قراءة في قصة «بريتي أنانا
ناظم السعود
أظن أن القاص «عدنان عباس سلطان» قد وجد نفسه مصطدما بمأزق تعبيري حين خطرت له فكرة قصته «بريتي أنانا» فكان عليه ان يحسم أمره معها قبل أن يتورط بمآزق أخرى او ان يسير بمنهج لا يرتضيه، كانت القصة – أولا- يسيرة/ خطية/ تبدأ من الشعور بالتوحد وتنتهي بلحظة الوداع والفراق، وبين اللحظتين تهتز النفس لمساحة التذكر واسترجاع ما كان، فكرة عابرة «وتقليدية» كهذه من الممكن ان يصادفها اي شاب وشابة في بدء علاقتهما الاولى ولا تخلف اثرا او وخزا في النفس ان كان لهما او لمن يسمعهما، كما ان قاصا جادا مثل عدنان ( تسنده جملة من تجارب السرد السابقة والصادرة في كتب مثل: الغبار، المقايضة، الموت من النعاس، كائنات في زجاجة) ما كان يرضى ان يدوّن تفاصيل شاحبة هي أقرب للتجاهل والنسيان.. فماذا يفعل؟ لقد فكر مليا بكيفية الخروج من هذا المأزق بإعادة صياغة الفكرة ذاتها وشحنها بعناصر جديدة وصبها في مناخ آخر تجعلها عصية على النسيان، كما انه أجهد نفسه وأدواته السردية كي تكون قصته هذه علاجا لحالة اجتماعية مغلوطة انجر اليها المجتمع في أزمته السلبية الاخيرة، اي ان عدنانا اراد من قصته ان تكون علاجا ظاهرا لحالة سالبة ولكنها مبطنة، وهذا لن يكون من غير اضفاء حالة من التعبير الواخز او حتى الايهام، واذا كانت الفكرة بسيطة وتقليدية فإنها لا تحتاج لأكثر من قراءة أفقية تواكب المكتوب وتجمع وحدات الروي الثلاث وتعطي ايجازا يسيرا عن الفكرة، ولكن ان تعمقت الاحداث وشفت الشخصيات عن افكار وحركات اكثر عمقا مما هو ظاهر فهنا نحتاج لقراءة عمودية تكسر القشور المغلفة وتفضح المستور وتنفذ خلفها لبيان أسبابها وهذا هو قصدنا او ما نسعى اليه!. .. ولكن كيف حول القاص الفكرة العابرة من أفقية لتكون عمودية، وهل نجح في ذلك؟!.
لجأ أولا لمناداة ومخاطبة الفتاة التي يحب بـ «بريتي» وهذه تعطينا دلالة انه لم يكن يهواها حقا برغم انه وصف علاقته معها بأنها (حميمة) لكن الصواب انه كان يرهبها ولا يتمنى قربها ويتجنب لقاءاتها في أعماقه فهل كان يكرهها؟! الأكيد أنه لم يكن سويا بل يحسبه القارئ من ضمن غير الاصحاء والبعيدين عن الاتزان الداخلي، ولهذا فهو يصف الفتاة المحبوبة بأنها بريّة وهي تعني باللغة «غير اجتماعية و تتجنّب الناس أوتخافهم، وتبتعد عن الاختلاط بهم وعن معاشرتهم!» والواقع المنظور ان هذه هي صفاته هو ويروم الصاقها نفسيا وتعبيريا بالفتاة «او اسقاطها عنوة» والا فهي اجتماعية وتتصل بالناس ولا تخافهم وتنظر اليهم بما ليس فيهم! ثم انه يقدم ثانيا لإثارة الشك في نفوس من يقرؤونه (كنت أريدها أن تزهد بي وتهجرني! كنت نادما على معرفتي وعلاقتي الحميمة معها، كان خطأ جسيما أن أقع في حب لا يتحقق فيه الأمل والاستمرار، ومن اجل ذلك صنعت لها كثيرا من الخصامات السخيفة..) والذي يتأمل في هذه الكلمات (برغم الخطأ النحوي الظاهر) يغزوه الشك من عدة جوانب لا في مصير علاقة معتلة من البدء بل في حقيقة وجودها ومصداقيتها فهل كانت موجودة ام تراها منعكسة و مختلقة من قبل واهم؟!.
الامر الثالث الذي تجرأ عليه صاحبنا – في سعيه لتطوير فكرة القصة وتأجيجها وفتح نوافذ الأفكار والتفسيرات عليها – هو أنه دفع الفتاة «حبيبته» الى الهجرة بهواجسه وتناقضات سلوكياته فما كان من الأخيرة إلا تجسيد فكرة الهجرة والصعود الى المركب الذي سيوصلها الى ( الساحل الاخر!) وهذا قرار خطير يخفي نوايا قصية ولا اجد حاجة هنا لتفهم دوافع الهجرة او النبش في خلفيات هذا القرار (لأنها من الواضح تتجذر من اسباب شخصية) .. لكن يجب ان نعي ان مجرد تحويل الهجرة الى سلوك معناه هجر المكان والانتقال الى زمن مفتوح، بمعنى آخر ان ركوب مركب الهجرة من قبل الفتاة وخصوصا لو كانت الوجهة هي «الساحل الاخر» تدل دلالة باطنية على بغض المكان «مرحليا» والابتعاد عنه وتفضيل زمان ومكان اخر عليه وهذا فيه اشارات لدوافع الهجرة ومسوغاتها!.
ولكي يضخم النتيجة ويجعلنا في بؤرة الإحساس السلبي من هول الهجرة واسبابها فإن القاص عدنان عباس يعمد الى تكبيرها وتعديد اعدادها وجعلها «جماعية» من خلال دفع -العوائل مع أطفالهم وحقائبهم الكبيرة..- للركون الى مركب الهجرة، اي اننا امام هروب جماعي وليس حلا فرديا تسوغه مآزق خاصة، ولو اننا قد راجعنا ما كتبه القاص لأحسسنا بالمرمى البعيد الذي هدف اليه» المركب يمتلأ ( كذا) رويدا رويدا بالمسافرين، جلهم من الشباب الذين يتمازحون مع بعضهم البعض. بدا لي بان سفر الصاعدين إلى المركب، يشبه احتفال بمناسبة مفرحة على غرار احتفالات الأعراس. ركوبهم للمركب ربما كان يمثل أغلى أمنياتهم..»ومن الجلي ان (المسافرين) يمثلون قناعا لمجتمع محبط وجد في «المركب» فرحا مدخرا او تنفيسا لأمنية محتبسة.
والمفاجأة التي يظهرها لنا السارد عدنان عباس في القسم الاخير من قصته ينبغي مراجعتها وتملي دلالاتها، يلفت ابصارنا (فجأة) الى وجود «رجل» غريب يصرخ و»ينده» الفتاة المهاجرة ويخوّفها من صعود مركب الهجرة ويعدد لها اخطار هذا القرار: «بريتي .. لا ترحلي. بريتي لا تتركيني وحيدا. أرجوكم نبهوا تلك الفتاة المجنونة.. قد تغرق وتغرقون معها.. لا ترحلي بريتي أرجوك..»
وبرغم حرقة قلبه عليها والمخافة من مصير قادم (قد يكون الغرق !) الا انها ( تهورا منها او لكثرة الزعيق حولها) لا تسمع كلماته ولا تحذيراته وتستمر في رحلتها وما خططت له ( لم ينتبه له احد من المودعين رغم صوته الجهير، ورغم سحنته المأساوية التي توحي بحلول كارثة. أنا الوحيد الذي التفت إليه. وأنا الوحيد كما يبدو من شعر بعظم ما يعانيه ..) ويمكن ان نعي اسباب «الكارثة» التي اشار اليها الرجل في تحذيراته ونواحه وفجيعته القادمة، لكن كيف نفهم انه الوحيد الذي انتبه له من المودعين (رغم صوته الجهير؟!) ، اظن ان هذه هي علامة من اننا امام شخصية افتراضية لا وجود حقيقيا لها عند المرسى ولا بين المودعين الا في مخيلة الكاتب والواقع ان»الرجل» يمثل قناعا للسارد ذاته وهو ينشر هواجسه وتداعياته قبل حلولها التجسيدي وقد جاء الكاتب بهذه الشخصية «المفترضة» ليقول السارد من خلالها ما لم يستطع قوله هو ..لقد كتب القاص عدنان عباس سلطان قصة عن الهجرة (وهي آفة اجتماعية وبيلة اخترقت مجتمعنا وعددا من المجتمعات الشرقية في السنوات الاخيرة) وبين كيف يمكن للسرد الادبي ان يخوض مشكلة عويصة ويقدم حلوله واقتراحاته حولها، واخطر ما في هذه القصة تلك المفاتيح التي ينثرها فيها او ينشرها حولها: العلاقة غير المتكافئة بين اثنين/ مركب الهجرة الذي قد يكون حلا ولو فرديا/ ديار الاحزان/ الامنيات والافراح/ الساحل الاخر/ شخصية الرجل المحذرة والافتراضية/ السارد الموهوم بحبه/ المجتمع الفرحان باختياره والجاهل لما ينتظره .. الخ بمعنى اننا في لحظة زمنية مأزومة ومن الجلي ان القرار فيها لا يخلو من الصعاب وبخاصة لو جاستها رؤية كاتب بدرجة .. فنان