فاروق مصطفى: بريد كركوك المحمول الى (ارتور رامبو)

وانا على مصطبتي الوحيدة متأملآ خرائب قلعة كركوك امني النفس بأن شاعر مدينتي القديم قرر النزول من معتكفه الدائمي , علّي ينالني الحظ فأوفق في ملاقاته واملي ان يكشف لي بعضآ من اوراقه وفصولآ من مناجياته ومحارقه التي اكتوى بها , وهو يتقلب على حصران دفاتره ودوارق مداده . عيناي ترقبان بوابة القلعة وسلالمها المتآكلة , اتحسس جيب سترتي اجد فيه ورقة حبرت فيها خطابآ وجهته الى ( رامبو ) الا انني حرت الى أي عنوان اوجهه ؟ ولكن ايحتاج كائن مثل ( رامبو ) الى عنوان واقامة واي بريد سيحمل الخطاب اليه ؟ وحتى لو تنازل بريد وحمل الخطاب الى اية مدينة سيتوجه ؟ والى أي اقليم يحط فيه . لقد ترك ( رامبو ) عناوين كثيرة الا انه سرعان ما كان يحرقها ويتخطاها الى غيرها , فهو المتشرد الامثل والجوال الدائمي , ولكني اسلي نفسي بقراءة الخطاب متخيلآ بأنه سيدف او يرفرف ثم يحلق ويصل اليه , ايقرؤه ام يلقيه كما صنع مع اشراقاته واتذكر كلمات صديقه ( فرلين ) عندما وصفه بأنه ذلك الزنجي الابيض المتوحش والرائع التمدن , اقرأ رسالتي التي لن تصل اليه لان السفائن كلها اقلعت ايضآ :

” رامبو : ايها الاحمق الصغير
يا عديم القلب
حملت على منكبيك عذاباتنا الثقال .
وطفت البراري والحقول
على قدمين من الريح وسترة مثقوبة الجيوب
اسلت نبيذ الكلمات ,
وجلت فيما خلفها من مسافات واقطار
فكيف تغرق مركبك النشوان
وتمحو نسغ بحاره الخضراء ؟
ايها العديم القلب :
تدير ظهرك ل ( فرلين )
وتسهو فتون الغياب
بخطو يقيت اغاني الطريق
وتصحو على المجهول واشباحه العاتمة
ايها العديم القلب :
ما الذي امطرك جني النقود ؟
وجريك بأظلال رنينها المموسق الجميل
وها انت تعرج من الركض في سهوب السراب
تريق مياه جسمك الحزين ,
اتحلم بالتحمم في احلامك الموسوسة من جديد
تتأبط صراخك الدامي
وهذا التعب الخرافي يشوي العظام
فالسفائن كلها عزيزي
اقلعت والقلب يتلفه الانتظار ”

اتكىء على هدهدة حزني لتعثر بريدي الذاهب الى صاحب ( فصل في الجحيم ) وكي احظى على دفقة من سلوان واتعزى لهذا الفقد الذي ينحل بوحي اتذكر قصيدة صديقي الذي وسمها ب ( تشردي ) وهو يحلم بالمباهج وضجيجها وصخبها متسكعآ في حاناتها الخرافية :

” كنت امضي , اصابعي في جيوبي المثقوبة
وثيابي نموذج رائع للناظرين
كنت امضي تحت السماء
يا ربة الشعر وكنت ابنك الوفي
وهناك وهناك كم حلمت بحب رائع
وثمة خرق كبير كان في سراويلي . ” ( من كتاب رامبو قصة شاعر متشرد

لصدقي اسماعيل , دار الهلال ’ 1969 )

هذه الابيات التي تعبر عن فقره وخواء جيوبه وعن عوزه ولكن حلمه ان يعانق عوالم العربدة والفرح والأثارة , فلم يكن امامه الا السير والتسكع وقطع المسافات الطويلة مشيآ على الاقدام وهو لا يملك اي شيء سوى شبابه واشعاره التي يتقوت بها ويبصرها خبزآ ويتقوتها خمرا , هذه القصيدة التي تتحدث عن جيوبه المثقوبة ربما انتقلت الى الشاعر التركي ( اورهان ولي قانق ) ( 1914 ـ 1950 ) واستوحاها في نص شعري وسماه القصيدة المثقوبة او قصيدة ذات ثقوب :

” الجيب مثقوب , والسترة مثقوبة
الردن مثقوب والمعطف مثقوب
السروال الداخلي مثقوب , والقميص مثقوب
وهل انت ( كفكير ) يا اخي ؟ ” ص148 ( اورهان ولي الاعمال الكاملة , ترجمة

عبد القادر عبد اللي , افاق للنشر , القاهرة )

اورهان ولي عاشق الحياة وصعلكاته الدائمية في الانتقال بين اسستانبول وانقرة , وجد الجمال الحقيقي في البساطة والعفوية والبدائية وظل يقتات على احلامه الطفولية البيضاء وبأنه هو الذي صبغ البحر بلونه الازرق ولم ينقطع عن حب الطرقات وطرق قوارعها طالما ان الطرقات ملكيتها مشاعة بين الجميع , وها انني اتعزى بدفء هذه الكلمات حيث تمضي الاشياء كلها , يكتهل الانسان وتذبل الاشجار ويتداعى العمران ولن تبقى في اخر المطاف الا الكلمات المضاءة كايقونات متوهجة في هذا النفق العاتم . اه ايها البريد الخارج من خانات كركوك هل تحمل خطابي المتأخر الى مرفأ ( مرسيليا ) واذا كان ( رامبو ) قد غادر المكان ربما تعثر على شقيقته ( اليزابيث ) تنتظر شقيقها الذي لم يتعب من التجواب في طرقات العالم الفسيح وهو يمضي تحت نجوم السماء متغزلآ بها وحالمآ بأن يقطف الفاكهة التي لم تحملها اية شجرة .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *