الحياة عبارة عن صندوق مهما اختلف شكله الهندسي , فالثلاجة عبارة عن صندوق , والتلفاز صندوق , الحاسوب صندوق , جهاز التكييف صندوق , السيارة صندوق , الطيارة صندوق , حتى الغرف تبنى على شكل صندوق , وكذلك البيوت , وهكذا .
اخيرا , يحمل الانسان بداخل صندوق ( تابوت ) , على اكتاف محتويات صناديق المستقبل , ثم يربط على ظهر صندوق ( سيارة ) , فتحفر له حفيرة في الارض , على شكل صندوق , وبداخلها حفيرة اكثر ضيقا ( لحد ) , هي الاخرى على شكل صندوق ايضا , فيحشر فيها حشرا , ثم يهال عليه التراب , ويمضي الاخرون ( الاهل والاصدقاء ) , معتقدين بل يظنون انه سيرقد بسلام ! .
تقصد تلك النملة جحر النمل مسرعة , تبلغ من فيه , بأنهم تركوا عزيزا لهم هناك , فيهب النمل لحمل العدة , الفؤوس والسيوف والسكاكين وكافة انواع السلاح , ويهرعون للمكان , ويصرصر صرصور ليرشد اقرانه الى مكان الجثة , فيهرعون بما لديهم من العدد والعدة .
تتجمع جيوش الديدان والحشرات , حول ذلك المكان , تنظم صفوفها , وتضع الخطط , ثم تشن الهجوم , تمزق الاكفان , وتغرس الحراب في ذلك اللحم الطري , وتبدأ عمليات النهش والقص , العض والاكل , التقطيع والتشنيع , الحمل والنقل الى مخازن الاوكار والجحور , واذا بالميت ينظر مرعوبا , لا يقوى على دفع حشرة , بعد ان كان يدعسها برجله , او يداعبها بحركات مسلية , عندما كان حيا طبعا , واذا به ينظر الى ذلك الجسد الذي طالما ابعد عنه الضيم , وحافظ على توازنه بما يليق بمقامه ومنزلته في المجتمع , اذا به غدا وليمة للديدان , فيمعن النظر اكثر واكثر , فاذا بعينيه واذنيه وخديه وباقي اعضاء جسده , اصبحت وليمة مجانية للحشرات الغريبة , الموحشة المخيفة , ثم ينظر الى ذلك الانف , الذي كان رمزا للكبرياء , رمزا للإباء , فاذا بالديدان عليه تقتتل , وهكذا باقي الجسد ! .
بفرح وسرور , تلتهم جيوش الديدان طعامها وتقول ( بارك الله فيك .. كنت لنا خير الطعام … فأكلنا كل ما فيك … ولم يبق منك سوى العظام ) .
تتسلق احدى الديدان هامة الرجل , وتنفخ في البوق , يتوقف الجميع عن الاكل , تتجه الانظار الى فوق , فاذا بالنداء ( لقد جلبوا صندوقا جديد ( تابوت ) , يرومون تفريغ محتواه غير بعيد , لحما طري , طازجا , لكم الاحداثيات ( جنوب – شمال – شرق – غرب ) , اما هذا فلم يبق منه سوى العظام , اتركوه وهلموا بنا ) , تركوه ومضوا نحو الوافد الجديد , فكمن لهم الخطر , من اعداء كثر , لقد سمنت الحشرات والديدان , فترهلت , وأبطأت حركتها .
يقترب عندئذ العقرب , لعله يظفر بما يشاء ويرغب , ويسيل لعاب الافاعي , كذئاب تنتظر الفتك باغنام المراعي , على حين غـرة من الراعي , فتلتقي الجموع , ويتعالى الصراخ , بعضا يموت , وبعضا يصاب .
يرى الميت ان جسمه اصبح مرعى للديدان , فسرحت ومرحت فيه , كما تسرح الماشية في المروج الخضراء , ثم تحول بعد الرعي الى ساحة قتال , بين الحشرات والديدان , ثم بينها وبين من يقتات عليها ! .
باتوا على قللِ الجبال تحرسُهم … غُـلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ
و استنزلوا بعد عزّ من معاقلهم … وأودعوا حفراً يـابئس ما نزلوا
ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قبروا … أين الاسرّةُ و التيجانُ و الحللُ
أيـن الوجوه التي كانتْ منعمةً … من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ
(( فـافـصـحَ القبرُ حين ساءلهم … تـلك الوجوه عليها الدودُ يقتتلُ
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا … فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا ))
و طالما عمّروا دوراً لتُحصنهم … ففارقوا الدورَ و الأهلينَ وارتحلوا
و طالما كنزوا الأموال و ادّخروا … فـخلّفوها على الأعداء و انتقلوا
أضـحـت منازلُهم قفراً معطلةً … و ساكنوها الى الاجداث قد رحلوا
سـل الـخـليفةَ إذ وافت منيتهُ … أين الحماة و أين الخيلُ و الخولُ
ايـن الرماة ُ أما تُحمى بأسهمِهمْ … لـمّـا أتـتك سهامُ الموتِ تنتقلُ
أين الكماةُ أما حاموا أما اغتضبوا … أين الجيوش التي تُحمى بهاالدولُ
هيهات ما نفعوا شيئاً و ما دفعوا … عـنك المنية إن وافى بها الأجلُ
فكيف يرجو دوامَ العيش متصلاً … من روحه بجبالِ الموتِ تتصلُ
( الامام علي الهادي ((ع)) )
حيدر الحدراوي