متجهاً لدراسة الوجود المترامي الأطراف. ولم تكن اللغة لكليهما سوى معبر إجباري ليصلا إلى هدفهما الفكري.

إن صفة حب السفر والترحال التي وصمتهما، أو إن شئنا أن نقول تلك الحركة الدائمة، تجعلنا نراهما كملاحي مراكب نهر الڤولگا من القرن التاسع عشر. نسمعهما يلهثان ويغنيان وهما يجران زوارقهما وقواربهما على تلك السبل المحاذية للأنهر، لكي يحاولا في النهاية ربط مراكبهما برزّة مثبِّتة، أو رصيف مرفأ مؤقت، قبل أن يواصلا كدحهما بالعمل على مدار السنين. ألا يشبه حال العامل في حقل اللغة حال العبد المحكوم بالأعمال الشاقة في الكثير من الأوجه؟

كانا دائماً على أهبة الإقلاع من أجل غاية ما. ما أن يفرغا حمولتهما- ويا لها من حمولة تثير الإعجاب!- حتى نراهما من جديد على قارعة الطريق. كأن اللغة تحرق، وتصير حروقها ندبات أبدية. وهذا ما يفسر ربما تلك الفجوة التي تحدث بين الانسان والعالم الخارجي، وفي داخل الإنسان نفسه، في كل دورة من دورات الحياة. فهل كان ذلك الميل للإقلاع الدائم للمديات الجديدة، للمغامرات الفكرية، طريقة للانتصار على ذلك الاختلال؟ إن الامر في حالة إبن جني ودريدا كان عبارة عن (حملة ضد الذات).

إن سيرة حياتهما لا تظهر إلا على نحو نزير الجانب المظلم من وجودهما. على ما يبدو، إن هذين العملاقين، الذين شعرا بفضول شديد أمام مواربة الوجود، كان لديهما حصتهما من المعاناة لكن دون أن ينبسا ببنت شفة، وكانا قد استجابا لتلك المعاناة بكثير من الزهد. لقد عانا بسبب انتماءهما، ولذلك فضّلا أن يتمترسان خلف حقول علم الدلالة، يفكّان الأشفار ويفسران الرموز دون هوادة.

بالنسبة لجني فقد كان معاصراً للفراهيدي، عالم النحو المعروف وعالم الأصوات المحنك، الذي كان مشغولاً كما كان يقول هو نفسه بـ(تذوق الأصوات التي تصدرها الحروف بحسب مخارجها، وذلك ابتدائاً من الحلق وصعوداً إلى أن يصل إلى أول الفم). لقد سمح له ذلك بوضع علم العروض العربي وتقنينه.
ثم أتى بعد ذلك ابن جني ليفعل شيئ خارج عن العادة حقاً في تخصص اللغويات في وضع أساسات علم الأصوات مثلما تمارس يومنا هذا في أكبر مختبرات البحث اللغوي الفسلجي في العالم. لقد صار نجم بغداد ومجالسها الأدبية حيث يتجمع الشعراء والنحويين واللغويين والفلاسفة والعلماء الآخرين.

إن أشهر كتبه (الخصائص)، وكذلك بحثه في علم الأصوات، يبقيان مصدران مهمان للطلاب والجامعات في العالم العربي.

لكن رغم كل ذلك، فملاح الأزمان الغابرة هذا كان يعاني من أصوله. فقد كان رومي الأصل وابن عبد، وقد قام بالتصريح بذلك صراحة في أبيات شعرية أثارت أعجاب صديقه، المتنبي العظيم. أما سيبويه، أكبر النحاة وأمامهم في كل الأزمان، فقد كان فارسياً لكنه لم يكن يتحرج من ذلك أبداً.

لذلك يبدوا من المناسب أن نظن بأن إبن جني، رغم كونه فخوراً باكتشافاته في حقل علم الأصوات، كان ينظر دوماً باتجاه بيزنطاه، وكان يحاول في الوقت نفسه أن يجر مركبه باتجاه موانئ لم يكن يعرفها أترابه. يذكرنا هذا ببعض المفكرين العرب الذين يعيشون اليوم في الغرب وينجزون ابداعاتهم الفكرية وعيونهم تيمم شطر بلدهم الأصل.

أما جاك دريدا، فقد كان يتكتم على ألم، لم يبرح ينكأه. لأنه ولد في الأبيار، فقد بقيت الجزائر حية داخله من دون أن يذكرها في كتاباته. كان يمكنه أن يبدي قربه من الجزائريين الذين نغص الاستعمار عيشتهم، مثلما تنغصت عيشته هو وأبناء جلدته من إهانات حكم ڤيشي. هو الذي طرد من المدرسة في أسوأ الظروف في الحرب العالمية الثانية. لكنه في عام ١٩٤٥، ذهب مع عائلته لفرنسا للعيش ولإكمال دراسته في الفلسفة.

كان أول من أشار إلى ذلك الاهمال لدى دريدا في مشاعره تجاه البلد الذي ولد فيه وكبر، هو استاذ جامعي أمريكي. يشير ذلك الباحث الأمريكي مراراً بأن دريدا كان بالكاد يلمّح للتراث الثقافي الجزائري والعربي في كتاباته. إذن فإن دريدا قد أتخذ مساره، في مفترق طريق ما، لكي يقول ما كان يوجد دائماً في قلبه. لقد كانت اللغة هي التي، بانقاذها من بلبلته اذا استطعنا قول ذلك، اوصلته الى ان يحلل العناصر التي كانت بين يديه.

وبهذه الطريقة، صارت الجزائر بالنسبة له، جزيرة صغيرة ضائعة في محيط الوجود الواسع، جزيرة لم يكن يستطيع أن يلجأ إليها من جديد. إذا كان حقاً ما قاله دريدا في احدى كتاباته بانه طوال الوقت في (حرب ضد نفسه)، فإنه بالمقابل، كان يروق له أن يبحر مبتعداً عن أصوله بلا أدنى نية للرجوع يوماً، سوى ربما لإلقاء نظرة وإعادة ايجاد خطوات كان قد اقتفاها يوماً. لقد وهبته اللغة أشرعة قوية كانت تقاوم الرياح المعاكسة.

إن تناوله للغة، حتى وهو لم يكن لغوياً في الأساس، اخذه الى صيغة التسلسل كما يسمونها. وكانت صيغة التسلسل تلك رائجة جداً في الجامعات الأمريكية التي كانت طبقتها المثقفة تحاول ايجاد علاقات مع هؤلاء الذين يوسعون، كل يوم، الحدود في عالم الرقمنة في كل ميادين المعرفة. لذلك ليس علينا التعجب حين نرى أن هذه الجزيرة الصغيرة التي اسمها الجزائر تبعد، بل يبهت لونها نهائياً في الأعماق السحيقة لجاك دريدا هذا.

وعلى الفرق من ابن جني، كان عند دريدا شئ كأنه الحذر من ماضيه الجزائري، مشابهاً في ذلك ألبير كامي الذي لم يكن يرى في مكان ولادته، مثلما يصف ذلك بشكل ممتاز الروائي والشاعر كاتب ياسين، لا شيء سوى الشمس، والبحر، وجزء غير واضح تماماً من وجه شخص من سكان الجزائر الأصليين، يجري اغتياله، نعم اغتياله، تحت شمس لاذعة.

أما البقية فمحض اصطناع. اصطناع كاذب! أن نقول بأن الجزائر هي في الأساس من كل الحركة الفلسفية الدريدائية. على أساس أن الطرق المحاذية للأنهر تتشابه في الكثير من نواحيها وجوانبها، في علم اللغة كما في الفلسفة، لكن تلك السبل والطرق تسمح لنا برؤية أبعاد وحقائق أخرى عن الطبيعة البشرية، لم نكن نشك بها.

من يعرف؟ ربما أن المعرفة، كما ندركها ونعرفها حتى يومنا هذا لا توصل إلا لطرق غير مفهومة.
أو ربما أن ذلك صحيح بأن المعرفة عبارة عن مرآة مشوهة وعامية للأبصار لو أدرناها لنجعلها تقول ما لا تستطيع أن توضحه؟ يبقى أن الأصول تبقى نفسها، والحب الأول حتى لو يخفت، يبقى محافظاً على الكثير من شدته الأولى وحيويته.
لقد سمح ابن جني لنفسه، في منفاه الاجباري، بأن يعود لنفسه من خلال جره لمركبه، لكي ينتصر على بعض العزلة بممارسة علم الصوت، هذا العلم الجديد الذي يميزه من بين مفكري عصره. أما دريدا – وهذا ليس عتاباً – فقد وجد خلاصه في أماكن أخرى أبعدته أكثر من مكان ولادته، وبذلك، من ثقافة عريقة في القدم.

* الترجمة الحرفية للعنوان ستكون (ابن جني وجاك دريدا على طرق الإقلاس)، والإقلاس هي كلمة وجدتها في قاموس المنهل لتشير الى ذلك الرصيف الذي يحاذي النهر والذي يكون مخصصاً لجر المراكب، فقد كان شائعاً في بعض البلدان أن يتم جر المراكب عبر النهر من خلال حبال يجرها رجال او حيوانات مثل الأحصنة من على رصيف الإقلاس ذاك.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *