الشاعر “طيب جبار” ” لا احدَ في الجوار ليأخذ الظلَّ الى الدار”
فاروق مصطفى

أصدر الشاعر المهندس ( طيب جبار ) مجموعتين شعريتين مترجمتين من الكردية إلى العربية , المجموعة الأولى حملت عنوان (ذات زمان كان الظلام ابيض) دار الغاوون–بيروت عام 2010 أما المجموعة الثانية المعنونة بـ ( قصائد تلتفت الى الامام ) فقد صدرت عن دار الغاوون أيضاً عام 2012 ولأهمية هذهِ القصائد وثرائها وغنى التجارب التي صدرت عنها أُلفت ثلاثة كتب عنها , في البدءِ كان كتاب (في الطريق الى الشاعر المهندس طيب جبار) قراءة ومختارات لكاتب هذهِ السطور , وأما الثاني فقد أصدره الشاعر صفاء ذياب وجاءت تحت عنوان ( يرشد الظلام الى طريق جانبي ) والثالث عُنْوِنَ بـ ( رائحة الالتفات ) تحرير الكاتب حسين علاء الدين عام 2018 .
وكتاب الشاعر طيب جبار الجديد الذي جاء تحت عنوان ( لا أَحَدَ يأخذ الظلَ الى بيتهِ ) جمع فيه قصائد المجموعتين السابقتين وذلك لنفاذ نسخهما في الاسواق , وها هو يقدم قصائده الى المتلقي بهذا العنوان الشجي ويبدو أنه اسْتله من سطور نصهِ الموسوم بـ( يوميات راعي الهموم ) ومن مقطعها السادس المندرج تحت يوم الخميس (لا أحد ضَيَّفَ الظلال أو اخذها الى بيته ) الظلال التي تتعب وهي تتبع اصحابها , يقفون فتقف _ يتحركون فتتحرك فهي تعاني من شقاء التعب ولا تريد أن تبقى في العراء , يعوزها الدفء فمن هنا حزن راعي الهموم على معاناتها واساها عندما يجدها مشردة بلا مأوى وهنا استذكر هذهِ الاسطر التي نفثتها يراعة مولانا جلال الدين الرومي المتوفى عام 1273
” أنت ثمل
وأنا مجنون …
ولا أحد في الجوار
يرينا الطريق الى المنزل ”
ولكن حبنا المستهام وقلوبنا المعراة يقودنا في طرقاتِ المعاناة , نمشي ونمشي عسى ولعل نعانق ذياك النور الذي شاقنا حتى النخاع , نمشي ونرقب الطريق وسلواننا كلماتنا التي لن تخون متأملين ( راعي الهموم ) وهو يوزعها على أيام الاسبوع السبعة .

فاروق مصطفى وطيب جبار

الشاعر يعبر سقف العالم متأرجحاً بين هاويتين وعذاباته تمزقه فماذا يصنع حتى ينتصر على الشرور والمناقص التي يصطدم بها , يحمل كلماته مستظلاً بها وعابراً الى جهاتٍ عديدة عله يبصر الزاوية الأكثر والأحسن إضاءة ويعانق النور الذي شرد من أجله طويلاً :
يقول الشاعر :
” لذتُ بجهاتٍ كثيرة
لا أحد أوضح لي
أسباب نجاسة الليل ”
نلاحظ أن الشاعر يوظف كثيراً مفرداتِ الزرع والبذار والحقول والحدائق لأنه يعلم أن الجدب والبوار يطوقان حياتنا لهذا يهتف ” الحقل أجهش بالبكاء ” فلا بد من إعادة الربيع اليه لاستعادة اخضرارهِ واسترداد ازهراره .
من التقانات التي يغرم بها ( طيب جبار ) تعاطيه لظاهرة التكرار وتخبرنا الكتب البلاغية بأن للتكرار مزايا عدة , إن التكرار اللفظي يضفي التوكيد على الكلام وكذلك من جمائِلهِ اضفاء الحلية والجمال على التراكيب فمن هنا شاع تعاطي اسلوب التكرار في الشعر قديماً وحديثاً , وهنا في هذا النص الجباري ( نسبة الى طيب جبار ) تواجهنا عبارة ( لا احد ) التي تتكرر وهي متكونة من ( لا ) النافية للجنس واسمها المبني , يقول في المقطع الثاني المندرج تحت يوم الاحد :
” لا احد يحدد لي …
حافات الفيضان
كي أنصب خيمة
لا أحد يحدد لي حدود الغيوم
كي احملها بالامطار ”
إن الناطر فيها يلاحظ تدفق الانزياحاتاللغوية عبر السطور الشعرية ولا يسعه إلا الاعتراف بخيال الشاعر الممراع الذي يبتكر هذه المجازات غير المألوفة ويشتلها في حدائق كلماته.
في مقطع يوم ( الثلاثاء ) تتوالى الصور الشعرية وتنهمر كمزنة ربيعية دافقة وهي تتعاقب من السطر الى السطر الذي يليه , والشاعر يستعيرها من دفاتر الطبيعة من مفردات السحابة والندى والحرير والنجمة والقمر ثم ينقعها بمياهِ الاغاني وعزف الشبابة لترتسم في اخر المطاف لوحة لليأسِ والجلوس قرفصاءً لتأمل هذه اللوحة التي انبنت على هذه الصور المنثالة , ترى لماذا لم تنطق الاغنية ؟ ولماذا اخفقت الشبابة في استمالة الريح ؟ يبدو أن الاشياء بارت وانداح القحط وتوجس المناخ .
الشاعر ( طيب جبار ) من الشعراء النادرين في امتلاك مفرداته اللغوية وابتكار معجم خاص به وادارة مفردات هذا المعجم وتوزيعها على سطوره الشعرية الممهورة ببصمته المائزة وفوق هذا أتخيله مقتعداً في شرفة داره في ( هوارة برزة) ومتأملاً جبال ( كويزة ) وهو يستنطق الطبيعة مستعيراً من تحت اقمصتها كلماتهِ ليوظفها في قصائده التي تتحمم بعذاباته وقد تعب من احلامه التي آدت منكبية وتآكله الانتظار الطويل للرياح القادمات من الضفاف البعيدة علها تحمل له ولو حفنات من العزاء الذي نحن جميعاً في عوزٍ الى سلوانهِ وضنكٍ حتى مشارف الانعتاق والخلاص .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *