تحسين كرمياني: الذبيحة

عبد كعيد.. تعرفه بلدة جلبلاء، إنسان بائس، خارج نطاق الواقع والخدمة.
الآن.. يقبع في سجن نفسي انفرادي، يجلس أمام عتبة البيت، تتحاشاه العيون، رغم وجود مسحة سلام وبشاشة على محياه، تُعسكر حوله جحافل الذباب، تستقطبها، استسلامه المتواصل للصمت والعزلة، ونمو روائح مغرية من حوله.
لم يتبدل أسلوب حياته، قبل الواقعة أو بعدها، عاش شطراً من حياته في مصح الدولة الكبير، قبل شموله بـ رحمة غير متوقعة، عفو عام؛ صدر لخمسة وثمانين ألف نزلاء، سجناء، موقوفون، مودوعون، ومشتبه بهم. توزعوا في السجون والمعتقلات والزنازين، شاع أن راعي قطيع الأمّة، فلت من حضيرة الخنازير العالمية، فحق عليه تكالب الأمم المتضررة، لذلك خاف على مقامه المحسود، وأصدر عفوه الخاص على مضض.
مخبل؛ كلمة موجزة ترميها الألسن بوجهه، وجهه المتضاحك على طول الوقت، مذ ولد وشبّ وشاب و تخبل، لا يعي المعنى العميق للمفردة، يستقبلها بود، وبشيء من الحنين واللوعة، أو رغبة صامتة تنطقها بوضوح عيناه، جملة ترحيب، محتمل.
مخبّل؛ يسمعها موسيقا تسمق به لنشوة مأمولة، يتصورها؛ فقرة ترحيبية مستحدثة، أو نغمة مواساة شكلية، أوجدتها الظروف المتفاقمة.
عيناه لا تستحيان، تلاحقان بهوس منطوق، كل فتاة، أو امرأة تمر على مقربة منه، بنظرات قد تفسرها الألسن لا ترحم.. أو فيها معنى.
الكل توقع بيقين قاطع شنقه، سيعلق من رقبته النحيفة أمام أعين الناس، عبرة لمن يتجاوز على أمن البلاد، وحقوق الآخرين، في زمن النار والحديد والتيزاب المركّز.
الموت ليس عارضاً طارئاً في كل مكان، بعض الناس مهمتهم صناعة الموت، أحياناً يأتي الموت واجباً وطنياً، روتينياً، مصطنعاً، الناس من فرط الجهل، أو التقاعس المتخثر فيهم، قسراً تقول: قدر مكتوب على الجبين، لازم تراه العين!
أسباب كثيرة تسقط الناس في بالوعة الموت، القهر الاجتماعي والحرمان والجوع، والطلبات البيتية، والضجر السياسي السائد، كلّها شكليات روتينية لا تستحق من أجلها هدم بنيان الله في الأرض، ناس تجد نفسها في دائرة مغلقة، قادت نفسها بنفسها إلى حضن هازم اللذات، تبدأ بالندم وعض أنامل اليدين، قبل رفسة خلع الروح: تشهدوا.. هذه قسمتكم في الدنيا! كلمات تلقين، تمررها ألسن جاهزة لآذان مائتة، تخفيفاً لعناء الصدمة. تنتزع الأمانة الإلهية من كل جسد يخرج عن قانون الزمن، وألف باء السلطة. عمليات الإعدام العلني شاعت، رمياً بالرصاص، أو تعليقاً على أعواد المشانق، في كل حارة وشارع، وحالات جديدة تجيء بها عقول تسهر لصناعة الأمن، والمحافظة الحديدية على معطف النظام الرخامي، آخر المبتكرات العقابية، مركبات شبحية تجرجر أجساد صارخة في الشوارع، تُمزقها شر ممزق، فالشنق وارد ومتوقع ولم يختلف عليه غبيّان، أو عاقلان يوم الواقعة.
عبد كعيد؛ لم يكلف السلطة الساهرة وقتاً مؤرقاً، أو كثير أسئلة روتينية يوم الاستجواب، قال كل ما عنده في موجز مُختصر مُفيد مُدين، من غير اللجوء إلى شهود عيان، أو الاستعانة بوسائل وحشية لدلق الأسرار، الدليل القاطع لجريمته الكبرى، وفره بنفسه، حمل السكين، كانت تقطر بدمٍ بارد، البعض رآه حار، لا يتوقف، ظلّ يرسم على البسيطة، خارطة العذاب الإنساني المهدور المتنامي منذ فجر السلالات البشرية الوحشية، مذ نحر أخ سافل قابيل، أخ كريم هابيل.
ذلك التنقيط الدمائي المتقطر من سكين عبد كعيد، يقود بروية وبحكمة كل مغفل وصاحي إلى عالم لا يتوقف عن النباح والصياح، شهود عيان أقسموا؛ أنهم رأوا الدماء الزكية، خطوط نملية دائبة، تبدأ من بيت عبد كعيد، تجتاز الأزقة والشوارع، تخترق مجاري المياه القذرة، والبرك المائية المتراكمة، والمستنقعات المتكاثرة والمزابل، من غير أن تمحى.
البعض أقسم؛ أن الدم المتقطر من سكين عبد كعيد، مرّ عبر كل رقعة أرض أقيمت عليها احتفالات وطنية للموت، أماكن المشانق، وقطع الرؤوس، وسحل الأجساد الحيّة، خط أحمر صارخ ظلّ عسير التفسير على أناس صارت للذهول مساكن، ومنابت؛ لعواصف الفساد، وذبائح خُلقت قرابين سياسية ستغذي كل العصور اللاحقة للأمم الساحقة.
عبد كعيد؛ رسم على شريحة من أرض بلدته جلبلاء، سيرة موجزة لحياته السابقة واللاحقة، رأت العيون، كيف كان يمشي بكل فخر وثبات خلاف ما عهدوه، كمن خرج من معتقل أزلي نظيف الخطايا، غني الإحسان، حاملاً سكيناً يبكي أو يضحك دم.
ذهب إلى مركز الشرطة.. قال: أنا لست على خطأ..!
ما زال يصر ويهذي أنه كان على حق، ما فعله ليس بملك إرادته، بل قضية شرعية كتبه القدر في لوحه التعيس: النسوة عطن عالياً لجهلهن بالشرع، كونهن ناقصات دين وعقل ـ توقف عن الكلام، بلع ريقه ثم أضاف من غير تردد ـ حكمة وصبر!
ـ نفّذت ما أُمرت به!
تلك كانت جملته الشهيرة في رواق المحكمة، راضٍٍ عن نفسه، وفّى بنذرٍ ظلّ يؤرقه، متخلصاً من ملاحقة الكوابيس المتربصة به مذ أكتشف أنّه نصف إنسان، طيلة حياته السابقة وربما اللاحقة.
لم تجد المحكمة ملاحقة قضائية ضدّه من ذوي الذبيحة، تنازلوا عن حقهم المشروع، اعتبروها قضاء وقدر، من باب قيّم التسامح، على كل فقير أن يؤمن بذلك، ولا يُعقد الأمور الشرعية المقرورة، الرجل مخبل؛ غير مسؤول عن تصرفاته، خلقه الله ناقص عقل، محروماً من فواصل خدمة الحياة، والظروف الراهنة وفرت له منبر الواقعة، إنسان غير مكتمل رغم قبوله التنازل الكبير من عالمه اليوتوبي، والرضوخ لروتينيات الحياة الواقعية، قبل عقدة النكاح بامرأة من طينته، فيما بعد؛ تمكن لمرة واحدة فقط من تحبيلها بفتاة حملت كامل صفاته، الشرود والتوهان والضحك مع النفس، أو عليها.
علاقة حسن الجوار بطاقة ذكية، كارت فيتو، مُنح رحمة متعذرة في زمن الواقعة، زمن مجحف تفسر وقائعها وفق وسوسة السلطة ونواميسها الهدّامة.
الصدقات اليسيرة، وما يزيد عن الحاجة الجسدية، من طعام تعيس فائض، وملابس بالات لنكة فقدت موضتها، ظلّت تتواصل ما بين العائلتين المتجاورتين.
لم تجد المحكمة سوى تقارير أمنيّة متوازنة، وأخرى طبيّة شائكة، أكدت بوجود خلل عقلي مزمن أبدي عنده، رضخت للأمر الواقع، واكتفت بسجنه في مصح الدولة الكبير.
ـ جريمة شخصية لا تمس السيادة العامة للدولة! أوجزت المحكمة القرار.
ربما هي لعبة قدرية، يجد الإنسان في كثير من الأحايين، أنه إزاء محنة عارضة، يفقد العقل توازنه، شيطان المزاج يستلم سفينة المشاعر، تأتي الدوافع من غير اللجوء إلى الحكمة، أو قرار البصيرة الحاسم، الناس اعتبرت القضية مزحة شائعة، كون الأشياء المخيفة حين تعلن جهراً، تولد ردود أفعال مضادة لدى بعض الناس، كل أهالي جلبلاء، شهدوا عمليات فصل الرؤوس، أو أمطار الأجساد بوابل الرصاص في مناسبات تكاد تكون أيّام وطنية، شباب يساقون جرجرة بوابل الكفخات، وسيل الدفرات، إلى المشانق وأحواض التيزاب المركّز، لأنهم ورود ليست اصطناعية، تبث جهراً روائح جاذبة خارج نطاق الأوامر، تتزلزل فيهم أحلام كريمة، رافضين الرضوخ لتعليمات منافقة تطبّلها أبواق ناعقة، وتبطلها أمزجتهم التحررية.
زُهرة؛ أم الضحية، تجلس على مقربة من عبد كعيد، باب بيتها على بعد خمسة أمتار عن باب بيت عبد كعيد، تعيش عالمها الخاص: مسكينة! كلمة تعيها، لا تحرك الحلم الخالد فيها، تطلقها ألسن عابرة، بالها مشغول أبداً مثل هاتف عمومي، جالسة تستحضر لحظة الواقعة، نادمة على ما فعلت، تعض أصابعها بشكل آلي متواصل، تعرف أنها تسببت بخسارة بنتها الوحيدة حسيبة.
كانت حسيبة تركض داخل باحة الحوش، وكانت هي تحلب بقراتها الثلاث العجاف، الوقت حصار ظالم، البلاد تجوع وتموع، كل شيء بال صار له ثمن في يوم أسود، حسيبة الراكضة حافية القدمين داخل حوش البيت، سعيدة بنفسها، اليوم يوم عيد الأضحى، فرحانة بثوبها الجديد، الثوب الآتي من وراء البحار والمحيطات عبر بالات اللنكة، اصطدمت بدلو الحليب، دلقت المصروف الكامل ليوم عائلتها، ركضت زهرة وراءها، صعدت البنت المرتعبة إلى سطح البيت، مثل قط مذعور، تسلقت الدرجات الطينية التسعة، وجدت نفسها من فرط الخوف، تطير من غير جناحين، في هواء ضاج بـ تكبيرات الجوامع.
كان عبد كعيد يمدد أبنته مريم على تراب الحوش، بيده سكين المطبخ، كانت البنت تضحك، هي تدري، رغم نقصان خلقها وخفّة عقلها، وربما هي الغريزة المتراكمة في قلبها، أن أباها يمازحها، هكذا فعل في العام الفائت، أمها نعيمة أيضاً واقفة بباب المطبخ قبل أن تبدأ بلعبة الضحك للمشهد، كانت تفكر بحسرة مزمنة: ماذا أطبخ لغداء العيد؟! تدرك أنّ زوجها ضعيف الإرادة، جبان الشخصية، خاف في كل المناسبات، أن يذبح دجاجات الجيران.
هاجس جدّي سكن عبد كعيد، ظلّ يرتسم في عينيه، يندمج معه، فجر يوم صاخب، بكّر النهوض على أصوات المآذن الصادحة، أراد أن يحقق رغبة بدأت تثمر وتلح، رغبة شائعة، أن يفعل ما تفعله الناس صباح كل عيد أضحى.
ـ بنتي مريم ضحيت بكِ!
في اللحظة التي لامست السكين رقبتها، سقط عبد كعيد على قفاه، لم يتمالك نفسه، قام وطرح الهبة الساقطة عليه من الفضاء، فصل الرأس وسط صياح نعيمة ومريم، مع تناثر صرخة ثالثة كانت أعلى وأشد تأثيراً، انسكبت من فم زهرة الواقفة فوق السطح.
زهرة؛ ما زالت تعض أصابعها، لا تعطي الكلمة الصادرة؛ مسكينة! من أفواه العابرين اهتماماً، تتمنى؛ عودة المشهد، كي لا تلحق هذه المرة أبنتها، حتى لو حطمت كل شيء ثمين.
عبد كعيد؛ على مقربة من أم الذبيحة، ما زال يصر ويهذي بوجه كل كائن يمر، أنه أفتدي بذبيحة متواضعة، بدلاً عن أبنته مريم، هبطت عليه من الفضاء فجر يوم العيد.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *