كان ذلك في مستهل شباط من العام 1974 ، وقد أنهيتُ اليوم الأخير لامتحان ” علم الاجتماع ” للصف الخامس الأدبي ، خرجتُ من القاعة مخنوقاً ، ونفثتُ كل الهواء المحبوس برئتي ، تنفيساً لذلك الأسبوع الذي قيدني بالحركة والالتزام ، وكعادتنا نحنُ طلاب الأرياف ننتهزها فرصة التسكع والتجوال في اليوم الأخير من الامتحان كمتعة في ارتياد صالات السينمات ، والتجول في الأسواق والتبضع ما يحلو لنا ، حتى يضطر الواحد منا أن يُحلق شعر رأسهِ ، لأن غداً سنكون بعيدين عن تلك الأجواء ، وحين مررتُ بشارع ” بابا كركر ” اشتريت بنطلون ” كابوبي ” من نوع ” جينز ” من محلٍ يقع بجانب حلاقة الأرمني ” كريكور ” ، وكأنهُ مُفصلٌ على قوامي وخصيصاً لي ، وكما يقولون : ” لم يشمهُ الهواء بعد ، أي في النايلون ” كي أرتديه عند نزولي للمدينة لاحقاً ، جئتُ بهِ تحت إبطي فرحاً في ذلك الغروب الممطر والأوحال التي ترصع الشارع ، وأنا أتخبط بالظلام كوننا لم ننعم بالكهرباء بعد ، وبعد العشاء كانت لي معهُ بروفات في الارتداء والنزع ، لكوني أول مرة أمتلك ذلك الموديل ، ومن المصادفات المُبهجة كانت نية الوالدة الذهاب غداً إلى كركوك للتسوق من القورية ، وكذلك الجانب الكبير ،
ذا طلبت مني أن أرافقها ، فرحتُ ولم امانع من هذا الطلب ، لأني سوف أرتدي البنطال ، ثم أحصل من عندها أجر شراء كتاب . تفحصتهُ ووضعتهُ تحت سريري كي تزيل الطيات الناتئة منهُ ، ونمتُ بإسترخاء بعدما تقلبتُ في الفراش لمراتٍ عدة . ثم لا أعلم متى أخذتني الغفوة ؟.. ، صحوتُ بعد أن سمعتُ جلبة أصوات الرعاة وثغاء الأغنام وهي تمضي إلى المراعي في وقت مُبكر ، فركتُ عيني ورأيتُ جانباً من فراشي مكفوفاً ، وحين قلبتهُ لم أرَ البنطال ، ولما لاحظت الوالدة حيرتي ، رَدّت قائلة : لقد لبسهُ والدك لأن بدلة العمل غسلتها البارحة ‘ ولم تجف بعد ، وما لم يجد ما يلبسهُ ، مدَ يده وسحبهُ وارتداهُ ، ومضى إلى عملهِ كي يكمل معاملة إجراءات ” الحج ” قائلاً : هذا اللون ” النيلي ” يلائمني لأنهُ يشبه بدلة العمل ، قلتُ لها : يا أمي : هذا لباس شبابي لا يليق بعمر والدي ؟… المهم رجعتُ لأسلابي القديمة ارتديتها مع دمدمة بانزعاج شبابي فائر ، لكني مضيتُ مُبتهجاً مع أمي للتسوق والفرحة تغمرني لأني سأرى أبي في صورة مغايرة لهندامهِ المعهود ،
هذا التجديد الذي كنتُ أتمناها منذُ زمنٍ بعيد ، والدي سيعودُ شاباً بهذهِ الهيئة . وصلنا المدينة و دخلنا سوق القورية ، وتبضعت أمي ما تحتاجهُ من الأشياء من تقاطع المُربعة دورتويل ” ، وقد أخذنا السوق صعوداً حتى ” أحمد آغا ” وهي تسير خلفي وسلة التسوق ” الزرقاء ” فوق رأسها ، مررنا بشارع الأوقاف ” الذي يقودني إلى مكتبة ” عمو أمين ” والتي كانت مغلقة في تلك اللحظة .اتجهنا بعدها إلى شارع أطلس ، وحين وقع نظري على واجهة السينما ، كان هُناك عرضاً لفلم الأسبوع “.السَمان والخريف..” رواية ” نجيب محفوظ ” التي قرأت تنويهاً لها بالاسم فقط في كتاب الأدب والنصوص ، وهي الآن أمامي تُمثلُ . تأملتهُ أي ” الفلم “مخاطباً نفسي : لولا أمي لقطعتُ حالاً بطاقة التذكرة وحجزتُ مكاني وشاهدتهُ إسوةً بهذا الجمع المتراصف أمام شباك التذاكر ، وأنا أتأمل ذلك في المخيال ؛ ولم احسب نفسي إلا وأنا أتجول وسط الصالة أتمعن بمقاطع من الفلم المعروض ، وأمي خلفي تدور وهي الأخرى مندهشة وحائرة بهذا البيت الكبير الذي ترصعهُ الصور الفاضحة ، قالت لي بنفسٍ كسيرة ” يول يابه مو هذي السينما ؟..، قلتُ : بلا يمة ، ردَت : هسه يابه الييشوفني شيكول !…، عيب يابه ” خرجتُ حالاً عند رغبتها وفعلاً قد لُمتُ نفسي ، لكن أُذني ما برحت تسمع زعيق وصراخ ” محمود مُرسي ” وضحكات وغنج ” نادية لطفي ، وعيني مازالت تتمعن بعيونها القتالة التي ظلت تترقبني وترافقني إلى أن وصلتُ رأس الجسر .
كان الزحامُ على أشدهِ في مدخل السوق وذلك لوجود تشييع لجنازة من الجامع القريب ، مما اضطرت أمي أن تشتري بسرعة التوابل من محل ” رستم ” والذي مازال موجوداً إلى الآن يتناوب على إدارتهِ الأبناء والأحفاد ، وعند رجوعنا للمحاكم مررتُ ثانية للمكتبة وجدتُ بابها مُشرعاً والكتب معروضة كإغراء للقُراء ، وقفتُ متأملاً لحظات ثم اشتريت رواية ” السَمان والخريف ” عِوضاً عن الفلم الذي حُرمتُ من مشاهدتهِ ، ولكي أقرأها في العطلة الربيعية .المهم رجعنا قافلين إلى مهبطنا ” حمام علي بيك ” ومنهُ استقلينا السيارة الصفراء ” الجمسي ” إلى القرية التي تتوارى في فضاء من الغيوم المتراكمة الوافدة . كان رجوع والدي عصراً من محل عملهِ وهو يرتدي متبختراً بقيافتهِ الجديدة، وحين وجد عمي مُنهمكاً بتصليح ” حنفية الماء ، بادرهُ بالتحية ، قائلا لهُ : يا محمد ، هُناك ” ليك ” وتحتاج إلى ” واشر ” وبدأ يُسمعنا مفردات غريبة من الإنكليزية ، وحين سألهُ عمي عن جولتهِ اليوم في الشركة ، استطرد بالكلام : لقد منحني ” الفورمن ” رخصة من ” الإستاف ” كي اذهب إلى ” الوورك شاب ” ثم إلى ” جرن الأوفيز ” كي أكمل معاملة ذهابي إلى الحج ،
وحين أكملتها ” كومبليت ” دك ” الشوت ” مُعلناً إنهاء يوم العمل في الشركة ، وها قد تراني أمامك بـ بنطلون ” عدنان ” الجديد . وحين تفحصهُ العم مستغرباً من بدلتهِ هذهِ ، ردَ قائلاً : شباب فعلاً ، هذا من ترتيب الشغل ، فرحتُ كثيراً للتغيير الذي حصل لوالدي من جراء ذلك الموديل ، وقد ظلَ يرتديهِ لسنوات حتى إحالتهِ إلى التقاعد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عدنان أبو أندلس: : أبي يرتدي الكاوبوي ، وأنا وأُمي في سينما أطلس
تعليقات الفيسبوك