هذه المناجاة الأمومية التي تحز الروح هي فرصة لنا للتفريج عن غم نفوسنا ودخان مرجلها الذي يغلي بذكريات أرواح الشهداء والمفقودين والغائبين خارج أسوار الوطن… لدينا ملايين الغرقى عبر تاريخنا الطويل المحمل بالخطايا والأهوال، نهر تاريخنا مثل نهرينا مسرفين في الكرم والتقتير… مثل انساننا الذي قال عنه الجواهري الكبير في مقصورته:
تريك العراقيَّ في حالتيه
يسرف في شحه والندى
نهر تاريخنا مليء قاعه بجثث الغرقى المغدورين… من تموز إلى الحسين (عليه السلام) إلى العراق الجميل… وتحضرني هنا مداخلة مهمة للباحث السوري (فراس السواح) من كتابه (لغز عشتار) يقول فيها:
((ان أعظم ما قدمته الشعوب السامية القديمة للعالم من تراث كان طقوس الحزن وقهر الذات سواءً أكان ذلك بالتضحيات الكبرى كالتضحية بالأبناء أم بالممارسات السنوية للحزن في عملية مشاركة (تموز) الذي يحتجزه الموت.. هذه الطقوس التي جعلت بعض الباحثين يفسرّها بأنها عملية مشاركة من الشعب حيث يكون الحزن بمثابة النزول إلى العالم الأسفل لتخليص الاله المحتجز واعادته إلى الحياة وهو ما تزال تمارسه المسيحية في اسبوع الالام قبل الالام قبل الفصح ولو رمزية كما ما يزال يمارسه الشيعة المسلمون في ذكرى استشهاد سيدنا (الحسين) في (عاشوراء) كل سنة… فبعد المسيحية تسللت مراثي الاله الميت تموز، أوزوريس، آتيس… الخ إلى الإسلام في طقوس عاشوراء وتبدو طقوس كربلاء قديماً لناظرها مشهداً لم تغير منه الوف السنين شيئاً، وبينما يقوم المحتفلون بلطم خدودهم وشد شعورهم وضرب أنفسهم بسلاسل الحديد حزناً على (الحسين) الشهيد، تلتقي صرخة التفجع التي يطلقونها في عنان السماء ((يا فتى يا حسين)) بصرخة (عشتار) النائحة المحفوظة في طبقات الأثير العليا وصرخة (العذراء) الثكلى ونكاد نستمع إلى مرثاة واحدة تمثل وحدة العاطفة الإنسانية عن تاريخ البشرية:
((… آيلينوس… مانيروس
ويلي عليك يابني.. ويلي عليك يا دامو
ويلي يا ولدي… ويحي يا نور العالم… كيف تراك مقلتي معلّقاً على الصليب…
كل الأشياء تبكي معي… يا فتى يا حسين))
ان (أيلينوس) -والكلام ما زال لفراس السواح- أي- لانو- وتعني (وا أسفاً علينا) أو (الويل لنا) تشبه إلى حدٍ بعيد صرخة الفجيعة التي تطلقها الندابات في (سورية) اليوم وهي (ولي علينا) أو في العراق: (اويلاه) أو (اويلاه يا سيدي… يا غريب كربلاء) أو (ويلي… ويلي) الصرخة الجريحة التي يطلقها مطربو أرياف الجنوب، أو الصرخات التي يسمعها المار قرب أي منزل حلّت به مصيبة في أي حيّ شعبي هي أكثر الصرخات في كل اللغات تعبيراً عن حسّ الفجيعة الهادر انبثقت من هذه الأرض، أرض الرافدين، الأرض التي ابتلعت دامو/ دموزي، ثم عادت لتبتلع الحسين الشهيد الذي سبب استشهاده جرحاً مضافاً استقرت بذرته السوداء في تربة الوجدان العراقي الممزق أصلاً وكأن هذه الأرض تسن قانونها الأحمر: لاحضاره بغير اله قتيل، لا دين بغير شفيع مذبوح… اله أو شفيع نبكيه كل عام مكفرين نادمين نمزق من اجله ارواحنا وقلوبنا وصدورنا العارية… جريمة فندم فتكفير يشعل الاحساس بالخطيئة التي لا تنطفئ الا بجريمة جديدة وهكذا… وفوق ما اختزنه الشاعر من حزن جمعي عبر الامتداد الاسطوري جاءه حمل حزن مضاف يتمثل في استشهاد الحسين الذي يتربى على مضغ مراراته منذ طفولته:
((آني جم رايه حسينية تمزكها الرياح
اريدن رايه منذوره
يا حسين
اريدن للزمن صبرك…
واريدن صوتي يحفر جيش
اريدن منك الحيره
جبل… بالريح
من خوفي المنايا تخاف
تنهض بالدرب وتصيح
يا حسين…))
-صوت الناي-
وفي أوصال موقفه من الحسين، منفعلاً باستشهاده، تمتد مسارات وملامح نفس المهابة الاسطورية من الغائب الأول الذي ابتلعته الأرض/ العالم الأسفل وبكاه العشب وتخلى عنه الماء:
((… يا حسين
بكل شبر من صيتك الصافي تمدد موت
حَن بس العشب..،
لم روحه فوگ الموت
منك يستحي (الحفار)
لم روحه وجفاه الماي
يا هذا البلد ما تستحي من الماي
لم روحه النخل صلبان
ما يكفي النخل، رمل النجف نيران))
-صوت الناي-
لكن هذا البلد لا يستحي من الماء، وهذه الأرض لا تخجل من نبعي العطاء اللذين ينبثقان من كفيها ارض تلوك أجساد أبناءها وتطحنهم بلا شفقة وتبتلعهم أو تلفظهم ممزقي الأرواح والرايات، حتى صارت محنة (الغائب) لازمة عراقية مسجلة، وحتى صار مفتاح (الغياب) هو الوحيد القادر على فتح أبواب خزانة الأحزان العراقية، وصار العراق والحسين، لدى الشاعر حاضرين فوراً حين تستدعي ذاكرة الشاعر (غائبه):
((يا حسين…
انت لو مدفون بيَّ
لو الك شبرين تنبع دم بأراضي كربلا
يا عراق… يا عراق
تريد من دمنا بعد جم كربلا
من كربلا…
(سيراً على الأقدام- حتى الفاو
صرنا كربلا
وانت بعدك ما صرت لسه عراق))
-صوت الناي-
كم كربلا يريد منا العراق؟ قلنا ان حزن الشاعر المشتعل تحت شمس العراق له امتدادات في تربة مرثاة عمرها آلاف السنين، وان قافلة الغائبين –من تموز إلى الحسين إلى شقيقه- لا زالت تغذ السير حثيثاً نحو واحة العذاب القاحلة، ولكن عاملاً آخر شديد الوطأة على روحه يحدو بقافلة الأحزان هذه بعزم انتحاري جسور.. هذا العامل هو واقع بلاده وفحيح أرضه. عراقه الذي لا يقنع بألف كربلاء. العراق عصف بوجود (علي) و (سطره) بالمحبة والخيبة:
((دايخ بعمره العراق
ياهو كلي المايدوخ
لو شرب حزن العراق))
-صوت الناي-
العراق بلد لا يوفر أبناءه الصيد، هو الأم التي تخنق أبناءها في لحظة فرح حسب قول (محمد الماغوط) والأبناء يعتصرونها حد الاختناق من شدة غضبهم. مشاعر العراقيين تجاه وطنهم هي مشاعر متضادة Ambivalent- أيضاً، شحنة النقمة من الفردوس الدامي والتي تتخفى خلف كاسحة الحب والولاء (تميت العراقي حباً).. اتصور العراقي ووطنه عاشقين سادومازوخيين يمسك كل منهما برأس صاحبه ويبكيان في الظلام:
((مذبوح الوكت مذبوح
يا روحي وبعد بيج المذله تنوح
محفورة المدينه بروحي سكته.. وليل
يلبسني التعب… والليل
بجه بدمي العراق وترس بيَّ الليل
سكت بيَّ الضمير ودنكت…
وحشه وهظيمة الخيل))
-بيان للزمن المذبوح-
ولمن لا يعلم، و(علي) مقترفي (استعراض) بطولاته و(غيابه) في السجون الوطنية، فان علي نفسه كان مشروع (غياب) نهائي في التسعينات حينما أوشكت رمال صحراء العراق الغربية ان تبتلعه في محاولة يائسة للخلاص( ) ان كل حزن (علي) هو من حزن هذه الأرض مثلما هو جسده المجبول على اديمها، نقول كل حزن (علي) لأن حزن العراق يتضمن كل أحزانه الجمعية والفردية، كل شهقة أخ على شقيق مغدور، كل آهة أم متذمرة أتعبها الوقوف بصرّة الطعام على أبواب السجون السياسية، كل دمعة حبيبة تذرفها على حبيب ضائع، كل أحزان الأهوار، كل عذايات المنافي، كل أحلام الطفولة المكتهلة مبكراً، كل ريعان الشباب الذي مزقته الرماح، كل قطرة دم مسفوح كل مسيح، كل حسين، كل صليب، كل عاشوراء، كل مقبرة سلام الصلبان تأخذ خشبها الأصيل من نخيله، العراق هو أنين في الظلام يسمع منذ آلاف السنين، لا أحد يعرف من أين، ولا أحد يعرف إلى أين. العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي فطوره دم وغذاؤه سم وعشاؤه همّ.. يقول (علي):
((… وآني شجرات العمر يبسن… ينيران العراق
هاكثر بيَّ عراق
هاكثر بيَّ فرات
هاكثر بيَّ نثايا
وهاكثر بيَّ سبايا
وهاكثر بيَّ أغاني وكربلا))
-صوت الناي-
ويقول أيضاً:
((هذا بس آني وبعد بيَّ حجي
بكثر ليل الظيم بالشعب العراقي
بكثر طير الماي بالهور العراقي
بكثر حزن الناس بالشعر العراقي
بكثر ما بيَّ عراق.. وكربلا.. وحب.. وشعر))
-هموم عراقية-
ومن المقطعين السابقين نعود إلى لب المحنة، محنة التضاد، فهذا الوطن لا يحيي الشاعر ولا يميته، لا يميته فيكفر ولا يحييه فيشكر:
((واحنه… والهم… والمدن
روح العراق شراع… ويباهي السفن))
-هموم عراقية-
لقد شبع الشاعر حباً وقهراً في وطنه.. وهنا ينضاف رافد آخر صخاب يصب في نهر حزنه بمثابرة وثبات، انه اغتراب الشاعر وسط واقع سياسي منافق وكريه تعامل فيه قضايا الأوطان مثلما تعامل العاهرات:
((والثورة العطش يبس نخلها…
ويه الثمر
طعم النفط يذبح مذاق الروح..،
وتعاند
صليب تكوم فوﮔك بيار منهوبه
الجرف ياكل نوايا الماي…))
-قطار الليل البعيد-
ورغم ذلك يمسك الشاعر بقضايا وطنه بأنياب روحه:
((هذا التراب.. لا بس سنيني قدر
ومنقط بكل المسامات الذهب))
-قطار الليل البعيد-
انه يحب وطنه ببصيرة تاريخية ثاقبة تعزز عشق الفطري وهذه هي المصيبة والطريق المستقيم نحو الكارثة، كارثة الوعي بالحب. صدقوني ان الحب الفطري لا يعذب، ما يوصلنا إلى الهاوية والاكتئاب هو الوعي بالحب:
((… والناس من يشهكك شرفها
تلكه راس الوطن بعيون الثريا… أيام
وأيام النذاله الشعر يصفن ليل..،
ويودع نهاره
والرجال النص على متون الخليفه،..
جفوف للذل
كل معاركهم دعاره
إنشد الهور العراقي…
تلكه جم بصره وكف بيها العبيد
وﭽم مسار انكتب بافراح الشهادة
والشهادة طعم تاريخ الوطن
والموت… بس الموت للثوره عباده
من يرد الشجر مكسور الضمير للتراب
آني… وانت… والتراب… والبلا
من يمر بينا مهر مجروح نوكف كربلا
من يمر بينه طفل ثوبه البرد
… دمه حجر… ثوبه برد
ثوبه سيارات… واعلانات ثوريه…
وعمارات وخطب))
-هموم عراقية-
الشاعر يدرك، وهذا من أسرار محنته، ان الوعي عذاب والمعرفة طريق خراب.. والمشكلة هي انه كلما أوغل في غياهب غابة الوعي واندفع بعيداً في مجاهيل المعرفة، كلما ازداد حباً بمعذبه وتصاعدت وتائر معرفته بنبل قاتله وسلامة نواياه… معذور الوطن معذور:
((… دفعوني جرف للنار… خطواتي متاهات
وظلام الروح، من يلتم على العتبه منارات
دفعوني التتر…
نزليت بالذله عشر ﮔامات
صافن والرصاص يهيل
من كل الجهات… ومالي بالميدان حربيه
الحرب بالروح شبت، والمنايه تنوح يوميه
زمن مكسور سواهم زلم
بالليل ينتصرون ع الحزن العراقي
وبالنهار… أصعد صليب الصمت
واشهد ع الشرف من ينحني من السيف
ويذل
واشهد ع النبي المذبوح
من يلهب نجم ويهل
بهلاهل يردم البارود…
وبدمه الوطن يصهل))
-الحرب-

هكذا هو صراع التضاد، مرير، حارق، ومدمر. انه حرب الداخل التي لا تهدأ. ان رماها تدور في ساحة الذات، ضحيتها الذات، واطراقها الذات نفسها. الذات هي القاتل والقتيل الضحية والجلاد، الشاهد والمتهم.. ((والحيره العراقيه التدير الراس))… و
((لسه ساكت
هاكثر بيَّ ولك سكته يخايب…
واني ساكت
شاور أحلامي العراق
الدايخ بأول عمر
… آني أوسع وسفه بيَّ
آني ألهب نار بيَّ
آني موكد لسه خافت))
-صوت الناي-
ان سؤال الـ(لماذا) لم يعد في نفس العراقي القلقة منذ فجر التاريخ هو الأول في سلم الاولويات، لقد أبتلعه العراقي وتجرعه مثلما يتجرع الحنظل. السؤال الأول الآن هو سؤال الـ(متى؟) دائماً هناك شيء ما (غائب) في العراق. العراق بنفسه (يغيب) ثم (يظهر) أحياناً، وأمام أنظار بنيه، حصل هذا كثيراً عبر التاريخ، في كل مرة يغيب فيها تنتاب أبنائه شكوك أكثر رعباً. ان المعضلة الأساسية في حياة العراقي هي معضلة (الغياب في الحضور) و(الحضور في الغياب) ولأن الشعراء الشعبيين قد انبثقوا من وجدان هذا الشعب وروح هذه الأرض نجد هذه الموضوعة/ المعضلة/ بالحقيقة المحنة، قد أستولت على شعرهم حتى في معالجتهم لموضوعات حبهم الشخصية في الظاهر، الحبيب الغائب يتلبس بالمنقذ، والمنقذ يتخفى خلف أستار الحبيب الظاهر. هنا نعود إلى حيث تركنا موضوعة (الغياب) في شعر علي وهي أم الموضوعات. قلنا لحظتئذٍ أن واقعة غرق أكثر خطورة حصلت بعد واقعة غرق شقيق الشاعر الا وهي واقعة غرق أنا الشاعر، لقد غرق شقيق الشاعر فصنع فاجعة، وغرق الشاعر حياً فخلق شعراً وأسطورة، وسنرى ان الشعر والأسطورة تدور حول محنة (الغياب) وقلنا أيضاً ان موت الشقيق قد خلع جزءاً من (أنا) الشاعر ولذلك هز كيانه وشعر بهشاشة وجوده وقابليته على الانجراح والا فهو يرى الكثير من حالات الموت في حياته سيكون على الشاعر بناء شعور ذاتي مؤصل مفاده قانون اللاشعور في كونه عصي على الفناء إذن ستكون الخطوة الأولى ممثلة في (تصور) رحيل الآخر بصورة مستقلة ومنفصلة عن الذات وهي مرحلة الأسى الأولية:
((يا ذاك الصبي المس التراب الحار…
وتلوع
شم العطش شتويه بوجه الغركان
شاف الماي ضيـﮓ بالليالي..،
وواسع بكل حين
باس الطين
سور البيت يتفطر عطش
ونذر للغايب الماعاد
ويندي التراب بخطوته الوسعه
-نهر من الفرات-
ويفترض هذا الموقف تصوير واقعة الرحيل بعين شاعر دقيقة ورقيقة في نفس الوقت:
((وانت بثوبك المهجور ع الشاطي
… رمح مدت شمس تموز
ينبت بالعشب رايه
وسمعت الصيف صافن ع الشريعه،…
بكيظ الولايه
-نهر من الفرات-
لكن الرحيل، رحيل من احببناه وتماهينا به، يعني رحيلنا المتوقع بعد حين لذا سيكون واجب الذات (تزيين) هذا الرحيل من ناحية و(توسيعه) بمنحه أبعاد كونيه من ناحية أخرى. يقول (علي):
((غاب الماي بالثاني
وعبر جسر الرمل بالليل
والتف بالحلم
صينيه فضه
وحنه مغسوله بدمع شمعه
وسفر بالماي))
-نهر من الفرات-
وهذا الرحيل فيه جانب من الاحتفاءات الاسطورية والفلكلورية بكل (الغائبين) من آلهة قديمة أو اولياء وشفعاء.. فصينية الفضه والشموع والحنة والماء هي مستلزمات احتفاء بالغائب تكاد تكون ثابته في اغلب البلدان. ان مثل هذه الصورة هي أشبه بصورة ولادة أو (انتقال) مبهج وسار إلى عالم فردوسي وليس إلى عالم أسفل:
((… سبح… لن النهر جرفين يبراله
وذهب ينزل الماي اليلمس الكذله
ذهب
والماي غناله
سبح لن الرمل بالروح يصعد حار
والجرفين لحزامه فلك… ويدور
كلك تسبح بفضه ينهر النور
كلك… والصواني تدور
تتلون بماي الشمع
تلهب… والكمر بلور))
-نهر من الفرات-
من هنا تبدأ خطوات (توسيع) هذا الرحيل/ الغياب ليأخذ أبعاداً كونيه حيث تحتفي الطبيعة بمكوناتها بخطوات (الماشي على الماء) أو النازل في النهر… فليس الشمع والصواني هي التي تحتفي به، بل الماء والنهر والقمر. ان هذا الرحيل هو (نزول) سيتبعه (صعود) وهذه في جملتها (حركات) ولادة:
((ينزل للنهر ليليه… يغفه
ويه الصبح… ويروح))
ولان (الصعود) المقبل المحتم هو صعود (أنا) الشاعر الذي غرق بعد غرق الراحل، ومن دون ذلك سيقر برحيل شقيقه وبرحيله المقبل. فان (أسطره) الغياب ستأخذ مداها عندما نضفي على فقيدنا سمات القوة التي غيبته، هذه القوة هنا هي نهر الفرات (ومن الظواهر اللافتة للانتباه هو ان (الفرات) يتكرر كثيراً في أغلب قصائد (علي الشباني) في حين لا نجد أي ذكر لـ(دجله) في شعره!!) ولهذا نجد الشاعر يمنح فقيده سمات الفرات برمزيته التاريخية وفعله الاحيائي:
((فايض ما يلمك ماي
حلاتك بالعبور تحنن الجرفين…
واتحزم
واكلك بالسوالف دور
مسارك للعطش منذور
تنبض روحك بكل بيت
تمشي بكل شجر…
يحسب زمن شمسك
فيايه… ونور
-نهر من الفرات-

ان ما نبغيه من هذه المداورة الطويلة نسبياً هو الانتقال إلى مركز عقدة (الغياب) في حياة (علي الشباني). ان ما قدمناه عن صعوده بواقعة غرق شقيقه من فاجعة في حياته الواقعية إلى صورة مصغرة عن قصة الغياب الكبرى في شعره ما هو الا تمهيد لفهم الكيفية التي تعامل بها الشاعر مع العقدة الأساسية التي تحكمت بحياته وشعره، وهو الأمر الذي لامسه الراحل (طارق ياسين) في مقدمته بسرعة حين قال ((ثمة صلة بين شقيق الشاعر والغائب أبداً في الماء وبين (صاحب الزمان) الغائب أبداً في ضمائر المضطهدين ولا يأتي أبداً، ومن جهة أخرى نجد بين هذين الغائبين معاً، وبين الشباني من خلال حضور أهتماماته، صلة أعمق من ذلك على مستوى الخسارة، وقد تجلت هذه الوشيجة في بعض قصائده المهمة، وبامكاننا استشفاف نوع من الغياب فغي نسيج شعره والاحساس به من خلال حضور اهتمامات الشاعر على مستوى الخسارة. عاطفة مفرطة موجهة نحو أشياء مفقودة وشعور بالعزلة والوحدة والتمزق من اجل مفقودات عزيزة:
((ولو ميت بس ترد
وعيني بيك تنام
رد حزن عمرين يبني… الخ))