الخوف، في العالم العربي، جزء من الحياة، وينبع من مصادر متنوعة. وهو فرديّ بمعنى أنه موجود ضمن وعي وما تحت وعي الأفراد. ولأن مخاوف الأفراد ليست واحدة وتتغير باستمرار فهي ذاتية. وبعض المخاوف تكون واضحة لحاملها، خاصة في بيئة حافلة بالمخاطر، في حين أن غيرها يتسم بالغموض. والخوف يثقل كاهل العرب الذين يعيشون في مجتمعات ضاغطة ذات أنظمة سياسية غير مستقرة. ومع ذلك فإن الخوف له نفس التأثير على المجتمعات المستقرة نسبياً مثل البلدان الغنية بالبترودولار.
ما هو الخوف؟. كما يوضح فينكي Vinacke هو شعور مركب من إجهادين، الانتباه والقلق، ويمكن التمييز بينهما بوضوح. يبدأ الانتباه من حدث معوق في البيئة، ويستجيب له الفرد غريزيا لمكافحته أو الاستسلام له. أما القلق، من ناحية أخرى، فهو شعور سببه الرهبة، ويفترض القدرة على التوقع. ويحدث عادة عندما يكون الفرد في بيئة غريبة ومربكة، منفصلة عن الأشياء والشخصيات الداعمة التي تنتمي لمجاله. إن القلق تعبير عن الخطر عندما لا تستطيع أن تعزو الخطر لشيء أنت على احتكاك مباشر به. وتقف في وجه الحاجة لاتخاذ تدبير فوري تهديدات معينة وغامضة (1).
في العالم العربي يدرك الناس التأثير الجذري للسياسة. وهم يميزون بشكل غير مفهوم بين الخوف والقلق. وينظرون للخوف على أنه اتخاذ قرارات وأفعال ملموسة قد تقوم بها السلطات وينجم عنها مخاطر هائلة وحقيقية. بينما القلق، من ناحية أخرى، فيشير إلى التوجس حيال التجارب الماضية للمجتمع والتي يصعب أن تربطها بمصادر تحفيز محسوسة. وعادة ما تعتبر عدم القدرة على التمييز بين التجارب الرهيبة الماضية والمؤشرات الحالية للضرر المحتمل السمة المميزة للقلق. وفي علم النفس، يُعرَّف القلق أنه علامة تحذير تدل على أن النظام النفسي مهدد ومرهق (2). وعادة ما ينتاب القلق السياسي شعور بأنه “خارج عن السيطرة” وعدم القدرة على التأثير أو تجنب القرارات والإجراءات التي يتخذها الآخرون (3). وفي حالة النظريات النفسية الحركية، يقال إن العجز ناتج عن القمع، ومن هنا فإن مصادر القلق في المجتمعات العربية تظل عموماً لاواعية. والانقسام بين المخاوف الملموسة وغير الملموسة يفترض ملاحظة فرق آخر بين الخبرة التاريخية لجماعة عربية ما من بيئة سياسية سابقة ووضعها الراهن في إطار سياسي مغاير. ومن المهم فهم تبدلات المخاوف والقلق، ولا سيما ظهورها في أوضاع توتر سياسي (الحروب الإقليمية أو الصراع الأهلي) والتي يعقبها انخفاض نسبي في تواترها وشدتها عندما يبدو الحل الافتراضي للصراع السياسي معقولا. وبقدر ما يفسر تصاعد المخاوف وانحسارها النسبي سلوك الناس في اتخاذ القرارات السياسية فإنه يثير تساؤلات محددة في العالم العربي. هل تحدث حالات التوتر بين الطوائف نتيجة للخوف القائم، أم أن الخوف يحدث نتيجة لحالة التوتر؟. لماذا تتراجع المخاوف وتصبح ساكنة؟. ولماذا في أوقات أخرى يكون الخوف مستيقظا؟. في علم النفس فكرة شائعة ومفادها أن الأفراد يختلفون في استشعار الخوف والاستجابة له (4). ويمكن للمرء أن يعتقد أن القلق أمر بالغ الأهمية على المستوى الخاص، لأنه يتضمن استجابة الأفراد له، لكن العرب، بوجه عام، يرفضون أن يكونوا سلبيين ولامبالين أمام مواقف لا يستطيعون السيطرة عليها. ومن ناحية أخرى قد يكون هذا الوضع خطيراً على المستوى الجماعي لأنه يترك عند المتأمل الشعور أن العرب يعيشون دائما في مناخ من العنف واحتمال الخطر. والخطر الواضح يكمن في أن تترعرع الأجيال دون شعور قوي بالأمان، ودون توقع مستقبل أفضل، ودون ثقة أساسية بأن الحياة الكريمة في البيئة السياسية ممكنة. وقد أكد علماء النفس الاجتماعي أن الخوف والقلق يرتبطان ارتباطاً قوياً بالعدوان. وقد بذلت جهود مختلفة لشرح هذه العلاقة. وليس المقصود هنا تلخيص هذه الجهود وإنما توضيح ما له صلة بهذه الدراسة فقط (5). ونلاحظ أن للحكومات العربية تاريخا في إعدام المنافسين السياسيين. لذلك الخوف من الموت، حتى عندما يتم إعدام الآخر، يطور غريزة الحفاظ على الذات. والعرب لا يتسامحون إلا بحدود مع الخوف. وهذه الحدود ليست خارجية فحسب؛ بل إنها أيضا تأتي من منابع من ضمن الذات ومن الصعب تفسيرها أو التحكم بها. وتكون القيود الداخلية بشكل تعقيدات نفسية ولها آثار كبيرة على حياة العرب بشكل عام ونفس الشيء ينطبق على الإجراءات السياسية (6). وكلما اقتربنا من موضوع النظام والتنمية في المجتمعات العربية، لا يوجد مهرب من دراسة الأفراد والجماعات من زاوية طاقتهم وقدراتهم الجماعية. وبصعوبة نستوعب الخوف الذي يسود بين الأفراد والجماعات على أنه حقيقة مجردة ناتجة عن اجتماع الأفراد. ويميل هذا النوع من الخوف إلى وضع قيود يحد منه. وأولئك الذين لا يشعرون أن روابط المجتمع توفر لهم الحماية يميلون إلى التملص من هذه الروابط الاجتماعية مقابل الحماية والأمان في أماكن أخرى. وهذا ما يفسر ميل العرب إلى الهجرة إلى البلدان غير العربية، وخاصة إلى الغرب. وإذا كان الموت لا مفر منه، فإن الأمان يعني تأخير هذا المصير لأطول فترة ممكنة. ولدى البشر قيود داخلية وخارجية بهذا المعنى. والقيود الداخلية تتعلق بالظروف الصحية والفسيولوجية للفرد. أما القيود الخارجية فتتوقف على ظروف البقاء المحيطة.
وتأثير مشكلة الحدود التي تقيد الإنسان العربي تتضمن كل المجالات الاجتماعية. لكن من منظور علم النفس وعلم الاجتماع، إن الخوف من الموت لدى العرب له مظهران. أولاً، على المستوى النفسي، تستدعي حدود الخوف من الموت احتمال التدمير الذاتي. ثانياً، على المستوى الاجتماعي، فإنه يستحضر احتمال قتل الآخرين (7). وقد أفادنا التحليل النفسي الفرويدي أن الخوف من الموت ينتج ما يعرف بـ “قوة الفناء والدمار” أو ما يعرف عادة باسم “غريزة الموت”، وهذا شيء متأصل في الطبيعة البشرية (8). وقد ارتبط أكاديميا مفهوم “غريزة الموت” لأول مرة بالدافع الجنسي وعواقبه المدمرة. ولقد أخذ فرويد المسألة إلى أبعد من ذلك وفصل القوة المدمرة للموت عن الحياة الجنسية (9)، ووفقاً لفرويد إن العقل، وليس تفكير الفرد، يكون في صراع دائم. وهذا برأي فرويد هو الجانب الديناميكي من السيكولوجيا البشرية. وما يحتاج للتفكير منا يمكن اختصاره بالأسئلة التالية: كيف يمكن فهم الصراع؟. ما هي القوى التي تكون في حالة صراع؟. ما هي عواقب القوى المتعارضة التي تناضل ضد بعضها بعضا في ذهن الفرد؟. إن دافع الموت يناضل ضد قوى الحياة والبقاء والعاطفة. وليبقى مسيطرا وغالبا يفضي بنا إلى الإكتئاب والمازوشية والسلوك المدمر للذات والانتحار (10).
وبمجرد أن يتحول هذا الدافع من المستوى الفردي إلى المستوى الاجتماعي يعبر عن نفسه بأعمال إجرامية وقمعية. وإذا كانت على المستوى الجماعي، فإنها تكون عنيفة لا سيما في الصراعات والحروب الأهلية (11). والاقتتال الأخير بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثال جيد على ذلك. ودافع الموت، وخاصة في البيئات العصيبة جدا، يعزز لدينا التفكير النخبوي ويتجاوز الافتراضات الفلسفية المبسطة للطبيعة البشرية. والأفراد في الشرق الأوسط ليسوا، ببساطة، سيئين وتنافسيين ومتحاربين ومخربين بطبيعتهم كما تفترض المدرسة الهوبزية (نسبة إلى هوبز). ولا هم “متوحشون نبلاء” يخضعون لإملاءات المؤسسات الاجتماعية. وهم ليسوا بالفطرة طيبين واجتماعيين. وفي ضوء هذه القناعات يضعف دور الاتجاهات الفلسفية التي تكيل اللوم على الفرد وتدعو لمزيد من الاتكال على المؤسسات في البحث عن حلول ناجعة (12).
ولكن أن تلقي اللوم على المؤسسات في كل الشرور، وترى أنها أصبحت حتما قوة مدمرة لحرية الفرد وخيره وطبيعته المزدهرة، لا يكفي لتفسير الواقع المتعدد الأوجه. لقد ألمح فرويد إلى أن الفرد لا يمكن فهمه في افتراضات وإيحاءات مبسطة، وهذا لا يوضح طبيعته متعددة الأوجه. ويرى أن عقل الفرد محاط بقوى متضاربة، والتعبير عن هذه القوى علنا أمام العالم الخارجي قد يفهمها الآخرون بعدة مستويات: جيدة أو سيئة (13). وما يهمنا هنا أن فرويد قد وضع محرك أو قوة الموت والدمار وإبادة الحياة داخل البشر، وليس خارجهم. وبطبيعة الحال، فإن هذا الإسقاط غير مكتمل إذا أردنا أن نفسر الواقع السياسي في العالم العربي، لأنه إذا لم تكن هذه النظرية الفرويدية مدعمة بالنظريات الاجتماع نفسية التي تهتم بالبيئة العربية تحديداً وبالحوافز والاستجابات الاجتماعية العربية الخاصة، وبضوء القوى الخارجية (ليس التي تنشط داخل العقل)، فإن الدراسة لا تكون مكتملة (14). وفكرة القوى الخارجية لم يبطلها تماماً فرويد أو أتباعه. ويفسر بيك وإيمري وغرينبرغ هذه الكتلة المعقدة من الشروط بربط نظرية الغريزة (وبالتركيز بشكل خاص على غريزة الموت) مع مقاربة العلاقات الموضوعية (للقوى الخارجية) (15). ويمكن أن تكون القوى الخارجية مرئية من خلال إنتاج الكراهية والعدوان والحسد والعنف لدى الفرد. وباستخدام هذا الخط من المنطق نلاحظ أن كلا من الحب والكراهية بدأ بالعمل منذ بداية الحياة. وتعمل غريزة الموت من داخل الذات بيولوجيا وعقليا. ولكن من أجل الحفاظ على الحياة من الإبادة أو الاكتئاب الساحق يجب على غريزة الموت أن تكون مسقطة للخارج (خارج بيولوجيا وعقل الفرد). ومع ذلك فإن بقايا غرائز الموت تختلف من مجتمع إلى آخر ويمكن ملاحظتها في الفرد من خلال القلق والرهاب (16).
وبسبب البيئة المجهدة فإن غريزة الموت عند الأفراد العرب تُسقط في العالم الخارجي بشكل عدواني. وتصبح “الموضوع المجحف الذي يقوم بفعل الاضطهاد”. وبعبارة أخرى تصبح تعبيرا عن حاجة كل شخص لخلق عدو لكي يتعامل مع عدوانه المتوقع الذي ينبع من غريزة الموت (17). وقد حاول فرويد رسم علاقة توازي بين الفرد والمجتمع (18). ولأنه متأثر بأسلوب التفكير الهيغلي فقد صوّر الطرفين بصورة تضاد جدلي متبادل. ومرة أخرى، وبسبب خصوصيات الثقافة العربية، يميل الفرد إلى التعايش مع كلا الدافعين الغريزيين الذين يسمحان بقدر نسبي من السلام الاجتماعي والتطور. وهذا هو الذي يزرع صفة السيطرة على القوى المسببة للصراع وللكبت في داخل البنية. وقد أدى ذلك في المجتمعات العربية، حتماً، إلى الشعور بالذنب، ولميول تدمير الذات، وللاضطرابات العاطفية. وظل التوتر بين الفرد والمجتمع دائما على استعداد للانفجار بطريقة تخريبية أو مدمرة ما لم يتم توجيهه ومراقبته (19).
وتفيد غريزة الموت في تفسير حاجة العرب إلى تطوير قوتهم الداخلية بتوسيع نفوذهم في دوائر المجتمع بالاعتماد على السلاح. ومن أجل تعويض آلية الذنب المتمثلة في إسقاط الموت، من الداخل إلى الخارج، عمل العرب بجد لإنتاج أدوات تساعد على نشر الخير. وسواء هي من أجل الخير أو الدمار إن معظم هذه الأدوات شملت جماعات نشطة وفاعلة. ويتم إنتاج بعض الوظائف بين أفراد الجماعة عن طريق نشاط الجماعة. ويجد الفرد أنه من المريح تخفيف مشاعره الداخلية ومنها غريزة الموت الجماعية، خاصة إذا كانت تحتل وظيفة تعزيز الأنا. وتوفر المجموعة للفرد المستوى الأساسي من الأمان ضد التهديدات الخارجية. ويؤكد بيون أن الخوف والحاجة إلى الأمن هما السبب الرئيسي في تكاتف الناس في مجموعات مستقرة (20). إن حاجة العرب إلى الأمن والحماية أمر محوري في حياتهم، ولكن التكاتف المستقر في المجتمعات يسبب ركود التنمية. ولذلك يعتمدون اعتماداً كلياً على الغرب في العلم والتكنولوجيا. وقد توجب على العرب المبدعين التخلص من الجماعة كي لا يتعرضوا لعقوبات اجتماعية. إن العرب بحاجة إلى أعداء. وإلا سيدمرون أنفسهم .ومن المحبط أن الجماعات بالغت في كثير من الأحيان في توهم خطر “الآخر” لتجنب دوافعها المدمرة للذات، وبالتالي مضاعفة مخاوفها الداخلية فضلا عن تنظيم قدرة وقوى الجماعة على التعامل بشكل أفضل مع العدو المتخيل. وعندما لا تجد الجماعة مجالا للتعبير عن غضبها، فهي تواجه خطراً جسيماً من الداخل. وسيتعين عليها العثور على عدو جديد(21). والمشكلة بالنسبة لأي مجموعة عربية هي الميل إلى الاعتقاد بأن أعضاءها متعاونون ومتحابون ومتكاتفون. ويصدمهم أن يكتشفوا أن أفراد الجماعة يميلون إلى الكراهية والمنافسة بطريقة عدوانية وضارة. فالعدوان مشكلة أخطر بكثير في العالم العربي مما كنا نفترض، وليس من السهل إيجاد حل لها ومقاربتها. إن إنكار العدوانية الداخلية الفردية غير المقصودة يعيق كل المحاولات لفهم واقع السياسة في أي مكان في العالم، وخاصة في المجتمعات العربية. وتؤكد نظرية دافع الموت الميول الفطرية القوية نحو العدوان والدمار. وإذا كانت هذه الاتجاهات متوقفة على الإحباط الاجتماعي فإن الواقع السياسي في العالم العربي كله بالضرورة مشحون بالغضب المحتمل (22). والهدوء الذي يسود من حين لآخر داخل أي مجموعة عربية يمكن إرجاعه إلى الروابط التي يقيمها الأفراد بين مصيرهم ومصير جماعتهم. هناك ميل عند العرب لتخفيف العداء تجاه العرب الآخرين، وتهيئة المجتمع لحماية جماعته وحراسة مصالحه ومصالح الجماعة، وهذا يقودنا لنفس النتيجة. وإذا أردنا أن نتابع مع هذا السياق فإن اعتقاد العرب بأنهم مهددون بخطر مشترك يمكن أن يفرض وظيفة أخرى، وهي الشعور بأن مواجهة أي تهديد مشترك يؤدي إلى زيادة تماسك المجموعات وزيادة التفاعل الاجتماعي. ولكنه أيضا يوفر ميزة التغطية على المخاوف الشخصية البحتة، ويقدم أهدافا جديدة، وربما أوضاعا جديدة للأشخاص الذين كانوا معزولين سابقا، ويقدم للناس الذين يعانون من درجة ما من الضيق الشخصي سببا خارجيا للانسجام الذهني. وهذا يعني أنهم، وهم يقيّمون فشلهم، لا يضطرون إلى اللجوء إلى تفسير يستند على خلل أو مرض ما (23).
تاريخياً، عندما لم تكن الجماعات العربية تدرك الخطر المحيق من خارج دائرتها الداخلية، كانت أهم أداة للتحمل تتجلى في قدراتهم على بناء أنظمة دائمة لتثبيت المؤسسات ولحسم التنافس والحسد بين الأعضاء. وهذا، وفقاً لعلماء الاجتماع، يتم التعامل معه من خلال دفاعات هوسية تؤدي إلى بناء التسلسل الهرمي وممارسة السلطة. وعندما يفشل هذا الوضع تظهرفي الصورة آليات الدفاع عن المجموعات الأساسية وهي: الإنكار، والتقسيم، والإسقاط (24). وقد أظهرت بكل وضوح النزاعات المسلحة بين المدنيين في لبنان والتي نشبت بين عام 1975 – 1990 ومثلها الصراعات الشرق أوسطية في العراق والجزائر واليمن إمكانية انفصال العرب عن مجتمعاتهم وإنكارها. وقد اهتم علماء النفس بسلوك المجتمع في مثل هذه الحالات المتطرفة. وخلصوا إلى أن دفع الفرد إلى أقصى درجات الخوف من الموت يقلل من طبيعة أفعاله إلى مجرد محاولة للحفاظ على الحياة (25). ويفقد الفرد في مثل هذه الحالات سلوكه الحضاري لأنه يفقد تعدد الدوافع التي تدعوه للتركيز فقط على البقاء. وكلما زاد سوء الحظ والضغط على الأفراد كلما مالوا إلى التعبير عن اللامبالاة تجاه الآخرين. لقد ولدت تداعيات الصراع العراقي الكويتي، والصراع الأهلي اللبناني، وغيرها من العداوات الإقليمية مثل القتل المستمر بالجملة في إسرائيل، حقبة جديدة من القلق في العالم العربي، وخاصة بين الشباب. وأظهر طلاب الجامعات مرارا وتكرارا أنهم متخوفون من مستقبلهم وخائفون من تكرار الصراع والعنف في مجتمعاتهم. بالنسبة لبعضهم الهروب من المواقف العصيبة للغاية يأتي بشكل إجراءات غامضة. وهناك تأكيد في علم النفس أنّ ما يعاكس الزيادة في وعي الخوف يتحكم بمجالات إنكار مثل هذا الخوف عن طريق الإجراءات الغامضة. ويتكرر ذلك في العديد من الثقافات والمفاهيم الدينية التي تورط نفسها في رؤى قيامية لا تهلك فيها إلا مصادر الخوف الشريرة بينما يتم إحياء الخير والكفاية والمعقول لنعيش، وليسمح لنا بالحياة في سلام وهدوء. وفي حين أن تفكير الأجيال العربية الجديدة، حسب المعايير المتبعة، تميل إلى معالجة النزعات الانعزالية والنرجسية، إن شيطنة مخاوفها وتمجيد الشهادة يعملان لتعزيز الرغبة الغريزية في الموت (26). ولتوضيح ظاهرة اعتناق الموت هذه يتعين على المرء أن ينظر إلى هؤلاء الشبان الذين تطوعوا للخدمة المسلحة استجابة لدعوة من عشائرهم وأوطانهم وأديانهم. إن الهجمات الانتحارية ليست جديدة في تاريخ العرب والشرق الأوسط بشكل عام. وبالنتيجة إن استعدادهم، المتلهف في كثير من الأحيان، للقيام بذلك هو مظهر من مظاهر الرغبة بالموت. وهي تؤكد على نفسها من خلال الوعد الصريح بأن التضحية بالذات ستجلب لصاحبها الحياة الأبدية – أو على الأقل لجماعته. كانت طقوس الموت والانبعاث تعمل معا ودائماً في الثقافة العربية. وفي جو مشترك من الخوف والقلق، ينبغي معالجة هذه المفاهيم بحذر. فالأفراد يميلون إلى تتبع مصدر خوفهم، وهذا يتبدل مع تبدل الأيديولوجيات. وبالنسبة للقوميين العرب مصدر المخاوف تجدها في الغرب والإمبريالية والانهيار الاقتصادي.
وقبل انكماش شعبية القومية العربية كان الخطر بنظر الإسلاميين هو الشيوعية والماركسية والاشتراكية الملحدة . والآن بعد هزيمة الشيوعية يجد الإسلاميون في الثقافة الغربية مصدرا لمخاوفهم ومصدرا للشر في مجتمعاتهم. ومن المهم التركيز على تأثير الدولة في التحول من مصادر الخوف الخارجية إلى مصادر الخوف الداخلية. فالأنظمة العربية تعتقد أن خلق جو من الخوف ضروري للسيطرة على سلوك الأفراد. وإذا كان الأفراد خائفين من السلطات، فإن هذه الأخيرة تستطيع السيطرة عليهم بشكل أفضل. كذلك يمكن استخدام الخوف كضغط أخلاقي. وترى الأنظمة العربية بشكل غير مباشر أن الخوف هو الأداة الوحيدة في المجتمع لضبط النظام، وإلا فإن المواطنين سيسيئون إلى حرياتهم بشكل كبير. لقد أصبح الخوف أداة تستخدم لفرض الاستقرار والسيطرة على الجماهير في العالم العربي (27). إن العرب خائفون. وخوفهم نتيجة لتاريخهم الدموي وله علاقة بالعلاقات السياسية المباشرة والغريبة التي تحكمهم. وبالإضافة إلى ذلك يعاني العرب من أشكال عديدة من المخاوف النفسية والتشويهات النفسية. واستكشاف كل شكل من أشكال الخوف يستغرق قدرا هائلا من الوقت. ولكن يمكن للمرء أن يلاحظ الصفات العامة وطبيعة وبنية الخوف دون أن يضيع في تفاصيل المنطق النفسي والعلمي للتحليل. وعندما يفهم المرء طبيعة وبنية الخوف على هذا النحو يمكن له أن يقترب من أشكال الخوف السياسي بصراحة.
علاوة على ذلك يخلق الخوف مجالا عاطفيا نقيس به ونعاير تعقيد الجهاز العصبي، وبالتالي، وبشكل غير مباشر، العقل. ويجعل المدى العاطفي العقل البشري جاهزا للشعور بالعار والذنب، وهذا يضيف بدوره ولحد كبير قدرا لا يستهان به من المخاوف عند البشر (28). وبضوء هذا المنطق يقول العرب: الندم على المعاصي باب من أبواب الدخول في الجنة. أتكاتف أنا وابن عمي ضد الجيران، وأنا والجيران ضد الغريب. بورك من عرف عدوه من صديقه. ذو العقل يشقى في النعيم بعقله. من يعرف يسلم، إلخ… وإذا بحثنا في عمق هذه المقولات يبدو لنا أن التخيل والتجربة عند العرب يقرنان المعرفة بالخوف. صحيح أن الخوف شيء ذهني، ولكن جزءاً كبيراً منه يتطور في الظروف الخارجية التي تهدد الإنسان حقاً.
ما هي أسس الخوف في العالم العربي؟. إنها تعبير عن قوى الفوضى الطبيعية والبشرية. وقد حاول العرب خلال وجودهم السيطرة على القوى التي يمكن أن تسبب الفوضى، وهم يبذلون جهودهم بهذا الاتجاه باستمرار. بمعنى من المعاني، كل مؤسسة عربية، سواء كانت طبيعتها ذهنية أو مادية، هي عنصر ينبع من بئر المخاوف الذي يتطور لاحتواء الفوضى. وهكذا فإن الأساطير الكونية والإيديولوجيات الفلسفية والنظم السياسية هي ملاجئ يبنيها العقل لتستقر فيها المجتمعات العربية، على الأقل مؤقتاً، ولتحتمي بها من حصار الفوضى والشك (29). وبالمثل إن التجمعات العربية والشعور بانتماء الأفراد إلى الجماعات بناء على روابط الهوية هي حصون اجتماعية بنيت للدفاع عن العرب ضد مصادر الخوف. وهذا في حد ذاته تذكير دائم بضعف العرب. وبشكل عام إن حدود أي دولة في العالم العربي، على الرغم من أنها تدين بنشأتها للقوى الغربية، سواء كانت مادية أو سياسية أو نفسية، وجدران المدينة، أو مجال الرادار، أو الحدود السياسية التي يدافع عنها الجيش، هي محاولة للحد من غطرسة القوى المجهولة. فالحدود موجودة في كل مكان في العالم العربي لأن التهديدات موجودة دائماً: تهديدات الجيوش الأجنبية، والثقافة الغازية، ومد الموجات السياسية، والاستعمار الاقتصادي. وتوجد أنواع كثيرة من مصادر الخوف في المجتمعات العربية. غير أن الاختلافات بينها لا تكون واضحة بالنسبة للفرد العربي، لا في الماضي ولا الحاضر، لأن التهديد الشديد مهما كان شكله ينتج عادة إحساسين قويين: أحدهما هو الخوف من الانهيار الوشيك للجماعة، والاقتراب من الموت، والذي يؤدي بدوره لسقوط تماسك المجتمع نهائيا في براثن الفوضى. والآخر هو إحساس مشخصن بالشر، والشعور أن القوة المعادية، مهما كان نوع التعبير النوعي عنها، لديها نوايا ومخططات (30).
لطالما صورت المجتمعات العربية التقليدية المجتمعات الغريبة على أنها كيانات قادرة وتتعايش فيها الآلهة والشياطين والسحر والأرواح الشريرة. وهذه الأخلاق المتأصلة في الاغتراب وكونها مختلفة وأفضل روحيا من غيرها تقوي نزوع الجماعة للتضامن. ولأن الأغراب هم السبب الأكثر شيوعا للخوف، يوفر المعارف قدرا أكبر من الإحساس بالأمان. لقد أكد العرب في ثقافتهم أن الأجانب أو الغرباء يكونون غير مبالين باحتياجاتهم، أويخونون الثقة، أو يسعون إلى إلحاق الأذى بغيرهم.
كيف يمكننا ربط ما سبق بالقومية العربية؟. فقط لأن المثقفين العرب أدركوا وأقنعوا الجماهير أن القوة تكمن في التجمعات الكبيرة، بعض العرب، وإن لم يكونوا متكاتفين، وافقوا على الدعوة إلى الاندماج لامتلاك مصادر القوة. ومن خلال العمل الجماعي، اعتقدت المجتمعات العربية أن بإمكانها السيطرة على البيئة المحلية وخلق دفاعات أفضل في منطقة معروفة. والعرب الذين لديهم ميول قومية ينظرون إلى أنفسهم على أنهم يعيشون في جيوب نظامية وآمنة ولكن تحيط بها مجموعة من التهديدات. ولذلك يعاني العرب من القلق من الاضطهاد. ويتصفون بالإحساس بخطر غير محدد ومرعب يهدد الذات من داخلها (31).
والدفاع الأكثر بدائية ضد قلق الاضطهاد هو في أن يعرض الفرد مشاعره الداخلية إلى العالم الخارجي. وهناك في العالم الخارجي تكون هذه المشاعر الداخلية هدفا لمصادر الإرهاب، ولكن على الأقل تصبح شيئا يمكن الفرار منه، أو منعه، أو مهاجمته، وإذا أمكن، تدميره. وبعبارة أخرى، فإن العدوان داخل الذات الذي يعرض الذات للخطر لا يكون بعد الآن ملكًا للذات ولكن يُنسب إلى شخص ما أو شيء آخر (32). شيء يحتاج إلى توضيح فيما يتعلق بمفهوم قلق الاضطهاد أو البارانويا. وهذا المفهوم، بالاقتران مع مفهوم البارانويا السياسية، وهي ظاهرة شائعة في الشرق الأوسط، يعود له الفضل لمضاعفة الخوف والتوتر في هذه المجتمعات. ومن غير المرجح أن يدرك العرب أن ذلك يمكن أن يلعب دوراً في تكثيف مشاعر القلق والعداوات السياسية الخاصة بهم. وعلى الرغم من أن القلق الأساسي ينجم عن شعور غير محدد بالمنع، داخل العقل العربي، إلا أنه أصبح بؤرة أهوال أخرى محددة على الأقل من وجهة نظر اللاوعي. وقد توسع ذلك ليشمل مخاوف العرب من أن يتم استنزافهم أو سرقتهم أو تجويعهم اجتماعيا، أو فصلهم قسراً عن الأشياء المحبوبة. وتميل هذه الآليات إلى زعزعة الكثير من العواطف السياسية العربية. وإذا كانت هذه التجريدات المجسدة للأحزاب أو الأيديولوجيات، وليس الفرد العربي، تثير فعليا الشعور بالاضطهاد، فإن هذا الفرد سوف يشن عليها الهجوم دون وعي منه باستعمال أي أو كل أداة يمكن لموهبة الوعي الباطن أن تصل إليها، وسوف يتوقع ويكون عرضة للمخاوف من أن يصبح هو هدفا لها ويلقى منها نفس المعاملة على سبيل الانتقام (33).
هوامش:
1- فينيك: أساسيات السيكلوجيا.454 – 540.
2- كريستيفا، مصادر قوى الرعب، 4 – 8 .
3- برينير. مشكلة العقل. 3 – 5. بريزنتس، إنكار الإجهاد. 1 – 3 . كونير. قياس الإنكار عند المرضى الميؤوس منهم. 53 – 56.
4- جوني، كاتز. وهامبورغير. مصنف عدواني ضد المرتد ضد نفسه. 313 – 315.
5 – مرجع سابق. 318 – 319.
6- بنجامين. مواثيق الحب. 2 – 3.
7- هيلغارد. الدوافع البشرية و مفهوم الذات. 378 – 380.
8- الوهم الزجاجي. 1 – 3 .
9- غرونباوم. أساسيات السيكلوجيا. 39 – 41.
10- ريف. فرويد: عقل الإنسان الفاضل. 4 – 5.
11- ريش، سيكلوجيا الجماهير الفاشية. 2 – 4.
12- بيران. في الدفاع عن نظرية القبول. 261 – 262.
13- بالياكوف. الأسطورة الآرية. 16 – 17.
14 – حول هذا الموضوع انظر إلى: س. فرويد. الأنا و الهو. مستقبل الوهم. عسر الحضارة. لماذا تشتعل الحروب؟. 205 – 209.
15- بيك. إيمري بالتعاون مع غرينبيرغ. اضطراب القلق و الفوبيا. 4 – 18.
16- ستاين. فيديش بالتعاون مع وايت، الشخصية والقلق. 391.
17- ألفريد. ميلاني كلاين. 34 – 35.
18- س. فرويد. سيكولوجيا الجماعة و تحليل الأنا. 67. فروم. الهرب من الحرية. 23 – 25.
19- فلاكس. التفكير بالجزئيات. 36 – 37.
20- بيون. خبرات الجماعات. 46 – 48.
21- فينكيل. نقد غريزة الموت. 460 – 462. فينكيل. الأفعال العصابية. 201- 203.
22- فينكيل. نقد غريزة الموت. 463. فينكيل: الأفعال العصابية. 205 – 223. جوني. دور الموضوع. 429 – 430.
24- ماركوس وكيتاياما. الثقافة و الذات. 224 – 225. ماركوس وكيتاياما. تراكم الخوف عند الجماعات. 571 – 572.
25- رايش. سيكلوجيا الجماهير الفاشية. 23 – 24.
26- فاست. علاقات الموضوع. 186 – 189.
27- هدسون. السياسات العربية. 21 – 24.
28- ميللر. قضايا نظرية في السيكلوجيا الثقافية. بيري بورتينغا بالتعاون مع باندي. دليل سيكلوجيا المثاقفة. 86 – 88.
29- حول هذا الموضوع انظر: بينيبيكر، بايز بالتعاون مع رايمي. الذاكرة التراكمية للوقائع السياسية.
30- ألبورت. الفرد و دينه. 28 – 29.
31- موني كايرل. التحليل النفسي و السياسة. 2 – 3.
32- فيربيرن. الوجيز في نظرية العلاقات الموضوعية الشخصية. 224 – 225.
33- بيتيت. العقل الشائع. 3 – 4.
ميشيل ج. نعمة Michel G. Nehme عمل سابقا بصفة أستاذ في كلية العلوم السياسية، جامعة نوتردام، لبنان.