د. زهير ياسين شليبه: قراءة في ثمار الزقوم لعدنان المبارك (ملف/12)

إن أهم شيء يشعر القارىء به، حين يستمتع بهذه النصوص السردية الجميلة هو إصرار صاحبها على السخرية من القهر، ولكنها ليست سخرية من أجل السخرية أو الضحك لملأ الفراغ بل ضحك مبكٍ وكل ما يدخل ضمن نظام شر البلية ما يضحك .
وهذا الإمعان في وصف العالم المليء بالفضائع والفضائح والسفالات والدمار بطريقة لاتخلو من مبالغات مقبولة رغم إقترابها من عالم الخيال والأساطير ، يجعل القاري يصدق بأنه إزاء حقيقة إسمها الإنهيار .
وهنا تكمن أهمية هذا النوع من الكتابة التي تبتعد كثيرا عن الأساليب التقليدية إذ إن الكاتب مشغول بالتعبير عن هذا الهم الذي يصر على
إبرازه ، والأخذ بيد القارىء وإقناعه بأن كل ما يقرأه عن هذه الممارسات ليست فضائح مفتعلة بل مصيبة حقيقية بكل معنى الكلمة. إنها كارثة ولعنة حلت علينا جميعا وإن الأمر لم يعد يحتمل ولهذا لابد من عمل شيء ما ينقذ الحال قبل فوات الأوان.
اللغة هي أيضا تتجسد فيها السخرية والإصرار والمواصلة على محاكاة الظواهر والأحداث التأريخية والممارسات السلطوية والحقائق، الا أنها لغة حكي سردية تبتعد عن الافتعال والإنشاء وإنها لغة إنسان خاص يصلح أن يكون بطلا روائيا، لكنها تحتاج الى تركيز وتفاعل كبيرين من قبل القارىء.
هذا النوع من السرد يمكن ان يكون قابلا للتذوق من قبل قراء متفاعلين مع الحالة التأريخية والسياسية ومتقبلين لإمكانية تحليل الظواهر تحليلا فلسفيا أو فلسفة الظواهر الشرقأوسطية.
المصيبة أننا مجموعة شعوب تعيش في مركز الجغرافية والحضارات والتأريخ لكننا مهمشون أو بالأحرى رضينا بهذه الحالة المهمشة من قبلنا أنفسنا ولا علاقة للآخرين بها. إننا نبحث دائما عن شماعة نعلق عليها أسباب مشاكلنا وتخلفنا أو تهميشنا من قبل الآخرين، بينما الأمر لايحتاج الى عناء كبير لمعرفة الأسباب الحقيقية لكل ذلك، والتي تكمن فينا.
أعتقد أن هذا هو جوهر الموضوع الذي أراد الكاتب عدنان المبارك أن يقوله لنا في نصوصه التي كرسها لقضايا أرقته كثيرا قبل أن يباشر الغوص فيها.
والطامة الكبرى إننا شرقأوسطيون شهدنا ملاحم الإنتصارات، في منطقة كانت مهد الحضارات، فأصبحت اليوم لها خصوصية لاتوصف، ينطبق عليها كل ما يمكن أن نسمع من جرائم حتى وأن رويت بطرق أسطورية او خرافية، لأنها مليئة بالأعاجيب، بالقهر والتسلط والحرمان والتخلف ولكن بقوة الإنسان و ذكائه في الوقت نفسه.
أهم شيء بالنسبة لعدنان المبارك هو إعادة مشاعر الدهشة والإنبهار لدى قارئه، وهي صفة مهمة للإنسان لكي يحس بما يجري حوله ويستمتع بحياته وإلا فإنه سيعاني من الإحباط والكآبة. وهذا هو جل ما يخشاه الكاتب.
والمهم أيضا هو أن عدنان المبارك لايعد نصوصا قصصية كما قد يتوقع بعض القراء منه، بل إنه يحاول إنجاز مهمة إعادة خلق الحالة المأساوية، الكارثة التي نعيشها، ممارسا بذلك حبه للبشر من خلال الكتابة بطريقة اخرى، قد تكون غريبة وعجيبة، ممعنة في المغالاة والمبالغات الا أنها الفضلى والمناسبة لمتطلباته للتعبيرعن مشاعره وهمومه ولإيقاظ الآخر من غفوته فيكون بذلك قد برأ ذمته وتخلص من مشاعر تأنيب الضمير والذنب والتقصير. إنها حالة كاثارسيس وجدانية يمر بها الكاتب عدنان المبارك أثناء ممارسته إبداعه وليست مواظبة تقليدية يقوم بها لكتابة قصة عادية تتوفر فيها مقوماتها المعروفة.
هذا ما يمكن للقارىء ملاحظته بعد قرائته لقصة “ثمار الزقوم” وتتأكد هذه المشاعر “في البستان”، إذ إنها نموذج إيجابي آخر يجسد إصرار الكاتب على ممارسة سرديته الساخرة من العالم الفوقي بكل ما يملكه من موهبة لوصف حالهم مؤكدا من خلال هذا الإمعان أو التمادي في السخرية، على أن ما يقوم بهه ليس مبالغة، بل هو الحقيقة. هذه هي حقيقتهم وهنا تكمن مأساتنا. إنها حقيقة مرّة ولهذا يجد القارىء نفسه أمام نصوص يقدمها كاتب متخصص بهم، يبث أحزانه ومعاناته.
ويتجسد نفس النمط من السخرية في قصة “الرئيس الحبيب… الرئيس الحبيب” حيث يتميز بالتواصل مع الواقع لتكوّن مع النصوص الأخرى عالما سرديا كاملا مكرسا لموضوعته المركزية: التسلط والقهر.
هذا الإصرار في متابعة الموضوعة الرئيسة، والإمعان في السخرية وتكريس كل شيء لها يشد المتلقي الواعي ويجعله يشعر كما لو أنه عالم سردي واحد يقترب من الجو الروائي، فهي نصوص مترابطة في حقيقة الأمر يشملها جو فلسفي واحد.
يتأكد هذاالأمر في ( المهرج ) حيث تتجسد فيها قدرة الكاتب الإيحائية وتمكنه من وصف صوره ومعرفته العميقة بتفصيلات الحال، فلديه الكثير مما يقال وحقائقه وحدها تتحدث عن نفسها فتشغل بال الإنسان وتبهره وتدهشه.
إن حالة الانبهار أمام وقائع الوضع التاريخي قد تكون مهمة لدى نوع من المتلقين، يتميزون بالوجد والمعاناة والقدرة على التركيز، ولكنهم عملة نادرة في هذا الزمان الذي صار الناس فيه بسبب الإحباط يفضلون الكتابة البسيطة أو الرومانتيكية.
هناك أمر هام أود أن أختم به مقدمتي وهي أن لغة عدنان المبارك سردية بسيطة وجميلة، إستطاع تحويلها من عادية الى فنية بلا افتعال وبدون السقوط في المباشرة أو الشرح أو الكتابات الاجتماعية ولا الكتابة القصصية التكنيكية المفتعلة التي تتميز بإقحام مقومات النثر السردي على حالة الكتابة بشكل مصطنع فتكون النتيجة نثرا سرديا جامدا أو جافا او تقليدا للآخرين.
هذه النصوص مفعمة بالحيوية والحياة ولهذا كتبت عنها هذه المقدمة.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *