نهر الديوانية : ماذا فعلت بحياتي؟ رسالة في الحزن العراقي ومحنة الغائب/ المنتظر في شعر (علي الشباني) (3)
حسين سرمك حسن (ملف/16)

((ذبحوني تزرع الماي
مشه دمي جسر ع الماي
كتبوني على ثياب النثايه دموع
رسموني بجرايدهم حزن ممنوع
ترسوني حياطين وسجج وعيون
نهض جفي صكر.. والبيده ما تنكاش
وكف كلبي مهر.. غنه الصهيل شراع
كلبي اركض اريدك توصل النه بساع
ولك سباح صبري امتد…
بعد ما اظن تكفي الكاع))
-بيان للزمن المذبوح-
((نهر أسمر
يفتح بالمسافات الينابيع البعيده
والقصيده
بلبل بروحي يغني الماي… والحريه
والكاع الجديده
اكتبني الدهر يمحي الصدگ…
ويعاند النيات
نبعت بعين شمسك ماي بارد…
يثكل بدمي الفرات
يركض بروحي الفرات الزين دهله
يصعد بروحي الحجي الواكف ضمير
وانت ذاك الماي كل دنياك سهله
وآني بيك ينام كلبي ويكعد بحومة عذابه
يمته اشوفك فارس بتالي الدهر يجدح مهابه))

-الحرف جتال-
((… دكيت باب السنه… لن الدهر حاير
لن الفرح ساجيه ومكسور طاري الماي
شالت العتبه عشب روحي ومشت للماي
والماي حيل الشجر
والنبع حيل الماي
والفرح ما بيه طعم.. لو ما يصل بهداي
بهداي ممشه النهر كبل المطر بهداي))
-كتابه على باب السنه الجديدة 74-
في المقاطع الشعرية السابقة، وفي كثير غيرها من شعر (الشباني) نجد خلاصة لأغلب ما قلناه عن الجوانب الأسطورية والنفسية في الثقافة الرافدينية، نلمس فيها روح الفداء التموزي، والإحساس بالتجدد والولادة من خلال الفعل التطهيري للماء ومعانيه الاخصابية العامة، فيها الكثير مما نحمله في لا شعورنا الجمعي عن الماء مثلما فيها ملامح النظرة (المنطقية) للماء كمصدر للخير والعطاء والارتواء لكن فيها أيضاً ما يشي أو يعلن عن الوجه الآخر المستتر نسبياً لعملة الموقف النفسي من هذا الرمز ففي الماء تهديد كامن، قد يصبح الماء طوفاناً لا يبقي ولا يذر كما حفظت ذلك ذاكرة العراقيين الجمعية التي حفظت أيضاً حالتين تهديدتين قد تكونان مدمرتين لكنهما، ويا للعجب متناقضتين، الأولى حين يفرط النهران في كرمهما ولا يلجما خيول عطائهما فيخنقا بخيرهما الزرع والضرع، وقد شهدت مدينة (علي) ناهيك عن ارض وطنه الأوسع، فيضانات كثيرة. اما الثانية فتحصل حين (يزعل) النهران فتشتعل نيران العطش في أوصال الأرض ويصبح الزرع هشيماً، وقد اكتوت روح الديوانية بجمرة الجفاف كثيراً لكن الشاعر لا يقدم (عرضاً) تاريخياً لتقلبات روح الماء على ارض العراق أو في مدينته، وهذا ليس من مشروعه الشعري اولاً وليس من مهمات الشعر ثانياً. في التاريخ يكتسب الفردي قيمته من خلال العام ويأخذ الذاتي مداه تحت غطاء الموضوعي، اما في الشعر –وبخلاف ما قد يتصوره البعض- فان الحالة تكون معكوسة حيث يكتسب العام قيمته من خلال الفردي ويأخذ الموضوعي مداه تحت غطاء ما هو ذاتي. الشعر فعل فردي وتاريخ ذات مكلومة تتسع جراحاتها بتراكم القدرة وبمرور الزمن حتى تحفر في صخرة الوجدان العام أخاديد أسطورتها، وقد ابتلع نهر الديوانية الصغير شقيق الشاعر الأصغر في وقت مبكر هذه العملية الغادرة التي اضطلع بها رمز الوفاء/ الماء بخلاف دوره الامومي المانح سببت طعنة نجلاء شبه مميتة في روح (علي) لم تشف حتى هذا اليوم، لقد قدم الشاعر لقصيدته (غركان) المكتوبة في عام (1969) بقوله:
((بدمي ينبض الفرات، بأصابعي يورق الطين.. والصدف، وبقلبي يغتسل الموتى، بالشعر والبكاء يغتسلون.. وبدوار الغرق ووحشة الموت الداكنة وعذاب الروح أتنفس أيامي القاحلة والقادمة دوماً من مدن مولعة بالحزن والشوق الذي لا ينتهي…
وغرق بالناس… ومدينة منتهكة.
انا معكم شوق المدن النائمة بالخوف والفاجعة وشيء اسمه الشعر أحمل قلبي به لكم موجعاً يغني، مطعوناً حد النصل يغني… للوحشة والصمت يغني: غركان
أغنية عن الحنين الذي يضيء القلب والذاكرة.
إلى أخي كان في الطفولة غريقاً… والى غريق هو أنا))
-غركان-

صورة الراحل الكبير علي الشيباني من الاستاذ محمود السنمار

بمضامين هذه المقدمة العميقة وبشكلها الشعري الأخاذ يشخص الفارق حاداً بين شكل الشاعر من شكل غير الشاعر، لقد غرق شقيق الشاعر وهو واقعة (موضوعية) إذا جاز الوصف، ولا يكفي الانفعال (الذاتي) بها لخلق الشعر، ينبغي ان يتلبس الذاتي بالموضوعي ويهضمه ليعطيه مداه وعمق تأثيره، لقد غرق الأخ الحبيب فصنع فاجعة ولكن حادثة غرق لاحقة اكثر خطورة حصلت بعده هي واقعة غرق (أنا) الشاعر… غرق الشاعر حياً فصنع شعراً وأسطورة، ولا شعورنا عصي على الفناء ولا يقر بموته الشخصي في حين انه يقر بفناء وموت الآخر.
كم حالة موت شاهد جلجامش؟ لم يهتز وجوده الا عندما مات (انكيدو)( ). لقد خلع جزء من أناه الشخصي فأحس –ولاول مرة- بانه هش وقابل للفناء فراح يدور حول جسد خله البارد كاللبوة الجريحة التي سرقوا أطفالها، كما يقول شاعر الملحمة المجهول. كم ميتاً شاهد (علي) في حياته؟ لم يهتز وجوده الا عندما انخلع جزء من أناه الشخصي وغرق مختنقاً بالاسى بعد ان اختطفه النهر، نهر الديوانية الذي يخاطبه الشاعر بحرقة واستذكار مميت للواقعة قائلاً:
((… تتذكر مدينتنا بجسر واحد خشب
مصبوغ بالحنه… وحلم طفلين
غاب الماي بالثاني… وعبر جسر الرمل بالليل
والتف بالحلم… صينية فضة
وحنه مغسوله بدمع شمعه
وسفر بالماي
تاخذ داير عيونه
حرز لحروف مسكونه
ودفع روحي الجسر غفله لهذاك الصوب
شفت الخوف أوسع من مسافة ماي
وابعد من مسار الشمع للغايب
وازغر من لعب طفلين
اولهم عبر يرجف، طبع جدمه على ضلوعي
صرت نخله طويلة اتحزم الجرفين
يعبر للثمر عمره ويظل عمري يباس يحول
ومن طوله النخل يتعلم الطول))
-نهر من الفرات-
وأمام فاجعة من هذا النوع، ما الذي يقدمه الشعر للشاعر –ولأي انسان مثكول بحبيبه-؟ وحين يصبح فناؤنا حقيقة، من خلال فناء الحبيب المتدخل في ذواتنا، ما الذي تقوم به (مجاز) تتكفل به اللغة حيث يمكن التقرب، وبصورة فريدة من المثكل واللعب معه. في عوالم الشعر، وعلى ورقة القصيدة يستطيع الفرد (ممارسة) الموت من دون ان يموت فعلاً. وهذه الميتات المجازية التي تتلون بطرق لا تنتهي، من خلال مخزون اللغة الاستعاري الذي لا ينفذ تعيد طمأنة اللاشعور المهدد من جديد.
ان ثراء ولا نهائية الصور الشعرية بامكانه ان يعيد تشكيل طبيعة الميتة الأصلية أو يخلق ميتات موازية ليس لها حدود. وهذا امر ذو طبيعة علاجية يسلب من الموت سلاح المفاجأة، ويخفف ولو وقتياً من قلق التحسب الذي هو أشد أنواع القلق الوجودي مضاءً وألماً، كما انه يكشف لنا، نحن مشاريع الموت العزل، شيئاً من غموض الحياة الأخرى من خلال الصور التي يرسمها الشاعر لمصير الفقيد العزيز، وكلها صور فردوسية فيها الرخاء والهناء والنعيم وبطبيعة الحال لا يمكننا نسيان موضوعة (التنفيس) والتفريج عن النفس المكروبة قبل ان يقتلها الغمّ..
((اريد اربط بروحي الجرف وتسودن
وأصيح بصوت يعبر جسر فوك الماي
وينزل النجمه الزركه، تسبح جمره فوگ الماء
ويفزز الشاطي الغافي بطيوره…
ولعب صبيان باصدافه
وخراب الرمل من ياخذ الفرحة من السبح للموت
ليل الماي يضوي بصيحه مدميّه
واسهر بالسكر عمرين
وينبع بدمي الـﮔصب والعاﮔول…))
-نهر من الفرات-
ان الدموع التي لا تجد لها منفذاً تجعل الأحشاء تبكي، كما يقول أحد الحكماء والشاعر حين حزنه شعراً فانه يمنحنا نحن المثكولين فرصة للتنفيس الجمالي إذا جاز التعبير انه يكتب مرثية تصلح لكل حيّ فقد خلا أو صاحباً مثلما صاغ الشاعر المجهول مرثية الموت الأولى في تاريخ البشرية فصارت ملحمة جلجامش قصيدة رثائنا كلنا ولكل العصور، ومن اللافت للانتباه، في كل مكان وفي أي زمان ان اغلب –ان لم يكن كل- ما كتبه الشعراء من مراثي عبر العصور كان يحمل نداءاً امومي الطابع ويعكس حرقة قلب أمّ ثكلت بأبنها تحديداً. لا رثاء الا في اطار العلاقة بين الأم والابن ولا لعبة انقاذ –كما سنأتي على ذلك قريباً- وما يتأسس عليها من عملية انقاذ اسطورية وغياب وحضور الا من نتائج تحطم هذا العلاقة وخسرانها الفعلي أو المتخيل. ينطبق هذا الاستنتاج على مرثيات سومر ونواح انانا/ عشتار على حبيبها/ زوجها/ ابنها (تموز/ دموزي) كما تسميه مثلما ينطبق على مرثيات (الخنساء) لأخيها (صخر)، و(فدعه) لأخيها (حسين) و(علي الشباني) ليس استثناءاً من هذه القاعدة النفسية والابداعية، يرثي أخاه في قصيدة (غركان) التي افتتحها بشطر من بيت شعر شعبي قديم يقول:
((وابره الشرايع مثل أم ولد غركان))
((يمه حدّر يلحلاتك كذلة العمر الزغير
يغسل الكذله الرمل الأخضر…
واعاين ذاك وينك
تضوي دنيه الماي… يا لنجم الجبير
يمه عشكك الماي أخذ شبكه الحدر…
وانتجه الراس الزغير
دايخ الراس الزغير
داخن الجرفين… والشط المشه يغني بمماتك
آني سجه خوف مشتعله لمماتك
يمه بالخوف اشحلاتك))

المبدع الكبير علي الشيباني قي ريعان شبابه بعد خروجه من سجن الحلة عام 1968

قد يقول قائل ان الشاعر يتحدث هنا بلسان أمّ مفجوعة ونيابة عنها، ثم ان الفقيد الذي تبكيه هذه الأم هو شقيق الشاعر، وهذا اعتراض لا غبار عليه، وقد أسهبنا في شرح سطوة رموز الأم الأنثى المقدسة على شعر الشاعر في ما مر بنا من صفحات وتحليلات، الا ان الفارق هو في وضع (التماهي) الذي يحصل بين الشاعر والأم، هذه هي الآلية النفسية التي تجعل الشاعر قادراً على ان يتلبس مشاعر الأم المثكولة ولا ينطق بلسانها فحسب بل بروحها وبأوجاع قلبها، وليس غريباً على الشاعر موقف (التماهي) هذا لانه محكوم برؤيا صاغتها وفرضتها سمات نفسية عميقة، ويمكننا القول ان هذه العملية هي التي تجعل صورة الأم –أو رموزها- تقفز في كل موضع، حتى المواضع التي من المفترض ان يجري فيها الخطاب الشعري بينه وبين (غائبه الآخر:
((وغافي…
شفتك بوجه أمي غافي
وراد شرطي يفززك،..
يلطم الوجه النبي
حزنت أمي بباب روحك
ع التراب الشيله سالت
والشمس بالخجل مالت
والخبز رد للسنابل… وانكسر طاري الطيور))
-هموم عراقية-
وحين يعلن خيبته من غائبه فانه لا يجد تعبيراً قريباً يصف فيه ما تخلقه سهام الاحباط في روحه غير معاناة زوجته:
((ليش بس رد بالنذور
و(أم صمد) نذرت سهر لليل من ذاك الوكت
فاض همها… واعتنت كل المنارات
وما لكت يخلص عذابي… وتسكت الحسرات
سكتت… والحمامه بروحها البيضه غفت
وانت لا تغفه بعد بي..،
ولا تكسر بعد جنح السفر
-هموم عراقية-
((وانكسر كلبي يلن حبك حجر
ومرايه كلبي تشوف بيه كل العذابات
والافراح… والماتو منارات
وانهار الدمع من تعثر النيات
وانت… والحزن… والناس
والحيره العراقية التدير الراس))
لكن الشاعر يستثمر دافع التماهي هذا وفق عملية معقدة وشائكة، بل وماكرة، فهي ليست عملية تماه مباشرة تتم بصورة مستقيمة، إنما هي نتاج مداورة لاشعورية مركبة لا نستطيع فك الغازها الا إذا قمنا (بمداورة) تحليلية مقابلة تعيد الآثار المطبوعة على جسد القصيدة إلى اصولها الحقيقية. مداورة عميقة كاشفة لا يربكها الغطاء الجمالي الآسر، ولنعد اولاً إلى المقدمة التي وضعها (علي) لقصيدة (غركان) التي رثى فيها شقيقه، سنجد ان هناك (توسيعاً) هائلاً لواقعة الغرق، توسيع في النظرة إلى حجم المأساة وتأثيراتها يمنحها أبعاداً تفوق حدودها الواقعية… مثلاً… ((غرق بالناس ومدينة منتهكة.. أنا معكم شوق المدن النائمة بالخوف.. بدمي ينبض الفرات… الخ)) خطوات بسيطة تفصل موقف في هذه المقدمة، عن ان يحول الواقعة إلى اسطورة، لكنه سيكمل هذا التحويل، وبنجاح، في القصيدة نفسها، وفي قصائد أخرى، سنتعرض لها بعد قليل، لكن سيبقى في اذهاننا العبارة الأخيرة في المقدمة وفيها المقابلة بين الأخ الغريق والشاعر الغريق (ذاته) وهو ليس بغريق فعلياً لكن انطباعات اولية عن محنة (غرقه) طرحها في التقديم ويتمثل جانب منها في انهمامه بمعاناة الناس من حوله وانتهاك مقدرات مدينته وسيتضح معنى الغرق الكامل في موضوعة أساسية وفي غاية الخطورة وهي موضوعة (الغائب) بأبعادها الاسطورية والتاريخية وجذورها النفسية والتي ينطلق فيها جزئياً من فاجعة غرق أخيه الذي يعلن في البداية عن حزنه الدامي الذي اورثه قلب امه:
((انت مشحوف الورق سيس غفل
دارت الدنيه وطفل دمك يدير
عينك انشدهت نست نومك كصير
انت يلنومك كصير
اشنيمك بالماء دنيه
يمه اودعك شهكه أم النوم طارد عينها
يمه اصيح بريحه الشيله ترد
رد ولك مغسول يبني
رد حزن عمرين يبني
الدهله عيب تدفي ضلعك…،
والشته الداير برد
رد عله أمك يا حلو الدنيه برد
ولو ميت بس ترد
وين يبني… هذا وكت البيه ترد للبيت
راوي من اللعب…،
تعبان ومشابك تذبني))
-غركان-

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *