Stalker فيلم روسي رائع من السبعينات يبدو وكأنه أُنتج حديثاً
محمد كريم إبراهيم – محلل وكاتب عراقي

ليس فيلماً عادياً على الإطلاق، بل إبداعاً فنياً لا تضاهيه أياً من الأفلام القديمة والحديثة، يحمل ما بين بدايته ونهايته معنى عميق وعريق، ويؤثر مباشرة على عاطفة المشاهد ويختبر عقله. الفيلم نفسه عبارة عن واحد من عجائب السينما، يجب عليك مشاهدته وتجربته مثلما يجب عليك مشاهدة جبل ايفرست وتسلقه، لتنظر إلى الأفلام بشكل مختلف وإلى الحياة من زاوية أوسع.

حبكة الفيلم تتحدث عن ثلاث أشخاص يذهبون في رحلة إلى مكان أسمه “الحيز” الذي فيه يتحقق أعمق أماني الفرد. نلاحظ أن الشخصيات ليست لديها أسماء، بل ألقاب فقط، فالشخصية الرئيسية لقبه (المطارد) والآخر (الكاتب) و(البروفيسور). لقد عمد المخرج على عدم إعطاء الشخصيات أي أسم لكي لا يجهد المشاهد عقله في تذكر أسماء الشخصيات، وليركز انتباهه على القصة ورسالتها الفلسفية. كذلك نرى أن أسم الفيلم بسيط للغاية (المطارد).

وظيفة المطارد هي تهريب الناس إلى منطقة محظورة تسمى “الحيز” مسكونة بكيان حية ومليئة بظواهر خارقة للطبيعة جاءت إلى الأرض من خارج الكون كشهب أو ككائنات فضائية، يوجد فيه غرفة يتحقق فيها “أعمق أماني الفرد” عند الدخول إليها. فيستعين شخصيتان به ليفعل ذلك، الكاتب وعالم الفيزياء. يطمح شخصية (الكاتب) للذهاب إلى ذلك المكان ليبحث عن شيء يكتب عنه، ربما ليستلهم بالكتابة عن هذه التجربة الفريدة والمثيرة. أما (البروفيسور)، فيريد أن يكسب الشهرة من خلال تفسير تلك الظواهر غير الطبيعة تفسيراً علمياً فيزيائياً ويكشف أسراره قبل أي فيزيائي آخر.

الفيلم من إخراج المبدع الروسي أندريه تاركوفسكي. بالإضافة إلى هذا الفيلم الراقي، فلو عدت لتشاهد أياً من أفلامه أخرى الرائعة التي أُنتجت في السبعينات والثمانينات، سترى بأن هذه الأفلام تبدوا حديثة وكأنها عملتْ في السنة الماضية، حديثة من ناحية التصوير والتمثيل، وحديثة من ناحية القصة والمغزى. العواطف والنصوص التي تنقلها أفلامه لا تزال ذات صلة بعصر ما بعد الحداثة الذي نعيش فيه اليوم. حرص تاركوفسكي على إخراج أفلام لا تتقيد بزمن محدد حتى تبقى خالدة للأبد ومؤثرة لجميع البشر مهما كانت خلفياتهم.

أفلام أندريه تاركوفسكي دائماً ثرية بالمعاني، ومليئة باللقطات الفنية الطويلة، والشخصيات مفعمة بالمشاعر الإنسانية، فعادة ليسوا منطقيين، بل تلقائيين، يتصرفون كما يتصرف الإنسان الشائع من طبيعته الوراثية. الانتقال في جميع أفلامه من لقطة إلى لقطة أخرى يكون طويلاً وسلساً، حيث لا يُتعب عقل المشاهد، كمشاهدة الشمس وهي تتحرك وتتغير ألوانها من دون أن يحس الناظر بتلك التغيرات لطول اللحظة وسلاسة التغيير. لذلك يمتد طول أفلامه عادةً إلى أكثر من 3 ساعات (كما هو هذا الفيلم) لتركيزه على إطالة تصوير اللقطات المهمة والداعية إلى التأمل.

تاركوفسكي أنتج 7 افلام فقط، كل واحد منهم لديه خاصية ورسالة معينة ومميزة يترجم جانباً من الحياة البشرية ويُجمد قطعةً من الزمن من أجل المشاهد تقرباً لعواطفه من خلال فلسفة ضخمة يتبعها شخصياته داخل الفيلم.

لقد وازن تاركوفسكي في هذا الفيلم بين إعطاء المشاهد معنى محدد ودقيق من الفيلم وبين فصح المجال للغموض والتأويلات ليصل الفرد بذاته إلى معنى يراه مناسباً ومشخصاً لنفسه وحياته وملائماً لتجاربه. ووازن الفيلم أيضاً بين البساطة والتعقيد، سوف تنظر من ناحية إلى أحداث تجريدية في الفيلم لا يمكنك ربطها بأي شيء طبيعي ومحسوس، ومن ناحية أخرى توجد أيضاً وقائع سهلة الفهم التي هي غير ضرورية للمخرج لنتمكن من امتصاصه من دون عوائق حتى لا نضطر إلى إجهاد عقولنا طوال الفيلم. كما قلنا أن المخرج عمد إلى عدم ذكر أسماء الشخصيات وعمد أيضاً إلى تبسيط القصة السطحية غير الضرورية من ذهاب ثلاث أشخاص إلى مكان معين.

أما التعقيد، فيظهر في “الحيز” الغامض الذي هو من إنتاج حضارات ذكية فضائية. هذا الحيز يشبه مصباح علاءالدين، وفيه غرفة المنطق التي تشبه تماماً الجني، سوف يحقق أصعب احلامك. ” الحيز هو متاهة معقدة من الأفخاخ، حالما يظهر البشر فيه، يبدأ كل شيء بالتغير” يقول المطارد للكاتب الساذج عندما أراد نزع وردة من أرض “الحيز”. لا ندري لماذا الحيز مطوق من جميع الجهات ويُمنع الدخول إليه، لكنه مليء بالحطام وبقايا بشرية محترقة ومتصدئة، مما يشير إلى حصول حادثة مأساوية فيه.

يأتي الناس إلى “الحيز” بحثاً عن السعادة والأمل، لذلك لا يدخله سوى أشخاص ضعفاء وفاقدي الأمل. يقول المطارد: القوة والصلابة هما رفيقا الموت، الإنسان يبدأ حياته ضعيفاً ومرناً ويموت صلباً وغير قابل للاحساس. الشجرة تنمو رقيقة ومرنة، وتموت صلبة وجافة. الضعف والمرونة هما اشارة لطراوة الكيان.

يبدو أن المطارد هو انسب شخص للدخول إلى الحيز، لأن فيه تلك الشروط اللازمة من فقدان الأمل في حياته الشخصية الخاصة وضعفه وعجزه، حيث نشاهد في بداية الفيلم أنه يعيش في غرفة متصدئة وخالية وعتيقة، وفي شجار دائم مع زوجته حول وظيفته الخطيرة والبائسة.

يقع هؤلاء الثلاثة في عديد من النقاشات الفلسفية في طريقهم نحو الغرفة في الحيز. ومن أفضل تلك النقاشات هو تحدثهم عن معنى الحياة والفن وبالتحديد فلسفة الموسيقى والغرض منها. يقول المطارد: ” أن الموسيقى ليست متصلة بالطبيعة، فلا نرى اي موسيقى في الطبيعة، والموسيقى ليست مخلوقة عن طريق الذكاء، بل عن طريق ميكانيكا الأصوات فقط. لا يحتاج الموسيقى الى شخص ذكي. الفن والموسيقى بالتحديد لا يحتاجه أحد، لذلك هي غير انانية. ” ثم يتراجع عن ذلك، ويقول: “إن الأشياء الفنية يجب أن تكون فيها نوع من المنطق وغرض.” هذه الفلسفة بالطبع ليست جديدة، فهي مذهب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وتعظيمه للمشاعر والفنون فوق المنطق والعقل.

الموسيقى في الفيلم نفسه فريدة من نوعها ومنسجمة مع اللحظات. يغلب عليها بعضاً من الهدوء والعمق لإرخاء السامع وتهدئة المشاعر، ثم تحويل الإنتباه نحو الحوار بين الشخصيات. وضع المحرر تلك الموسيقى السامية مع لقطات طويلة في الطبيعة حتى يكثر المشاهد من التأمل بأقوالهم وأفعالهم.

كل شيء يتغير في الحيز في كل دقيقة، فعلى المطارد أن يكون حذراً لكي لا يقع في فخه. إلا إن الفيلم لا يعلمنا بما حصل وسيحصل للأفراد الذين وقعوا في الفخ، فهو بذلك يترك المجال للشك حول حقيقة وجود مثل تلك المنطقة.

فيقول البعض إن المكان وقع فيه انفجار نووي، والحيز هو مجرد خيال في عقل المطارد. وهناك بعض من الأدلة تثبت ذلك؛ مثلاً، نعلم من البداية إن بنت المطارد ولدت مشوهة بسبب “الحيز”، ويظهر في الأخير إن حافز البروفيسور ليس تحليل الحيز تحليلاً علمياً، بل هناك هدف آخر لمجيئه إلى الحيز، وهو لتفجيره إنتقاماً من نظام الحكومي ورئيسه السابق. وحمل البروفيسور للسم دليل على خوفه من قبض السلطات عليه والتحقيق معه وليس مخافة من “الحيز” نفسه.

يمكننا استبعاد هذه الاحتمالية بالقول إن المخرج وضع نصاً في بداية الفيلم على لسان المجتمع يعترف “بالحيز” وبقدراته الخارقة. كذلك يبدو أن امرأة المطارد تتحدث عن المطاردين ووظيفتهم وصفاتهم كما لو كانوا موجودين لقرون داخل المجتمع. ومن خلال المحادثات الخاصة بين الكاتب والبروفيسور نستنتج أنهما يعترفان أيضاً بالحيز وبوظيفة المطارد.

الفيلم فاتح للعقل، لامس للعواطف العميقة، قادر على توسيع الأفكار، إن كان لديك وقت، فأذهب إلى أقرب سينما حالاً أو أستأجر نسخته الحديثة التي صدرت في عام 2017 لمزيد من الأصوات الواضحة والألوان المُصححة.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *