الفطحل في مغامرة بصراوية
بقلم زهير شليبه*
بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب عدنان المبارك 1935-2016 (ملف/10)

كان الفطحل يرتدي سترةً فوق دشداشةٍ بألوان مبهرجة مزركشة كأنه قرقوز!
قد تكون سترتُه “مقفّلةً” لكنها تبدو ملطخةً، متسخةً، بل قذرة! أو رماديةَ اللّون عند التمعن ببقايا لونِها الأساسي، تختلط الألوان هنا القرمزي والأصفر والفخاري والنفسجي، مؤطّرةٌ بخيطٍ أخضر رفيع. دشداشتُة البيجيةُ لم يبقَ من لونها شيء يُرى بالعين المجردة، فضفاضةٌ، متهرئةٌ. صارت ملابسه خارطةً بفعل آثار الزيوت والسوائل وفضلات البهائم. الغريب أن الدشداشة أيضاً تبدو فيها خطوط خضراء دقيقة تلمع في بعض الأماكن كأنها في الأصل سلك حريري لتكتمل صورة الفطحل كمهرج يسخر منه الآخرون.
كان الفطحل يتذكر العصابة التي “علسته” كما يُقال في هذه الأيام وحسب المعلومات القادمة لنا من حبيبتنا المنكوبة بغداد. و”العلس” مصطلح جديد كما يبدو يُطلقُ على أي مخطوف أو بالأحرى مختطف تبيعه العصابة الخاطفة إلى نظيراتها الأخرى، يعني إلى “زملائهم” في المهنة والعمل، ليش لا؟ كل شيء ممكن في العراق الجديد المحرر من قبل الرفاق الكاوبوي الأميركان.
تذكّرَ الفطحلُ المسكين كيف قال له مرّةً أحدُ التافهين “العلّاسة” ويبدو من هيئته ونظراته ولسانه أنه من أولاد الشوارع:
– لك أعور العين أخ ال… أنعل ابوك يا بو الجابك علينا هنا، هالمره نك … وصوّرنا كل شي بفيلم، دير بالك، حِسّك عينك ترجع هنا، روح لبولونيا، يقولون مَرتك البولونية توسلت بربعنا وراح يدفعون فلوس حتى نطلق سراحك. دير بالك وترجع للعراق بعد، مَنْ..ي…و…!
طبعا لايمكن نقل كلِّ مفردات هذا المجرم بحذافيرها لأنها قبيحة يندى لها الجبين!

لكن صاحبنا الفطحل لم يُصغِ لكلامِ أصحابِه ونصائِحِهم كعادته، إذ إنه وحسب رواياتِ المقربين منه لم يُطق الغربة هناك وإهمال زوجته البولونيه له، التي إنتهت بأن رمت ملابسه أمام سكاّن البناية البولونيين ساخرةً: فينوخا زمويغو دومو تي برودني آربوسه، مام جي دوشج، زامينجيويش منيه، يوش نيي موغيو فاس زنوشج دووشي، هيبوكريتسي، نيغوسي، كوامتسي، فينوخه زووجيو ز بغدادو ! [ إطلع من بيتي ايها العربي القذر، انا تعبت منك، لا أقدر بعد على تحملكم، منافقون، أفاقون، كذابون، اطلع حرامي بغداد ! ]**.

***

تصميم عدنان المبارك
فيليتون

لم يتحمل الفطحلُ بَردَ بولونيا وصعوبةَ لغتِها الغريبة عليه وإهانات زوجته وتهكّمها المتواصل به، وأغرته حياة “الجاه والسلطة” التي تصوّرَ نفسه أنه يتمتّع بها في بلده العاق، كما كان يسميه بدلاً من العراق.
صحيح أن أهله قطعوا إتصالاتِهم به وتنكّروا له خوفاً من “الإبادة الجماعية” التي يمكن أن يتعرضوا لها بسبب حبّه للظهور في برامج بعض المحطات التلفزيونية والتباهي والإدعات وإصدار التهديدات والتحذيرات والإنذارات هنا وهناك مؤشراً بسبّابته متهماً كل معارضي الإحتلال الأميركي بالإرهاب والتكفير، كما فعل في بداية السطو متصوراً نفسه بأنه يملك سلطة حقيقية في البلد، إلا أنه إقتنع أخيراً بتحذير أحد “السياسيين” من القادة الجدد وإستجاب لإغرائه بأن يسافرَ معه لفترة قد تطول إلى بولونيا كعضو في وفده. وكان للفطحل ذلك، وصار يخدمه خير خدمة ويوفر له السندرلات الجميلات لاسيما أنَّ زوجتَه تقبلته على مضض أو ببرود في البداية، لكن الأمور تغيرت من سيء إلى أسوء إلى أن ضاقت به الأحوال.
عاد الفطحلُ إلى بلده متصوراً أنّ جيبَه المليء بالدولارات سيجلب له الجاه والإحترام. إتصل بوالدته، قالت له والدتُه نائحةً في الحال:
– يُمّه الله يخليك إرجعْ لا تبقى هنا، ما إلك مكان بديرتنا، العراق صعب، الناس هنا مو سهلين، قبل كان عندنا حصار وكنّا فقراء، وصدّام فارك خشومنا! هسّه تغيرت أحوال الناس، دخل الأميركان وصدّام راح! قبل كم سنة، كنت تقشمرهم بورقه وورقتين، مستعدين يقتلون ويفجّرون إذا تدفع لهم ورقة! هسّه يطلبون الملايين!! هسّه صار عندنا ألف صدّام! إبني! بعد من يقدر يقحمهم هذول العراقيين، صايرين نار كبره، يمّه! لاتتصل بينا تَره كلهم انقتلوا بسببك، إنتقلنا لغير مكان بسببك، ما نريدك بعد هنا، خليك بعيد وسعيد.

وصار الفطحل الإنسان المسالم يبكي ويلقي شعراً:

بصقة
على البلد العاق!
بصقة على تلك الحياة والنفاق!
يخيرونك بين الآلام
والنعيم
نحن لها رغم النعاق
في البراري نهيم
بالعناق
وفي الوديان نقيم
والبلد المعاق
حتى نقض مضاجع الإرهابي اللئيم

إتصل الفطحل بأحد محرِّري الصحف الجديدة المدعومة من لوردات الحرب والأميركان لا يقرأها أحد، قال له عندي قصيده عن الإرهابيين أريدك أن تنشرها.
نُشرتْ القصيدةُ في اليوم الثاني مع صورته الكبيرة وهو يؤشّر بإصبعه قائلاً: لا مكان للإرهابيين في بلاد الرافدين!
لكن يا خسارة “ماعمّرت الحاره”، بعدها بأيام وَجَدَ الفطحلُ نفسَه في صريفةٍ وزريبةٍ مليئة بالقاذورات والدواب وجها لوجه مع مجموعة من العتاة أولاد الشوارع السفلة يوجّهون له أقذع الإهانات والإزدراءات “أمُّداك! ما تجوز من سوالفك؟!، راح تبقى هنا، هذا مكانك، حالك حال الغنم إلى أن تجينا الفلوس.
مَسَكَهُ “الضابط” كما يسمونه، من زيق دشداشته الممزقة المتهدلة هازاً جسده فسقطَ شماغه القذر:
– إسمعْ، انت الظاهر كل شيء ما يفيد وياك، المَرّه السابقه بترنا لسانك، المَرّه الجايّه نقطعه كله ونكسر رجلك وناخذك لمصر نجدّي بيك، بس نقتلك؟ لا، مستحيل، لازم نخليك على هالحال الى أن نستلم الفدية، طلبنا 100 ألف دولار! وإلا نخلي حتى الدواب تن… وياكلك الدود وتموت، يَلّه، قمْ من مكانك، تحركْ!
كان أفراد الحماية يقهقهون بوجوههم القاسية المشوهة قائلين بأصوات عالية كأنهم دمى أو ببغاوات متأرجحة يهزون رؤوسَهم “أحسنت سيدي! عاشت إيدك سيدي!” كلما سنحت لهم الفرصة، لكن سيّدَهم أدار وجهه إليهم، كما يبدو مشمئّزاً صارخا بهم:
– كم مرّه قلت لكم ما تضحكون لما أتكلم؟ بهايم!
– عفواً سيدي! قالوا بصوت واحدٍ
– إنصراف! روحوا شوفوا شغلكم! خلّوني أدخّن!
جلسَ زعيمُهم على كرسي متحرك قديم، لكنه لايزال مريحاً، يبدو أنه من مخلفات “الحواسم” مسروق من مؤسسات الدولة بعد السطو الأميركاني على العراق، لم يستطع الضابط أن يمنعَ إبتسامةً صغيرة أن تظهر من بين شاربين منسدلين على شفتيه عندما جاء أفراد حمايته واحداً تلو الآخر يسألونه “سيدي محتاج شيء؟”، أحدُهم قالَ له “سيدي، عفواً ضحكنا شويّه لماكنتَ تتكلم مع هذا الجرو!” أشار لهم بيده أن يغربوا عن وجهه. قرّرَ الضابطُ أن يسترخي قليلاً بعد أن تركوه لوحده حتى غلبه النعاس.

***
– لَك وين رحت؟ إبن الق… ليش خلّيت الدواب تسرح وحدها، آني كم مره قلت لك ما تتركها! جراب إبن الجراب! يلّه قُمْ !..
بهذه الكلمات خاطبَ “الضابطُ” المتسلطُ صاحبَنا الفطحلَ بينما كان زبانيتُه أفرادُ “حمايته” يقفون وراءه بوجوه عابسة يتلفتون يمينا ويسارا. ماكان من الفطحل الا أن نهض قائلا كأنه يتمتم بلسانه الألثغ محاولاً إسترضاء عنجهية هذا القائد:
– شمعاً وتاعاً، شَمعاً وتاعاً، شيّدي
مَسَكَهُ الضابط هذه المرّة من “خوانيقه” وهو يدفعه إلى الوراء:
– حِسّك، عينك، تروح بعيد من هذا المكان، مفهوم!
وصرخَ به بصوت عالٍ وبكل ما أوتي من قوة بلسان سليط والرذاذ يتطاير من فَمِه:
– يَلّه! فوت منّا! دير بالك عالحلال! وخّر من قدّامي!

– أمرك شيّدي، الله يخليك لا تخنقني، آني إشْشَّوّيتْ؟ آني ماقتلت ولا ضربت أحد، والله آني مشكين والله مشكين!
وإنهارَ الفطحلُ في البكاء بينما راح “يَهشُّ ويَبشُّ” الدوابَ يركض وراءهم و”حادَهم” نحو الحظيره. وبقي هناك خائفا مذعوراً من نظراتِ الحرّاس يبحلقون فيه ساخرين منه.
أشار “الزعيم” إلى حارسين طويلي القامة أن يأتيا اليه، وراح يهمس بإذنيهما، يبدو أنَّ أحدَهما تَململَ، قالَ له بصوت خافت معاتباً متوسلاً به بخنوع “سيدي والله صعب عليّ، مادَ أقدر، ريحته تعط، ماتقلّي إشلون أسوّي هاي الشغله ؟ “. رد عليه الضابط ” لَك كلب إبن الكلب، تريدني أسويلك اجواء شاعريه؟ هذا شغل آني جبتك من الرعيان وسوّيتك حمايتي، بعد شتريد؟ أحسن أرجعك للحلال؟ تريد أخليك تسرح بالغنم؟ كلب!” ردَّ الحارس مطأطأ الرأس:
– تؤمر سيدي، اللي تريده يصير.
بدت علائم الإرتياح على وجه قائدهم “الضابط”، بينما أمر الحارس الثالث أن يصور كلّ شيء بكامرته الصغيرة.
وجلس حاكمهم الأوحد على أحد الكراسي يدخّنُ سيجارتَه مستمعاً لصراخ الفطحل وتأوهاته وبكائه وأنينه بهستيرية.

****
كان الفطحل يجلس لوحده يعاني من الجوع حائرا بين تنظيف الدم من ملابسه والقذارة، أرادَ أن يأكل كسرةَ خبز إلا أنّ شهيته كانت مسدودةً، وصار ينحب ويصرخ ويأنُّ باكيا مغمغماً يلفظ الكاف تاءً والقاف دالاً والراء والذال لاماً ومن لايعرف حاله لايفهم من كلامه شيئاً، لكن اللبيب تكفيه الإشارة:
” لِج يُمّه ليش عفتيني؟ وينكم اهلي؟ اهل الحموله ؟ مو آني تِنتْ داعد ببولونيا، ليش لِجعتْ ملّه تانيه لهالبلد، هلوله قتالين قتله، مدرمين، تِلهم مدرمينن البولون حكراء والعراقيين مدرمين.

وكان لسان حاله يقول “ياريت لو أقطع لساني كله وأفقس عيني الثانيه كي ابدو أبكمَ وأعمى، فإلى متى سأتحمل هذه الحياة المُمِلّة، ياليتني أعود الى القرية البولونية وأتصالح مع زوجتي، لكن إشلون؟ إشلون؟ فانا اليوم لا جواز سفر ولا هويه منعزل في هذا البستان، لا أعرف مكانه، يقولون إنه في أطراف البصره، وأخدم هؤلاء الساقطين شذاذ الآفاق الذين يهددوني بأن يسلّموني إلى عصابة أخرى أو المجهول، لكنهم يَعِدوني بأن يطلقوا سراحي إذا إستلموا الفدية، وبعدين يهرّبوني الى الكويت لكنهم لم يَفوا بوعودهم، “ماكو شيء، لافديه ولاهم يحزنون، ولهذا “ضباطهم” السَرسَريّة يعاملوني أسوء معامله، أخدمهم بكل شيء لكنهم يشتموني دائما، يارب ماذا أفعل لهم؟” ويردّد بين نفسه مقطعاً من اغنية كانت جدّته ترنّمها، مستوحاة من حكاية قديمة عن “أم صنكور”، إمرأة عجوز نرجسية متعالية “شايفه نفسها شوفه”، تعشقُ الدنيا، ذات طموحات ورغبات وأمانِ وأحلام كبيرة بأن تبقى على قيد الحياة أبد الدهر، كانت تضغط على إبنها صنكور بأن يجد لها مكاناً يعيشون فيه لا يدفنون موتاهم في القبور!
أجل، لم تُرد أم صنكور العجوز أن ترضى بالواقع وأن تكف عن التطلع إلى الأعلى، وأنّ عليها أن تتعايشَ مع فكرة الدفن، وأن يكونَ مصيرُها القبر عندما تحين منيّتها وتنشب أظفارها كبقية الناس العاديين، ولم تتقبل هذه النهاية أبداً، وتهللت أساريرها وفرحت بالمكان الجديد الذي إنتقلت إليه مع إبنها حيث سمعوا أن الموتى لايدفنون فيه كما أخبروهم، إلاّ أن النهاية لم تكن سعيدةً كما هو الحال في الحكايات الشعبية وكما توقعت هي وإبنها طيب القلب وصافي النوايا، وأنَّ المطاف إنتهى بها عند آكلي لحوم البشر حيث طبخوها بدلا من دفنها حسب تقاليد سكّان هذه المنطقة الجديدة، عبثاً حاول إبنها صنكور أن يردّهم عن ذلك، لكن سبق السيف العذل وإنتهى الأمر فلا مناص، فصار إبنها يردّد متأسفاً باكيا،ً و الدموعُ تُرقرقُ في عينيه وتسيل منهمرةً:

” يا أم صنكور يا أم صنكور
ماردتِ دفن بقبور
أخذي طبخ بقدور!!

أيلول 2009-2006

* تصميم الرسم والعنوان ونص الجملة البولونية وإختيار نوع الخط من قبل عدنان المبارك.
**تعليق عدنان المبارك على هذه القصة:
يبدو أن شخصية الفطحل ألهمتني فكتبتُ عنه قصةً ضمّنَتها أشعاراً جديدةً من إستلهاماته.
في الحلقة القادمة، سأروي لكم ما بقي من مغامرة الفطحل البصراوية وعموما مغامرة عودته الى ربوع الوطن.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *