ثامر الحاج أمين: سيرة وجع عراقي- محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني (6) (ملف/15)

إشارة:
ببالغ الاعتزاز والتقدير، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر فصول كتاب الناقد والموثِّق البارع “ثامر الحاج أمين”: “سيرة وجع عراقي: محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني” الذي يتناول جوانب من المسيرة الإبداعية الباهرة والثرة للراحل الكبير “علي الشيباني” وكفاحه الحياتي المرير الذي رسم نهايته المؤلمة. يأتي نشر فصول هذا الكتاب ضمن ملف الموقع عن الراحل علي الشيباني الذي تدعو الأحبة الكتاب والقراء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للناقد ثامر الحاج أمين.
أسرة موقع الناقد العراقي

من أغاني الدرويش
للشاعر عزيز السماوي
ذاكرة محشوة بالرعب والحنين..

الهموم الصغيرة.. والمباشرة، هي البدايات البسيطة لأي شاعر. بالقدر الذي تتسع به هذه الهموم، وتتجذر، تتسع أكثر مهمة الشاعر الفنية والحياتية ايضا، حتى يبدو أخير امام مسؤولية خطيرة، واستشهاد ــ قدري ــ قاس لاينسق وفي كثير من المجرى العام للامور، ولكنه يلتحم تماما بالنبض السري للحياة ذاتها. هو اذن مكتشف هذا ــ الايقاع البعيد ــ.. ومفتون به.
ثمة صراع أبدي بين الشاعر، صاحب الرؤى والاحلام والطموحات الغير متجددة أبدا، وبين شتى ــ المؤسسات ــ ذات الأبعاد الانية والمرحلة المنتهية الى حد.
ذلك يتم احيانا برضوخ أو مسايرة الشاعر للحماسات والعواطف ــ الموسميةــ على حساب فنه وتنميته، واحيانا اخرى يرتبك الميزان بين الشاعر وكفة الاحتواء الاخرى للحد الذي ــ يخرج ــ به الشاعر وحيدا، مهموما، وذو مهمة فريدة.. وقاتلة، ذلك ان يقف مع الفن الخالص اخيرا.. مع كل الناس، وفي كل الأمكنة… وحدائق العالم.
فالشاعر، ومن منطلق انساني واسع، ولوحي وتجديدي وثيق الصلة بحركة الواقع، هو المحرض الخطير ضد العسف، واغتيال الانسان بشتى الأسلحة والوسائل، ومع الثورة الشاملة، والباحثة دوما عن محطات جديدة لتعميق حرية الانسان واتساع وعيه الحياتي والانساني كذلك.
بالاضافة لذلك فان الفعالية الثورية الأهم لدى الشاعر، هي الشعر وبكل مايمثل الشعر للحياة.. والانسان من اقتحام للمجهولات الكونية، واسرار الخوف والولادة والألم والموت، وتجديد روح اللغة واخصابها، واضاءة التجارب الانسانية المختلفة وابعاد الحياة بالدهشة والحلم.. واللذة، واخيرا هذا التوجه المسكون باستشراف المستقبل، والآتي عبر معايشة حقيقية وساخنة للأرض والدنيا.
ان الاغتراب او سوء الفهم ــ الأزلي بين الواقع الخشن للمؤسسات وحلم الشاعر اللامنتهى وآفاقه لايعني السقوط في هوة الفراغ الفكري والتجريد المحضى والاتغلاق الذاتي والفني تحت مبررات التخلي والعزلة وحماية الفن السلبية، الحياة هي المهنة الشاقة والحتمية للشاعر.. الحياة بثقل حضورها اللاهب في كل واحدة من مسامات جسده وروحه الكبيرة واندهاشه الدائم بافعال الانسان المتوالدة في قلبها الغامض.
أجدني هنا بحاجة لأن اذكر اولئك الذين يرفعون عقيرتهم في كل موسم تنتعش به القناعات مؤقتا ليطالبو الشاعر بأن يأخذ مهمة ــ الموظف ــ والمنفذ البارع للقرارات، بشعر يفترض فيه توفر الشروط الواردة في منهاج ــ مرحلي ــ مطروح بأن الشعر الحقيقي يظل متواثبا كمهر جريح لاتدجنه المراسيم البراقة، فهو حلم الانسانية وطموحها المتنامي، ذلك انه من ابعد واعظم مشاعر الانسان في كل الازمنة وبصدق لاتمسه النفعية ومهادنات الآخرين.
هذه المهمة المقدسة لاتمنحها الحياة لمن شاء، ثمة اختيار خطير للحياة خلف ولادة شاعر صادق، وانك لتستطيع وفي أي مرحلة تاريخية ان تشطب على قائمة طويلة وغير مشرقة من أنصاف الشعراء ومن الذين لم تلتق الحياة مرة، ولم تمنحهم ايما بركة، ولكنهم وفي لحظة غباء مفرطة قالوا لأنفسهم لنكن شعراء، وكأن الدنيا ردئية لهذا الحد.
التبرير يقول ان لابد للردىء كي يتجلى الجيد ويدفع ثمن جودته ونبوته بالمعاناة والاستشهاد، هذا قانون جدلي للحياة، لابأس اذن فلندعو المؤسسات عموما الى شراء قائمة انصاف الشعراء واقل والهيئة دوما لتنفيذ المقررات والوصايا ثمنا للشهرة الكاذبة والسطحية والنفع المؤقت، لأن للمسؤولية الفنية وشرف الموقف ثمن كبير!.

1ــ البدايات:
في ذاكرتي ان في واحد من المنافي السابقة كنت وعزيز السماوي نمارس تواً لعبتنا الجديدة: الشعر والانعطاف الروحي والعفوي نحو الشعر، في تلك السنة المشهورة (….) له اكثر من دلالة ستتجسد في العطاءات الشعرية التالية للشعراء الشباب (1)، لم يكن في البدء غير الايقاعات الأولى وأبيات قليلة من الشعر الشعبي القديم المليئة بالشهامة والصدق والتلقائية، وامامها جميعا تقف متألقة انجازات الشاعر مظفر النواب الجديدة .
بدأ عزيز السماوي من الايقاعات والاشكال التراثية، مفضلا المرور من الطريق الطويلة.. الطبيعة النمو، فكتب شعرا بسيطا شهما مولعا بالعواطف والتهويل والحرقة معتمدا الأشكال والنماذج المتوفرة ــ الكلاسيكية ــ الى حد ما، ان التوافق الوارد في هذا الاختيار العفوي مع الذات يشير الى اعمق التأثير الأول على الشاعر، ومن ثم تؤكد قصائد البداية العاشقة بكبرياء وألم وتهويل رومانسي حذر، ثم كل هذا التجريد اللفظي على التعويض الروحي لانكسارات واحباطات المرحلة الشرسة ومن داخل تجربته الحياتية والشعرية تعلم عزيز الكثير وتساوق نموه الشعري مع تدفق تجربته المنفردة وهمومه الغير منتهية وانهماكاته الأخرى.
لقد بدأ ايضا وكأنه اختار ان يكون عاشقا ولأيما ــ شيء ــ يجد خلاصه به.. لكن لاخلاص، وعند هذه العتبة المشتعلة تفجرت شتى الينابيع البعيدة في الأعماق ــ أحزان الطفولة ــ، التضاد الاجتماعي الحاد، الأحلام والرغبات الموؤدة، الانكسار السياسي والاحساس المتعب بالخيبة والخوف الدائم، واعتقد ان من الروافد السلوكية الهامة والتي منحت شعر عزيز هذا الهاجس النفسي ــ الذاتي الساخن والذكاء في التوصل الشري والاشارة والاحتماء باللغة هو ان عزيز السماوي وقبل ان يكتب الشعر ايضا كان في حالة ترقب شخصية ممتليء وتأمل حاد في انفاس خاصة، ولكي نفهم الجنس البشري جيدا علينا الامعان في الحالات الشاذة ــ سيمون دي بوفوار.
واتسعت المهمة مع تقدم الوعي الجديد والممارسات الاخرى والتي لابد منها لشاعر مبدع حتى وكأنها قدره وعذابه الذي يشبه الهبوط السحري بحثا عن النبع البعيد للشعر. وكعراف ــ درويش ــ وانسان مهموم بهذا العصر فقد انسحب من دناءة العالم وتلويثه وتعلق بقانونه الخاص وشرطه الانساني الأهم ــ العشق كبديل روحي ونهر نقي الموجه، يغتسل الشاعر به ويطفيء عنف الخيبة والخسارة حتى ليبدو ان ــ العشق ــ وبكل عذاباته واحتداماته القاسية هو الموضوع الرئيس في خارطة عزيز السماوي الشعرية وبالحاح ذاتي حزين والقصيدة جسد هذا الموقف وروحه تضيء وترفض وتطول قائمة اداناتها للذات والعالم دون ان تبغي التفسير ومهام الوعاض، وكخط استواء ساخن يأسر ــ اغاني الدرويش ــ وذلك الهاجس العميق للحس المفرط بالتناقض والحيرة الموجعة، ويظل الشعر مغامرة الاسرار والكآبة خلاص مفقود ابدا.
وان كان ثمة مهمة اجتماعية للشاعر، فهي اساسا آتية من بعده الذاتي ومتحققة فعلا في القصيدة وامتداد مسافة المسؤولية الفنية والانسانية للشاعر، تؤدي به حتما الى احتدامات شتى ومع مختلف المدارس والانماط المستهلكة والتي تمثل النقيض المتخلف لابعاد الشاعر البعيدة وصدقه الدامي ، وعزيز السماوي كشاعر في بداية هذه المرحلة الخطير!.
2. القصائد ــ 964/967ـ:
منذ ان كتب عزيز السماوي شعرا لم تستأثر باهتمامه الهموم الشكلية للقصيدة، بل تابع بتلقائية تطوره الفني وباخلاص حاول السمو بنماذجه الشعرية نحو شكل أفضل وعطاء جديد، حتى ان قصائده الأولى تعد متخلفة أزاء الانجاز الشعري لمظفر النواب ولكنها في غمرة الحماسة الشعرية لسنة ــــ 1964 ــ تشير الى موهبة ملفتة وتميز قد يأخذ بناصية الفن أخيرا، هذا من ناحية الشكل، أما الهم الداخلي للقصيدة فقد كان لعزيز ذلك الاحساس الفاجع بالأزمة والارتباط الحميم بالتجربة العراقية الدامية والفريدة، أي انه مع النسغ الصاعد للمرحلة وبعمق منذ البداية، حتى انك لتحس بخيبته الشخصية وفي أدق الاسرار الذاتية، مترابطة بالحس الشمال والحزن والانخذال وتلك سمات رئيسية لمرحة ما بلورت جيلا هاما في الأدب العراقي المعاصر.
وعندي ان ــ أغاني الدرويش ــ مجموعة شعرية تنقسم الى مرحلتين شعريتين تماما، من الناحية الزمنية والفنية ايضا.

الشاعر عزيز السماوي

الأولى تبدأ في سنة 1964 وتوشك على الانتهاء في سنة 1967 وتمثل اوليات عزيز السماوي الشعرية، وهي لتصلح لتقييمه لاعتمادها على الأدوات الشعرية السالفة والبسيطة، وهي عموما شحيحة بالتوصل والاستقساء الشعري الجيد وغزيرة حيث كمية القصائد قياسا بكتابات الشاعر الأخيرة.. القليلة والتي تواجه اشراف نقدي ووعي فني ومسؤولية كبيرة من الشاعر ذاته، ولا أظن ان القناعة تذهب بعيدا في نشر تلك القصائد في الديوان لولا اعتمادها في القياس والدلالة، بالاضافة الى انها تشير الى التداخل والتوالد الشعري المستمر في تاريخ الشاعر وتطوره، والقصائد التي تضاف لتلك المرحلة هي:ـ
كؤوس الألم، لاتنتظر، اضحك دغش، بكائية السياب، اظلم تابوت
يبدأ الديوان بـ كؤوس الألم ــ وهي قصيدة عمودية تراكمية البناء وجملتها الشعرية تشبه الدارمي الشكل الأكثر حماسة عاطفية في الشعر الفلكلوري العراقي، والقصيدة مقفاة تماما وتعتمد اللازمة كما يفعل مظفر النواب في بعض قصائده، والطريقة موجودة اساسا في عموديات الشعر الشعبي الأول.
ان القصيدة مقتولة بالتخلف الشكلي مع انها تشير الى الموضوع الحاد في تلك الفترة الزمنية المعتمة، الخيبة والاحساس الأولي بفوات الفرص.
كمرية مامش بعد… ليش احنه موش بصيف!
.. وتتحرك ــ لاتنتظرــ شكلا ويظل تحركها جزئيا من حيث المضمو ولاتمتلك ذلك التوازن والتناسق التقليدي بين شكلها وضرورة الموضوع الذي خلقته.
ايقاع القصيدة لذيذ ومنساب مع ومضات شعرية قليلة قد ترد وكأنها توحي بتعديلات اخيرة على القصيدة:
وايامي شجرة ضيم مابيها ورك
ماي الفرح بسكوت باحلامي مرك
ويؤدي الوعي الأحادي لأي مسألة واعتماد الانفعال والشعور المباشر والخارجي الى كتابة قصيدة مثل: ــ اضحك دغش ــ عكس القصائد التركيية ذات الأبعاد المتداخلة الاخيرة عند الشاعر.
لقد اكتفى عزيز بالهجاء الاجتماعي المنفعل، محاولا البحث عن تبرير ذرائعي، خارجي لازمة داخلية محاصرة، وترك الضور في الخارج يلهث، ولم يسلط على اعماق التجربة وخفاياها الأكثر دهشة وصدق شعري مضيء، وقد أدى ذلك بالشاعر الى اتخاذ الموقف الفني والاخلاقي الاخر في قصائده الاخيرة كرد فعل معاكس وايجابي من الناحية الفنية، لقد تحولت الادانة للاخرين والذات كذلك اخيرا وــ اضحك دغش ــ تمسح على رقعة اجتماعية ونفسية هامة الا انها تقف عند هذا الحد. وعند المرور بـ ــ الحلم تابوت ــ نجدها لاتضيف شيئا جديدا، اما ــ بكائية السياب ــ فانها تحمل كل تخلف القصيدة السابقة عند الشاعر ــ شكل تقليدي الى حد ما ــ والقصيدة تكتب عن رائد الشعر الحر، المضامين معتادة والتناول عاطفي كذلك ثم هذه اللغة الخشب بالاضافة الى الشاعر الشهيد السياب، مرّ بحياة تراجيديا رهيبة ونموذجية بالمتاعب والتناقضات المختلفة.
للسياب اسطورة في الحياة والريادة الشعرية والموت ولا تقول لنا القصيدة ذلك، وليس بها ثمة كشف بعيد لهذا الموضوع الخصب بالشعر، ان الادانة كبيرة لموت السياب وبالشكل الذي مات به، حتى ان للشاعر ان يدين الحياة لموت الاسطورة ويمجد الانسان ــ ايوب ــ لاحتمال الألم والشهادة، هل فهلت ــ البكائية ــ شيء من ذلك؟.
3. القصائد 1967:
هذا الخط القييمي الذي اعتمدته لايشبه القانون النهائي، ان تداخلا قد يرد واستثناءات عدة، ولكن الأهم ان الفترة الأخيرة هي الأجود في عطاءات عزيز السماوي الشعرية ومنها تبدأ الاشارة الى نضجه الفني ووعيه الثقافي المعاصر لافق القصيدة ومهماتها، حتى ان هذه الفترة بالذات 1967 تشير الى نضج وأصالة التجديد وعمقه في مساحة الشعر الشعبي الحديث عموما خلال انجازات أبرز شعرائه الشباب، وذلك لأسباب موضوعية حاسمة تضاف للجهد الروحي والثقافي والحياتي ولأسباب ذاتية عدة كرست وانضجت هذا الرافد الشعري المتدفق في الشعر العراقي المعاصر.
ومن القصائد التي تنسحب لمرحلة غير ناضجة في مسيرة عزيز السماوي الشعرية قصيدة ــ العاصفة ــ الايقاعية والتي تعتمد على الصخب الوزني غير المعادل لبساطة المعاني وسهولتها الغنائية في القصيدة، بديلا للاستقصاء الشعري والفكري الصعب والعميق، وذلك لكونها تتراوح بين الرصد الخارجي الوصفي والانفعالي والاسقاط الذاتي للتجربة النضالية، ثم افتقادها لزاوية نظر خاصة سببه عدم الاكتمال في التجربة والتأمل والتفاعل الداخلي المعاش اسقطا في التناول المجاني، هذا مايفسر اعتمادها الوزن الطروب ــ العكيلي ـ واستهوائها الشبيه بقصائد الرومانسية الثورية. في القصيدة ثمة فاصل بين التجربة والوعي السياسي الشخصي وبين تجربة القصيدة السياسية ــ البعيدة ــ وــ العاصفة ـ من قصائد مابعد حرب 5 حزيران، الحماسية والآنية، وفي اغنية الجراح شيء من العودة كذلك للمرحلة السالفة تلك، ولكنها من القصائد التي تبشر بالمستقبل والذي تحقق في القصائد التالية، لذا يمكن اعتبارها من البدايات المؤشرة صوب الأجود:
وتجيك امواج شبكاتي… دواير بيض ماتنعد
انها قصيدة افقية عموما، تتراكم باستمرار، وفيها بداية الوعي بمهمة اللغة وابعادها في القصيدة، ويمكن اعتبار ــ سيوف الثلج ــ تأكيد فني لذلك، في اللغة شحن بالطاقة الحسية والنفسية في هذه القصيدة، وتمتلك لغتها ذلك الفعل الذي يجعلها تأسر كل الموجودات والاشياء الغائبة في دائرة الشكل، ويتسع شكل القصيدة السابق ليشكل بناء فنيا متناسقا وموحيا.
في ــ سيوف الثلج ــ احساس صادق بالشلل التام، والمغادرة والانتظار المضيء، ثمة رغبة في النار خلف تراكمات الجفاف وغثيان الصباحات المتربة:
علمني ابارز والسيوف ثلوج
علمني اضحك والكلوب تلوج
اشلون افوجن والشواطي اثلوج
والحلم مشحوف والمردي ضوه
والحرف حزنان بلساني انطوه
ويتوسل الشاعر بالحلم نقيض الواقع ـ الثلج ــ ومادته البديل كي يسافر صوب الماء والحرية:
كبرت السنطه والحرف عطشان
ركبني حلمي لكطع الوديان
سويني فارس والخناجر دوه
علمني احصد من سنابل هوه
ان الحيرة والرغبة في الصحو والقرارات المذبوحة وكل الأماني المحبطة تصطخب في مناخ القصيدة النائي والابيض المستلب، ــ سيوف الثلج ــ اغنية نقية، شجاعة وغامضة بصدق، رغم بوحها العذب والسري واشارة مضيئة لاتمنح نفسها بيسر، تجتاح الحيرة كل المسافات وتأخذ المواجهة الذاتية من خلال ــ الآخر ــ بعدا اكثر جذرية ولوعة.
وروحي بظلمةغيابك.. تذوب
تذوب.. ترجع تعتلك وتلوب
تنزل للكبر شمعه
يمضيّع اسنينك تضوّي اكبور
مو خلصت ايامك شمع ونذور
تغتسل المعاني هنا من رومانسيتها السابقة وغنائها البسيط، لتواجه الذات العارية في لحظة صدقها لشرسة بغناء ألذ وأبعد غورا في الروح، النموذجية في الشعر الجيد هي الموازنة الدقيقة الاشياء كلها في الجهة الاخرى المقابلة للغناء والحنين والشجن.
ويبدأ عزيز في هذه القصيدة في مقطعها الاخير عن مناجاتها الذاتية الحائرة لتكرس انكسار وضعف الاخرين ازاء القيم النقية وعذاب الشاعر في الموقف من هذا الواقع الرماد:
امشي
امشي… امشي والدرب حزم سمانه
احنه بجفوف ومساحي، اسباع من ندفن ضوانه
جنه متسودن نهاري، والزمن ضيّع مجانه
او تمر سيوفهم غفله، مشاحيف بنهر اظلم
اوعيب احجي الحرف مجنون مايرحم
ولانخوه نكاط العركثلج على الكصه
عرك رجلين زلكني بدرب علوه
وبمرايه الطيف ماواحد بعد يسوه
ولانخوه..
جاوينه اليزيل الخوف ويسوي الكلب حصوه
ثمة تحريك فني للشكل في هذه ــ السفره ــ وهل للمسافر للقصائد الجديدة والعشق والثورة، سوى ذلك؟
4. مشاحيف السفر:
مناخ القصيدة المتوتر يشبه المقبل على مغامر خطيرة، ثمة وقوف قلق وقاتل بين عالمين متناقضين تماما، كل المشاعر الثرية في العتمة والصحو، السر والعلن، الخوف والاقدام،تستقطب من اجل اجابة اخيرة. القصيدة مجموعة من انتفاضات مذبوحة في ليل الفرح، ومخاطبات توجع القلب، ليست هناك مسافة للضوء لم تقتحم من اجل ذلك الشيء الخلاص والحرية.
اسئلة عزيز الاولى تطلق اشعتها الحمراء وكل العاني السابقة تخطر بكثافة أشد ويستجمع الشاعر ادواته الفنية وخبرته التي انضجتها الممارسة الفنية والوعي والتجربة ليكتبب:
وين نروح… وين نروح
ياخذني العرك والدوخة وين نروح
ويظل السؤال اسنين خنجر ملتوي عله الروح
…. وتوشك العذابات التي لاتطاق والاسئلة الملحة ان تغدو هما ميتافيزيقيا مجردا لولا ذلك الانشداد الحياتي، وبعد التجربة الذاتية الخصبة:
ياخذنه النظر لبعيد… لحدود السفر وندوخ
للغة في هذه القصيدة مهمة استثنائية محضة، انها تنسلخ من عالمها اليومي الباهت لتأخذ بعدا خاصا، واختيارات داخلية غير مألوفة، وتفجير ملون يسبقه انتقاء روحي منحاز ليتناسق مع الايقاع الرشيق الحركة ــ الصورة.
وايهزني الخجل ليفوك، عرك طولي يصل للكاع
وتمر الدنيه بعيوني واشوفك وحشه ما تنباع
قد يبدو احيانا ان اللغة هي الشعر في هذه القصيدة، كالماء قبل أي شيء اخر، ذلك ليس اقحاما عقليا وافتعالا تجريبيا ميت الحس والمعايشة او تجريدا لفعالية اللغة الانسانية بقدر ماتكن اللغة هي المعنى او جزءه الهام من خلال الايحاءالصوتي والايقاعي او اللوني والنفسي ايضا وذلك باستثارة المخزون التاريخي السايكولوجي للمفردة:
ويدخن كلبي جم مره.. واكله شبيك
مامش واهس امسليك
وبتلك الغلالة الموحبة التوصيل بالرمز والاشارة والدعاء يستقصي عزيز السماوي ذلك البطل الصوفي الذي صلب في زمن ــ الثلج ــ شأن معظم ابطال قصائد الشاعر في محنتهم ونزوعهم الروحي للسمو وصحو الذات وتحققها البطولي والدامي. وكمن يقف في حضرة ــ الاله ــ لابد اذن من مراجعات ذاتية ومحاكمة شرسة مع النفس واستغفارات يعرق لها القلب ويغتسل بالضوء والتوبة وينهمك في البحث ومحاولة استقدام ذلك الخلاص والنموذج الروحي المجسد والذي يوميء صوب الضفة التي يطفيء عندها القلق والعذاب في لحظة شعرية كالبريق القادم من سماء ملونة، وتندرج حيرة الشاعر وذنوبه في بهجة اسراءه الشديد الضو والألم، انه المثال الذي في الرأس وقد صادفه الشاعر على الارض فجأة واندهش.. بكى.. حاول ان يقترب منه لحظة واحدة ثم يذهب بهما الزمن سوية ولكن:
نعرق من سواليفك ــ وياريت ــ العرك من دم
ماتزال هذه الـ ــ ياريت ــ جدارا للتمني والانخذال بين الرغبة والتنفيذ، الحلو والواقع، بين الشاعر والحياة كما يراها ويريدها:
دنيانه اتحمل كل حين… تجيب النه حلم عطشان
يغفه عله الرماد اسنسن… يغفه عله الرماد اسنين
وبلغة الأدعية والترديدات الروحية الساخنة والتي تذهب بالجسد حيث الغفران والتجلي وتحشد الرأس والروح بالسماء المغسولة بالوجود والمحبة، وبحرارة المقبل بصلواته اللاهثة بالدم صوب الحبيب يهذي الشاعر بلغته السردية المخيفة والكاشفة حد التألق والتوبة:
ونشوفك بالحلم مرات… ونصلي لك سبع مرات
نبض كلبك يدك خطوات… كل خطوه صبح بالراس
كل خطوه شمس بالراس
ثكلان الحجي بالراس…. ثكلان الحجي بالراس
وكأنك لابد ان تستمر هكذا بالترديد والتكرار الديني المشبوب واللغة الممتلئة، في القصيدة ثمة قطع واستدارة وتفجير ايقاعي ورسم للحالة الشعورية من خلال اللعب بالايقاع اللغوي والحركة للحد الذي قد ينتابنا التأثير البايلوجي احيانا، أي يجتاحنا الفعل الشعري بالاضافة للتأزم وايقاظ الحواس والروح. وتتغير ايضا مهمة الرسم التصويرية الرومانسية في هذه القصيدة ذلك رغبة في رسم الاشياء، والانسان شعريا وبواقعيةلعمق وأشمل ، هذه المهمة ربما تشبه الانتقال الثوري المعاصر للفنون التشكيلية برؤيا جديدة ومدهشة، ــ مشاحيف السفر ــ تخطى نوعي لمرحلة شعرية اولى في الخط التطوري لقصائد الشاعر عزيز السماوي، وانجاز هام في مسيرة الشعر العراقي الجديد، والمكتوب باللغة الشعبية الجديدة.
5. أغاني الدرويش رقم ــ1 ــ:
قليل مايغير عزيز السماوي اسلوبه الشعري، انه يستمر طويلا في الالحاح على طريقة ما او على موضو معين كذلك، ان حذرامن التجريب والاستفادة من الانجاز التكتيكي والفني ــ الى حد معين ــ للقصيدة المعاصرة ومن النوع الشعري ينتاب الذهنية الشعرية للشاعر عزيز السماوي، ان له بعدا ذاتيا بأسره باستمرار وينشغل زمنا في تأكيد مساره الذاتي المنفعل ليكرس نموذجا من التجربة الفردية الغريبة والمذعورة والمؤدية حتما الى التعبير بالرمز والايحاء والمتجذرة بعيدا في الروح على حساب البعد الموضوعي للتجربة في اغلب الانجازات الشعرية !
الصدق الفني مهمة رئيسة الفنان ــ الشاعر ــ حتى انها احتكامه الاكثر اصالة وايقاع، مع ذلك فان الذكاء والوعي الغني الديالكتيكي يؤدي بالضبط الى اتساع دائرة الحدث الشعري وعمق تأثيره واستمرار تواصله الزمني وخلوده.
من هنا لابد من وقفة أزاء هذا التشابه السائد في قصائد عديدة الموضوع والتكرار، المعاني المتقاربة، الجملة الشعرية المتشابهة، البناءالفني، والرموز الشعرية كذلك. وقصائد الديوان الاخير- مشاحيف السفر – اغاني الدرويش- اسرار ابو الليل ــ تؤكد ذلك رغم تفاوتها في الجودة واختلافاتهاالجزئية الاخرى.
بلغة التمني الموجعة تبدأ ــ اغاني الدرويش ــ استدعاء ذلك الحبيب الذي يملأ الزمن، كي يكون البديل لكل توحدات الشاعر وغربته:
أريدك كمره تضوي الروح… وتحدر مشاحيف الحلم بالروح
اجيك بحسبه حداري.. وارد بين الكصب مشحوف
بهكذا رشاقة وجمال شعري يقف الشاعر في الجهة الاخرى من العالم مستدعيا كل الاشياء الحبيبة كي تحضر بفعل الدراويش في حومة استفهام الشوق والنشوة الروحية المطلقة، والتواجد. ويذهب الفعل الشعري بعيدا في القصيدة بذلك الاحساس بان للشعر طاقة الانجاز والتملك السحرية، ان له فعل الاحلام تعبيرا عن احتشاد الشاعر بكل الاسرار والتمنيات الذاهبة والحاضرة دوما في الروح:
غميجه وماتعرف الكيش اسرارك… بروحي وتلمض اسرارك … خناجر من ذهب تضوي
في ــ اغاني الدرويش ــ يتسع الحدث الشعري قياسا بالقصائد السابقة، وتغدو القصيدة اكثر شمولا وهيبة، حتى انك لتبدو في كاتدرائية باهرة، غامضة، ورشيقة التكوين، وتاخذ الهموم الاولى ابعادا جديدة، حيث تتجرد المخاوف والاحزان من ارضيتها المباشرة لتلمس الهواجس الكونية وهموم الانسان المستديمة:
ولك دوم الشمس مليانه ندم وذنوب… ولو عدها بخت جا نامت الها ابفي
عليمن هالسفر والضي
نحن في الداخل من الموقف الاشمل للعذاب الانساني الازلي ولكي يقف الشاعر لحظة في مرفأ الخلاص يقول:
هاك ايدي.. اخذ منها الفعل للطين… وذبني عله النعاس سنين
يعود للجهة الاخرى من العالم لامجديا وخائبا
هذا هو الموقف السائد تقريبا، لان عزيز ومنذ البدء افترض ان لاخلاص، ولكي ينفلت من المحاضرة والخوف انهمك في هذه الهذيانا ت والتداعيات المرة والرائعة الصدق.
يتمسرح المناخ الشعري وتتعدد الاصوات وتتداخل الحوارات مع امتداد موضوع القصيدة واستشرافاته، ورغبة الشاعر في التمعن الشديد في تجربته الاهم وكانها تنسحب من بين يديه مودعته للمرة الاخيرة، فليقل اذن ما اختزن القلب والذاكرة، انه يضعف ينخذل للحد الذي يعلن:
ماهزك صبر روحي ولا سولف ضمير وياك
ذلك لانني:
اخافن حتى من روحي انه بلياك… سيف يعارج بروحه انه بلياك
وقد يتعب من هكذا حبيب:
لا بي تطيب النفس.. ولا روحي منه ايتوب
ومرة اخرى يبرز هذا الضعف والمناشدة:
حنينه الروح وكت الخوف
وفي اخرى يتداخل الزمن وتبدو المحنة اكبر.
اجيلك بالحلم تبكه الليالي وياك…. ياخذني الصبح يبكه الحلم وياك
ان الموقف الفكري والحياتي خلف هذا الشعر يشير الى الرفض وعدم القناعة بالمنهج والتحليلالمفرط بالمنطقية والتقنين للامور، ويذهب بعيدا وراء المشاعر الغائمة والكئيبة والتجارب التي في العتمة والسر، ذلك ان الشعر في هذه المناطق اشد سخونة وشجاعة وصدق، ولان الفرح ومشاعر الايجاب المفتعلة ليست المهنة المفضلة لشعراء ستينيات هذا العصر المقتول بالرعب والجريمة والتعب، ولان الخداع الفني وخيانة النفس في الشعر لاتأتي بسوى القصائد الميتة والمشوهة د من صدق خطير وبطولة ، وعزيز سماوي يصرالاحتجاج من كل ذلك رغبة في الصحو والالفة ولكن هل في الحياة شيء من ذلك ؟ سيما وان حدة الوعي والتحديق لاك من اللازم في الدنيا لايملأ الرأس:
اخاف لراس نسر يصير … يطك جنح بجنج ويطير
وقد يتعب من هذا حبيب ومع ذلك فهناك سفر ابدي وعناق مندهش لكل الصباحات المنتظرة:
تحط الذاكرة بمشحوف تتلكه الصبح اشعار
ليس اشرف واصدق من هذا الاحساس والمهمة والرؤية الرائعة ومن اجلها يطلق عزيز في القصيدة كل اللافتات المؤجلة. للحركة في ــ اغاني الدرويش ــ القصيدة، مهمة تصويرية رشيقة، ان البيت الشعري لايرسم بالادوات المألوفة، انه يضع الفعل ليوحي بالحضور الداخلي للحالة، وقد يعاكس الشاعر ــ فعل الطبيعة رغبة في هدم الجدار العتيق للرتابة وتقليدية الاشياء ورصدا امينا للخطة الشعرية:
واركص والثلج يلهب حدر الجدم للروح … ولك وج البرد بالروح
ان ذلك يكثر في القصيدة ويكثر ايضا ذلك اللؤم الذي يشبه العداوة للذات ــ مازوكية ــ ان بها ذنوب طويلة وسامة وليس هناك مغفرة سوى ان يكن المعشوق في دائرة الرضا والمشاركة الحميمة التي يتوحد فيها مع العاشق، وهل ذلك حاصل في يوم ما؟.
في زاوية مطلة على الذات العالم يقف الشاعر في هذه القصيدة ليبدأ محاكماته الحاسمة والغير منتهية مع كل شيء، قانونه الاكيد عدم الرضا والمشاكسة مجسدا البعد الدرامي الملتهب في تجربة ملحمية صادقة، تشير الى ازمة وهموم جيل هام من الشبيبة العراقية المعاصرة.
وفي القصيدة تنفتح الابواب الصغيرة المعشبة للتجربة والتي من خلالها يمكن الكتابة بشكل جديد ومتطور ايضا.
ــ اسرار ابو الليل ــ
الاسرار الليلية في هذه القصيدة معلنة حد الصراخ في قصائد سابقة سوى التأكيد هنا على بعد التجربة الحسي، واجمل مافي القصيدة تلك المقاطع الهمسية الملونة مع ان اللون يرسم بالكلمة وهذا تعامل سالف مع اللون الشعري في القصيدة. بناء ــ اسرار الليل ــ مفكك بعض الشيء، وفي القصيدة عالمان كل واحد يتحرك في اتجاه مغاير، الاول وهو عالم التجربة الحسية الفائق العذوبة والحنان، والثاني عالم التجربة الفكرية او محاولة مد التجربة بطاقة اكثر مما تحتمل، ذلك باسقاطات فكرية لا تتفق وموضوع القصيدة. كان لابد لها ان تكتب كقصيدة غنائية حسية صاعقة الجمال، محشودة بالليل والحنين والمغامرة والغيابات الروحية الطاحنة وشاء لها عزيز ان يكتبها كما القصائد الشمولية الطويلة وصلبت القصيدة بين القصدين، والقصيدة كذلك ترديد غير منفعل ومبرر للمعاني الاولى، ان بها ظلالا كثيفة من ــ الاغاني ــ و ــ الاسفار ــ التي قبلها، مع انها لاتخسر متانة وهيمنة القصائد الجديدة ولكنها هدنة مع الشعر ورصد سريع لا يخلو من متعة لتجربة عابرة.

7. هوامش:
1. (اغاني الدرويش): شعر كتب بلغة جديدة ومتناسقة تماما.
2. الديوان اول مجموعة شعرية منفردة بعد الريل وحمد لواحد من شعراء القصيدة الشعبية ــ الشباب ــ يطرح مفهوم المعاصرة ويتخطى رومانسية وابتذال القصائد السهلة، الركيكة والتقليدية برؤيا وتقصي شعري جيد.
3. رسوم الفنان الشاب فيصل لعيبي تؤكد المشاركة الحميمة.
4. بمثل (اغاني الدويش) يتم تأكيد المدرسة الاكثر اصالة وابداع في الشعر العراقي المعاصر.

21/ 4 / 1973
علي الشباني
مجلة الثقافة حزيران /1973

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *