رواية «الإرسي» لسلام إبراهيم نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العراق (2/2)
حسين سرمك حسن (ملف/117)

إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراقي

المرأة العراقية .. آلهة الانتظار:
لا يمكننا أن نؤول الحضور الأنثوي الباذخ في رواية (سلام إبراهيم) هذه بأنه تعبير مجرّد لحضور المرأة بالمنظور الفلسفي المادي الغربي المميت الذي “فكّك” حتى وجود الأنثى من خلال حركة “النسوية – feminism ” التي صنعت من التنوع الطبيعي (الذكورة والأنوثة) معسكرين متقابلين رهيبين هما الرجل والمرأة وليس كيانين متكاملين كما هو حال خلقهما .. تريد “التسوية” وليس “المساواة” .. جعلت حتى اللغة منجزا أنثويا وكأنك حين تقول هناك سرقة تفكر بمفردة “سرقة” كمفردة أنثوية (بتحوير عن عبد الوهاب المسيري في كتابه الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان). ولا نستطيع إعلان موته كمؤلف عراقي وفق المنهج البنيوي الذي تراجع عنه حتى صانعه “رولاند بارت” ومازال النقاد العرب البنيويون، الذين يعيشون على سلة مهملات النقد الغربي، يتمسكون به، ولا فصل نص “سلام إبراهيم” عن بيئته الاجتماعية وخلعه من حضنه المحلي حسب أطروحات نظرية الفن للفن. إن النسوة اللائي يتحدث عنهن هنّ نسوة عراقيات حصرا .. مؤلفهن لا يموت ابدا. مؤلفهن (سلام إبراهيم) بشحم عذابه ودم حزنه الأسطوري الذي لا يفنى ولا يزوّر .. هذه رواية (سلام ابراهيم) .. وذينك أمّه وعمّته وزوجته / حبيبته، عراقيات حدّ اللعنة .. إلهات ألفَّن وأجدن فن الانتظار منذ فجر التاريخ .. واختصاصيات موديلات الثياب السود حتى نهاية تاريخنا الكالحة .. زاهدات بالجنس الحرام .. ومتفرغات لأبنائهن البيولوجيين مثل “كفاح”، و لأبنائهن – وهذه مصيبة – “المعنويين” ممثلين بأزواجهن. كان سلام “طفل” زوجته وابنها. العراقية هي آلهة الانتظار بلا منازع تسلّمت رايته من أمها “عشتار” التي ابيضت عيناها ترقبا وهي تترقب عودة دموزي المقطّع. يتحدث سلام عن عمته كآلهة من آلهات الانتظار: «عقب المناحة [= مقتل زوجها] في بئر القبة الزجاجية، وعريها الصارخ وسط حشد الباحة، احتشمت. عادت تخفي شعرها بشال أبيض، وتلبس أثواب تصل حد الكاحل، وتكثر من زيارة مراقد الأئمة في النجف وكربلاء .. ظلت تجلس في ذلك الوضع نفسه، جوار عتبة غرفة نومها، تنتظر ابنها الذي سافر إلى بغداد ذات جمعة ولم يعد .. أدمنت الحملقة الشاردة بالمدخل، وصمتها القديم ذاك اختلط بلوعة أمرّ من الأولى. عيناها معلّقتان بأذيال ستارة الباب الخارجي. تتوقع دخوله كل مساء. وبالرغم من أنهم بعثوا بطلبها، ليخبروها بقتله ودفنه سرّاً، لم تكف عن الانتظار المفتوح – ص 35 و36».

وفي السنة الخامسة لانتظارها المعجز والمديد الذي لا يقوى عليه حتى الله .. جاءها متسللا سرّا إلى بيتها .. يلوب في وجدانه “المخبأ” المقدس .. الرحم الأمومي الحامي المبارك. فـ«انتفضت من سكونها قائمة، أخذته إلى صدرها، فشمّ عطرها القديم المُسكر، المعطّر سني طفولته الصعبة – ص 36».

لعنات التاريخ الشخصي:
يتعاون التاريخ الشخصي بتجاربه المحبطة والصادمة التي تنغرز في أعماق لاشعورنا لتشكل اللعنات السرّية التي سوف تقوم بوظيفتين خطيرتين: الأولى أنها لا تندمل وتبقى ندبتها فائقة الحساسية للضغوط والإكراهات والإنخذالات اللاحقة، فتربك حياة الفرد الراهنة. والثانية هي أنها تعمل كمهماز ينخز مكبوتات الطفولة والمراحل المبكرة من حياة الفرد؛ يوقظ غيلانها التي كانت غافية جزئيا تحت قبضة الكبت لسنوات طويلة، فتتظافر الوظيفتان ويتضاعف فعلاهما المربك. كان سلام “أخو بنات” .. ولد بين سبع أخوات ينام وسطهن، ويكتوي بحرارة أجسامهن اللدنة .. وفي هذا إذكاء لظلال الأنوثة الموجودة أصلا في بنية الشخصية البشرية..

وفي المرحلة الراشدة تأتي التجارب المريرة التي تعرض لها في ظل الطغيان فتثير مشاعر العجز والحياء والإنخذال المطمورة في تربة الشخصية العميقة. من تلك التجارب الحادثة الجسيمة التي علقت أطرافها العنكبوتية بذهنه وروحه .. ها هو يستعيدها في مخبأه وهو يمسك بالمسدس ويفكر في ردّ فعله في مشهد إلقاء القبض عليه، يسائل نفسه “هل يجرؤ على تصويب الفوهة الحالكة إلى القلب أو الصدغ؟ هل يجرؤ على الضغط؟ هل لديه الشجاعة الكافية للإقدام على استقبال الطلقة المخلّصة؟ (ص 37).

وهذه التساؤلات تنقله فورا إلى موضوعة أشد خطورة في تذبذباته السلوكية المحيّرة، فهو مشوّش لا يستطيع تحديد مقياسا للشجاعة والجبن يمكن على أساسه أن يقيّم أفعاله. فهو يجد نفسه في بعض المواضع شديد الجبن، وفي أخرى شجاعاً حدّ التهوّر!! علينا أن ندرك أولا أن الخوف غريزة متأصلة في نفس الإنسان، أما الشجاعة فسمة مُكتسبة تستحصل وتُعزز وتنمو بالتدريب. الإنسان يولد خائفا رعديدا ثم “يتعلم” كيف يواجه المخاطر عبر سني حياته خصوصا المبكر منها. والمخيف الأكبر في حياة أي طفل هو الأب. وقد قيل كثيرا بأن الشجاعة هي الخوف المقهور وأن الرفاه يقتل الشجاعة. ولحظات جبن “سلام” هي اللحظات “الحقيقية” المتبقية من طفولته المعذّبة. أما الشجاعة المتهوّرة فما هي إلا “تشكيل عكسي – reaction formation ” وهي الآلية النفسية الدفاعية التي يُظهر فيها الفرد أفعالا وخصائص معاكسة لما يُضمر. إنها «اتجاه، أو تصرّف، يتبناه فرد ارتكاسا على رغبة مكبوتة. والتكوين الإرتكاسي، الناجم عن نزاع بين الحس الأخلاقي وميل غير مقبول، توظيف مضاد لميل لا شعوري، يهدف إلى أن يوازن توظيف عنصر لا شعوري ذي اتجاه معاكس. ومثال ذلك أن الحياء المغالي يعارض ميولا إلى الإستعراء، والنظافة الموسوسة تتكوّن ارتكاسا على انجذاب قويّ للوساخة ومواد البراز، والشفقة تعارض وتحبط ميولاً سادية. ولعديد من سمات الطبع هذا الأصل. وليس التكوين الارتكاسي مع ذلك، بوصفه آلية دفاع للأنا ذات أهمية في العصاب الوسواسي، نوعيا لهذا العصاب وهو موجود في الهستيريا على وجه الخصوص.»(6) و”سلام” الشخصية المحورية يستعيد الآن «أشد لحظات جبنه وقعا على نفسه، تلك التي وقعت له في نضجه. يتذكر كيف صفّتهم الشرطة العسكرية في مساء مظلم وسط ساحة صغيرة محاطة بعربات قطار قديمة، أعدت كسجن مؤقت للجنود الهاربين والمخالفين. كانوا قد قبضوا عليه لتأخره عن موعد التحاقه بوحدته. كان يحاول الوقوف في الصف الثاني الأشد عتمة من الصف الأول .. أنضغط بين الأجساد المسرعة تحت ضربات هراوات الشرطة البلاستيكية المعبّأة بالحصى، مما جعله يتذمر بصوت مسموع قائلا:

– شني القضيّة؟

قامت القيامة. وران صمت حجري على الهاربين المذعورين، وعريف الشرطة العسكرية يطلب من القائل التقدّم خارج الصف:

-إذا كان ابن أمّه وأبيه، فليخرج – ص 38»

هنا التفت إليه الجندي الذي أمامه وكأنه يطلب منه أن يخرج لإنقاذ الكل من عقاب جماعي كان يتوعد به العريف. إنه اختبار حاسم ليس للشجاعة فقط .. بل للمسؤولية عن الكلمة المحتجة التي أطلقها دفاعا عن كرامته. ومن المؤكد أن القيم التي من أجلها انتمى إلى حزبه دفاعا عن الكادحين قد اختضّت وانهارت بأكملها. فمن لا يستطيع مواجهة عريف في الشرطة العسكرية لن يستطيع تحقيق الأحلام الجمعية المنتظرة وإسقاط الطاغوت .. كان يختض حابسا أنفاسه، متخيّلا الضرب المبرح الذي سينهال عليه في حالة خروجه .. لولا الظلام لفضحه ارتجاف جسده. حركة المسجون الذي التفت جلبت إليه العيون، مما جعلهم يسحبونه إلى وسطهم، وينهالون عليه ضربا بالهراوات، وركلا بالأقدام وهو يقسم بأنه لم يقل شيئا، وكان قويّا وشجاعا إذ لم يش به، ولم تصدر عنه صرخة ألم رغم قسوة الرفس والضرب الذي جعله يتكور تحتهم واضعا يديه حول رأسه المضموم إلى حضنه. كان يتمزق من هول الضربات التي من المفترض أن تكون حصته .. من مبلغ جبنه الذي يكتشف فداحته تلك اللحظة .. من شعور بالخزي والعار لن يفارقه كل العمر، والجندي المدمى يعود إلى الصف، بعد أن كلّت أيديهم و ألسنتهم من بذيء الكلام والضرب .. يقترب منه ويهمس في أذنه:

– بشرفي أنت ناقص..

في الظلام الدامس، في لحمة الأجساد المكدّسة في ضيق العربة، في بردها الصقيعي غط بنضحه، بعاره، و “أنت ناقص” ستبقى ترن في نفسه كل العمر، مصحوبة بسؤال:

– هل أنا جبان إلى هذا الحد؟ – ص 39».

لقد أُشهر انخصاؤه علنا، بعد أن كان مستترا في طيّات اللاشعور. صارت مشاعر الخزي والعار تلتهم رجولته وشهوره بالكفاية حتى وهو في فراش الزوجية. أصبح يشعر بأنه ليس أهلا حتى للأبوة!: «سيحتقر نفسه. سيخجل وهو في الذروة بفراش الزوجية. سيقضي ليالي الإجازة الشهرية في السكر والنحيب. سيخفي جرح كرامته عميقا. فلمن يبوح بهذا السرّ؟ وماذا يقول؟ سوف يجد نفسه ليس جديرا بحبها المجنون، غير جدير بأبوته. سيختلف إيقاع علاقته بالآخرين. سيصبح وجلا، غير واثق من كلامه، سيطيل من الإنفراد بنفسه. سيقلب الأمر طويلا وعميقا باحثا عن سرّ هذا الجبن وجذوره – ص 41».

لكن هل تكفي تجربة واحدة على إهارة بناء شخصية الإنسان؟ هل تكفي حادثة مفردة – مهما كانت مرارتها – على تحطيم الفرد بتعقيداته النفسية وقدرته على التكيّف والتبرير؟ نعم، إنها “الحوادث الفاصلة” في حياة الشخص التي تستثير ما مدفون في أعماق اللاشعور من أحاسيس بالعجز والانخصاء، وتعيده إلى موضع العجز الطفلي أمام السلطة الأبوية الغاشمة والساحقة. وعلينا هنا أن نضع في الحساب النفسي المعنى “الرمزي” للحادثة الفاصلة. تكفي “كلمة” واحدة لتدمير الإنسان ومسخ شخصيته. في قصة قصيرة عظيمة ليوسف إدريس – أعتقد أنها آخر ما كتبه – صوّر شخصا شجاعا من الفتوات يخرج ليلا ماشيا بمفرده، فتباغته مجموعة ملثمة تقوده إلى حفرة وتطلب منه أن يقول: أنا مرة (امرأة) فقط!! لكي لا يقتلوه. فيجد هذا الفتوة أن الوقت ليل وظلام ولا أحد يسمعه .. وهي مجرد كلمة يحافظ بها على حياته فيقول: أنا امرأة، ويعود إلى مكمنه يسامره واحد من حمايته وندمائه. وشيئا فشيئا يشعر بتحول جسمه إلى جسم امرأة .. ويطلب من نديمه أن .. يا لعظمة الإبداع حين يقدم ما تعجز عن تصويره أعظم نظريات علم النفس. ومثل حال هذا الفتوة في الواقع، حال طوابير من المناضلين من تيارات مختلفة، ممن قدموا ”براءات” .. فهي مجرد كلمات بسيطة، لكنها تقوّض كل كيانهم بعد ذلك. وبالنسبة لـ “سلام”، فقد تراكمت تجارب العذاب المثيرة لمشاعر العجز والإنخصاء في مسيرة حياته. فقد واجه الرعب الكاسح والتعذيب الدموي في زنزانة ضيقة .. لمس بروحه وجسده، وبعمق، الكيفية التي يصبح فيها الإنسان وحشاً من خلال الكتلة البشرية مسلوخة الجلد في حملقتها الخاوية، والكتلة الأخرى تلتفت نحوه [= نحو سلام] مستنجدة صارخة:

– يا بوية .. تخبّل أخوي .. تخبّل ( ص 40)

«لم ينس ذلك المشهد المصحوب بصراخ رعب قادم من الأنفاق البعيدة وزنازين البواطن الغامضة. فظل يرتعد كلما خطر في خياله المشهد ذاك. ظل يرتعد ويشحب كلما أقبل نحوه شرطي سري يعرفه في السوق، في المقهى، في الشارع، في مكان عمله… حرز كل ذلك الرعب في أعماقه الدفينة. وصار وجوده منذ إطلاق سراحه في مساء صيفي من مساءات بغداد مجرد ذات تقاوم رعبها المكين. ذات تحاول العودة إلى سويتها الإنسانية. لكن يبدو أن الفزع استحال إلى جبن، وإلا كيف يفسر صمته، وهم يضربون إنسانا بريئا بسببه، ويظل ساكتاً؟

– ناقص .. ناقص .. على قد كياني – ص 40 و41».

ولأن الإنسان يتمتع بـ “مقاومة” نفسية عاتية لكل ما يخدش اعتباره الذاتي، ويثبت قابليته على الإنجراح والهشاشة، فإن الفرد الذي يواجه التجارب الفاصلة يضيع دائما في دوّامة التساؤل التي تلتف على عقله وبصيرته لتشكل غشاوة محكمة تمنعه من التشخيص الدقيق لأسباب معاناته، ووضع إصبعه على دمّلة الذات الملتهبة اللائبة في الأعماق:

«هل هروبي من الجيش جبنٌ من الموت أو موقف أحاول به تقويم إرادتي المكسورة، وللتخلّص من خزي موقف جبني ذاك؟ هل تسللي من الجبل جبنا من مشاق الحياة هنالك أم شجاعة؟ هل كل ما يجري ما هو إلا محاولة لملء خواء النفس، والتطهر من رجس مشاعر الإثم؟ هل سأجرؤ ولا أصاب بالجبن، وأضغط عند المواجهة على الزناد؟ هل كل ما أقوم به هو مجرد اختبار إرادة؟ – ص 43».

السمة التبصصية: اللاشعور يضرب عدة عصافير بحجر واحد:
تبدو السمة التبصصية من السمات الثابتة في شخصية وسلوك “سلام”، خصوصا الجنسي منها. وهي سمة راسخة تأصلت في بنيته الشخصية منذ الطفولة. صارت طقسا لازما للتوتر الموصل للإشباع. ومن عادة اللاشعور الماكر أن لا يصيب عصفورين بحجر واحد، بل عدة عصافير نفسية. وقد أمسكنا ببعض هذه العصافير الجريحة في سياق التحليل، ويبقى عصفور مميز يتمثل في الإشباع التبصصي المحارمي. ومن المؤكد أن المتلقي العراقي، وحاله في ذلك حال المتلقي العربي الذي “يستحرم” من أطروحات التحليل النفسي عموما، واكتشافات معلم فيينا خصوصا – وبالمناسبة فهذه “المقاومة” موجودة حتى في الغرب المتنوّر!! مادامت تلك الأطروحات تمس الجانب المخفي “الرديء” من شخصياتنا – سيرفض استنتاجاتي هنا، فأنا أرى أن من بين العوامل الحاكمة في اتخاذ قراراتنا الخطيرة التي تقلب حياتنا، هي تلك الرغبات “الصغيرة” و“المنسية” التي تظل تلوب في أعماقنا وتتضخم برعب مع مرور السنوات والعقود .. والتي يسوقها الإندفاع المحارمي التبصصي .. كل ذلك كان جزءا من الفواعل التي ساقت “سلام” لاتخاذ قراره بالهروب من الجيش واللوذ في علية الإرسي، بالرغم من عدم معقوليته السطحية. لقد وفّرت له عزلة الإرسي فرصة هائلة للتبصص على الممارسات الجنسية بين ابنة عمّته – بديلة العمّة – وزوجها – مسئول حزبي ومدير ناحية – اللذين يزوران العمة مرتين شهريا قادمين من ناحية بعيدة في محافظة – ديالى -. وهنا يشتعل قلقه خوفا من الانكشاف .. فتتوتر حواسه وتهيج رغبته الحارقة وهو يتبصص على تفاصيل الفعل الجنسي بين ابنة عمّته ذات الجمال الصاعق كما يصفها وزوجها العابث بالجسد البض بشبق وتعبيرات بذيئة. وفي كل مرة يتبصص على الزوجين ويفرغ احتقانه يركبه الشعور بالإثم والندم .. فيلعن نفسه مراراً ويقسم بأنه سيكف عن هذه الإطلالة الآثمة (ص 57) لكنه سرعان ما يعود إلى عادته القديمة. لم يرتدع حتى بعد أن يقسم بروح أبيه الذي توفي أيام التحاقه بثوار الجبال. إنها السمة “الاندفاعية” التي تجعل الفرد يتصرف ثم يراجع فعله ويقيمه لا العكس. وهي جزء ثابت من بنيان شخصيته فهو إلى الآن يتساءل عن دوافع هروبه .. وعن مغزى التحاقه بالثوار في الجبل. هكذا أمضى حياة كاملة مضطربة يسلك السلوك أولا ثم يعود ليراجعه مشككا فترتبك حسابات حياته وتضطرب علاقاته.

الأحلام هي الطريق الملوكي إلى مكبوتات اللاشعور:
ولأن الأحلام هي الطريق الملوكي إلى قلعة اللاشعور كما يقول – فرويد -، فإن “سلام” يقدم حلم يقظة باهر يكشف الكثير من مكبوتاته. ففي لحظة فريدة يمزج بها الواقع بالحلم، يسمع – وهو يتبصص على جسديّ ابنة عمته وزوجها الملتحمين في باحة الدار تحت بقعة من ضوء القمر المنسرب من نوافذ القبة الزجاجية – صوتاً يناديه:

– تعال .. تعال. تعاااال.

انتفض بكل جسده راغبا بالخروج من هذه الاستيهامات واختلاط الأخيلة والأمكنة والأصوات .. لكن صوت الأنثى الهامس يدعوه للنهوض .. راح يتعالى صادرا من مكان قريب جدا، وكأنه خلف الباب:

– تعال .. قم .. قم .. لا تخف .. انزل

هبطت السلالم المنخورة .. وجدتني أنحرف بأثر الصوت في ممر محفور بالجدار الأيمن لم يكن موجودا أصلا:

– تعال يا بعد روحي .. تعال

نبرة أمومية دافئة، تبث حنينا شجنا، لها وقع صوت أمّي تارة، ووقع أنثاي البرّية بالغة الفتنة والغواية في أخرى. مزيج فريد يتلون في الصوت القادم من عمق الممر الضحل الذي أفرزني من شق في نهايته، فوجدت نفسي في متاهة صخرية معقدة التضاريس. أقف عند حافة خيوط صخرية كثيفة تنحدر من مرتفع خطوطه شلالات من الضفائر الصخرية تتموج في ضوء خافت ينبعث من أمكنة خفية:

– تعال .. يا بعد روحي..

أيقظني الصوت من هاجس التحجر .. انحدرت خلفه هابطا من جديد في وهاد وسفوح وشقوق وقمم التضاريس. وفيما كنت أنتشل جسدي من تدوير فنجان السرّة الصخرية الواسعة الساحرة، سمعت الصوت الحميم المثير يأتي من فوهة نفق معتم.»

يمتد حلم اليقظة الباهر والكاشف والمعقد هذا على مساحة عشر صفحات (من ص 59 إلى ص 68) ويمكن للقارئ العودة إلى الرواية لاستكماله .. يضيع “سلام” في متاهات صخرية .. ثم في نفق تخترقه أضواء نارية .. وفي الختام تتجلى له دكة مستديرة أسفل نصب لقضيب حجري؛ دكة محشودة بالبشر العراة … وجوه منغمرة باللذة .. «وجه أمي وأبي، أعمامي وزوجاتهم، أخواتي، مهرجان من نسوة أحلامي الحميمات في طفولتي ومراهقتي .. انفصلت عن فخذ العامود الساخن، وتقدمت نحو الدكة المستديرة الصارخة المهتزة أبغي الذوبان في الكل. تقدمت عاريا وكأنني أغوص في قاع لزج. وما أن وطئت حافتها، حتى أحسست بدفق من سوائل لزجة يجرفني بعيدا ويلقيني في العماء – ص 68».

ويستكمل الروائي حلم بطله في القسم اللاحق (رؤيا المدينة) على مساحة عشرين صفحة (من ص 69 إلى ص 89) وفيه يتعرض لمتاهة جديدة تقوده فيها جارتهم (نادية) زوجة مصلح إطارات السيارات الأعور السكير الذي وجدوه ميتا في الشارع ذات صباح .. والتي كان أبوه يخون أمّه المتمنعة بعد أداء فريضة الحج معها. كان يتبصص على جسدها وأعضائها التناسلية وهو في طفولته .. وتحاصره مشاهد أجسام عراة لجنود وأصدقاء .. وتنتهي هذه الخيالات والاستيهامات بمحاولة للطيران بعد أن نبت له جناحان «جذفت بهما فأحسست بجسدي خفيفا ينفصل عن آجر سطح البرج .. نظرت بامتنان إلى الوجه المؤطر بالعباءة، فاضطربت رائيا وجه لأمي الجميل العذب يودعني وأنا أغور .. وأغور في الزرقة. وما إن تلاشتْ في الأسفل البعيد حتى شعرت بألم حارق وكأن شيئا اخترقني تحت الجنح الأيسر، فهويت .. هويت من الأعالي إلى عتمة فجوة حالكة. انزلقت في فراغها الفسيح .. المبهم .. سقطت على قعر أملس صقيل – ص 89».

ثم يأتي حلم ثالث كاستمرار للقسمين السابقين ويحتل اثنتي عشرة صفحة (من ص 90 إلى ص 101) وهو ذو طبيعة كابوسية أيضا مليء بالرعب والصراخ والاستغاثات بالله كي ينقذه من مأزق، محوره؛ انمساخ ذاته إلى كتلة رخامية «بقامتها الفارعة الساكنة عدا خرزتي العينين الجاحظتين من التجويفين الضحلين للمحجرين الواسعين الموشكين على التحجر في بهمة الرخام وسكونه – ص 92». تحاصره الأجساد الحجرية .. وتواجهه متاهة سلالم .. ويوم حساب تشوى به الأجسام في الجحيم .. وبحركة موفقة وبعد صرخة استغاثة «يا رب الشهوات .. يا من احتشدت بعروقي .. قل لرب الحجر أن يفكّ إساري – ص 100» يعود إلى أرض الواقع .. إلى المشهد الذي انطلقت منه الخيالات والاستيهامات الكابوسية وهو مشهد الجسدين العاريين .. مع حركة استمنائية جديدة «همد أواره فراح يتأمل عراك الكتلتين العاريتين على فراش الباحة العريض الواضح في نور الفجر المنسرب من خلال زجاج القبة وجوانبها – ص 101». سيكون من الصعب جدا الوقوف على “المعنى الباطن – latent content” لكل حلم من هذه الأحلام الثلاثة الطويلة من خلال تحليل معناها الظاهر – manifest content، لكن من الضروري الوقوف على جوهرها في خلاصة يدعمها التحليل السابق واللاحق. وسنمر سريعا على الطبيعة المحارمية لهذه الأحلام من خلال امتزاج صوتي الأم والزوجة في النداء المغوي: تعال .. يا بعد روحي تعال. ومن خلال امتزاج روائحهما المسكرة في موضع آخر. كما أن وجوه النسوة التي تتخاطف في بداية الحلم الثاني تتكثف في وجه العمة الحانية التي “تستحيل” إلى الجارة “نادية” التي كان يتبصص عليها لتقوده في متاهة المدينة. وكل هذه النقلات محسوبة تزاح – displaced نحوها كبدائل الحفزات المحارمية نحو الأم خصوصا وأن هناك لمحة سريعة في الحلم الأول عن روح المنافسة الأوديبية من خلال توجيه الحالم قضيبه نحو القضيب الحجري الهائل. وفي المركز العميق لأي تأويل تبزغ الزوجة الجسور كبديل يسقط عليه الظل الأنثوي (الأنيما – anima حسب تعبير كارل غوستاف يونغ). إن “سلام” يخاطب حبيبته بـ “أمي الصغيرة” .. ويشعر في مواقف كثيرة وكأنها أم لا زوجة فقط. إنها امتداد محارمي لكنه معوّق بالسطة والتنمر العارم. إنه “يؤمثلها” بطريقة عصابية يشوبها الكثير من القلق والصراع. هي ذات روح عزوم وإرادة تعرضية وسلوك اقتحامي .. وهو متردد يتعلق بأذيالها. وصلت بها الرعونة وعدم التحسب حد ترك المنشورات السرّية في البيت وعدم إخفائها أو حرقها كما تفعل الحركات السرّية عادة. وفي بادرة غريبة جدا طلبت منه إخفاء خاتم الزواج وأن يدعيا أنهما رفيقان لا زوجان!! ولكن بعد أن لمست النظرات والدوافع الذئبية للمقاتلين الآخرين المحرومين طلبت منه أن يخرج الخاتم وتعلن أنهما زوجان !! لقد حاول آمر القاعدة الاستئثار بها لنفسه لولا أن “سلام” أخبره بأنها زوجته !! تحت غطاء الاستقلالية يمرر اللاشعور أحيانا حفزات نرجسية خطيرة ممزوجة بنوازع استعراضية وميل دفين ومورّط للعب دور “الدون جوان” الأنثى إذا لم نستخدم تعبيرات تحليلنفسية أكثر إحراجا. وفي كثير من الأحوال يمرّر اللاشعور حفزاته المسمومة تحت أغطية دوافع الشعور البيضاء المعقلنة. وقد كان جزءا من معاناته المستمرة من حبيبته هو هذا “التمادي الإنساني” مع الرفاق والجرحى منهم خصوصا بصورة تجعلهم يقعون في “حبها” ويحومون حولها متيمين، وفي بعض الأحوال تُضطر لردعهم بقوة.

وبسبب الموقف المحارمي الماكر ترتبك حياة العاشق حتى في أداء دوره الجنسي. لقد خُصّصت غرفة للرفيقات اللائي التحقن بالثوار. وهنا يطرح “سلام” تساؤلا مريرا ومعبرا عن السبب الذي يجعل قادة المجموعات لا يخصصون غرفا مستقلة للمقاتلين المتزوجين بالرغم من توفرها !! هؤلاء البدو سلوكا يفصلون بين الرجل والمرأة وهم في تنظيمات سياسية تعتنق فكرة التحضر والمساواة. إنهم معصوبون ومرضى نفسيون، والله يستر المرأة حين يقودون شعوبا. وفي غرفة الرفيقات المتزوجات ينسل لمقاتل “الزوج” ليلا ليضاجع زوجته تحت سمع الرفيقات الأخريات وحرقتهن وإحراجهن بعد أن يطفئن الفانوس. كان “سلام” هو الوحيد الذي لم ينسل ليواقع زوجته .. كان يعطل إشباع رغبتها في تمنع طفلي يسوقه العناد في الظاهر:

«في غمرة فيض الشمس الهاطل من حافة القمة، أبحر من جديد في حرقتها وهي تضرب كفا بكف وتحدق نحوه تحديق لبوة تبغي عناق صغارها:

– ما هذا العناد؟ ولمَ؟

– ليس عناداً

– ماذا تسمّيه إذن؟

– ماذا أسمّيه .. ماذا؟ .. ماذا؟ هكذا .. عناداً كما تقولين

استكانت للحظة في صمت مضطرب قبل أن تقول بنبرة منكسرة، وظلال حزن راحت تطوف في بحر عينيها السوداويين النجلاوين، المحملقتين بملامحه الدانية:

– مشتاقة .. مشتاقة – ص 130».

هؤلاء “المربوطين” من الداخل يتمنعون ويترددون ويعجزون أحيانا في الفراش تحت أغطية وذرائع مختلفة، يأتي بعضها شديد المنطقية و”الشاعرية”. لكنهم “يبدعون” في أحلام اليقظة والخيالات الاستمنائية:

«لا يعرف ماذا يقول؟ .. ملجوما بعنفوان الرغبة المتأججة في عناقها والالتفاف بجسدها الساخن طوال الليل .. والذي أصبح عريه شديد الحضور في الخلوات والأحلام، في ليالي القاعة الخانقة المكتظة، في ليالي المفارز المضنية، والمبيت في بيوت الفلاحين والرعاة وجوامع القرى البعيدة. الجسد الساطع في لحظات استعار الشهوة التي تزيدها توهجا العادة السرية المستعيدة مجدها القديم، وكأنه رجع إلى بواكير مراهقته الضاجة – ص 13». طبعا هذا لا يتعارض مع كونهم “نزويين” لأنهم “اندفاعيون” كما قلنا .. كأن يلتصق “سلام” بحبيبته من الخلف وهما بجوار شباك الضريح المذهّب (ص 48) .. أو أن يتملّصا من العائلة ليتجامعا في فندق، فيدس يده – وهما في الطريق إلى الغرفة !! – من كم عباءتها ليلمس جنبها الساخن ونهدها الرامح الصلب القريب (ص 49) .. وهؤلاء “المربوطين” أيضا يتفنن لا شعورهم في تصميم سبل “الهرب” من موضوع الحب للتخفف من آثام المشاعر المحارمية المتصارعة الهائجة .. ولأن اللاشعور – كما قلت سابقا – يصطاد عدة عصافير بحجر واحد، فإن الاختباء في الإرسي في الوقت الذي حقق له الخلاص القلق والتقرب المحارمي والتبصص الملذ وتعذيب الذات المازوخي وغيرها من الأهداف النفسية المبيتة، فإنه قد وفّر له “الهروب” من الأنموذج المعضلة: الزوجة .. والالتحام بها “عن بعد”. وها هو يُقدم على خطوة غريبة مضافة .. فقد ترك زوجته الحبيبة امرأة وحيدة بين مقاتلين توّحشت غرائزهم، ويعرف جيدا، مثلما أخبرته هي أيضا، أنهم يريدون افتراسها واغتصابها عند توفّر الفرصة السانحة. وها هو يقدم لهم هذه الفرصة على طبق من ذهب. وبعد كل قرار يبدأ الشعور بالذنب الذي يترتب عليه عقاب الذات وتجريحها:

«حمل بندقيته وغادر صوب الوقع الذي وصلته المفرزة، طوال ساعة الطريق ظلّ يحلم بشم روحها المتضوّعة من حروف كلماتها، لائما نفسه على لحظة تركها. فالمشهد ما برح يسطع من جديد بقية العمر. أنتزع جسده من ذراعيها انتزاعا في ذلك الفجر الخريفي الماطر، وسحب بوهن رسن بغلته المحملة بالسلاح خائضا في وحل الوهدة المؤدية إلى مرتقى السفح. ظل يتلفت بين الفينة والأخرى في ارتقائه إلى وقفتها وسط جمهرة المقاتلين، امرأة وحيدة تلوح بذراعيها إلى أن تلاشت قليلا..قليلا غاطسة في أبخرة السحب الكثيفة. شعر لحظتها كأنه ودعها إلى الأبد. هل كانت تلك اللحظات فاصلة في طبيعة العلاقة؟ هل غرقها وسط الرجال بالغيوم الترابية الواطئة هو ما أرمد قلبه، وألقاه في باحات قلق سوف يعاشره بقية العمر؟ – ص 149».

بعض المعصوبين لا يستعر شوقهم لموضوعات حبهم إلا إذا رسموا فاصلا مكانيا عنه .. يتألق ويأتلق حين يكون بعيدا أو نائيا أولا .. وهم يهتاجون نحوه وتتأجج اندفاعاتهم إليه عندما “يلوّثوه” ثانيا. تعصف بعلاقتهم الشكوك التي يبثون بذورها السامة في تربة علاقتهم بأنفسهم. هو نفسه وليس غيره رحل وترك زوجته وحيدة وسط عدد كبير من الذئاب المؤجلة انفلاتها لتمزيق فريستها بسبب حضوره كزوج حام لها. والآن غادرها رافعا يده مودّعا بالتحية الرفاقية!! هكذا ببساطة .. وقد ذاقت الأمرّين من سلوكيات رفاقها التحرّشية. كان في المقابل اشتعلت لهفته إليها .. مسعّرة بشكوكه من أن تسقط في أحضان أحدهم. وكان قلقه عارما عندما جاء إلى موقعه رفيق مقرب له شاهد على رقبته آثار خدوش أظفار .. طمأنه هذا مرتبكا ثم ظهر أنه حاول اغتصابها !! لقد ضرب لنا الله العليم أعظم مثل من خلال الخطيئة الأولى على أن الغريزة الجنسية أقوى حتى من أوامر الآلهة .. فتحت عينيه مارس آدم وحواء الجنس ,, والشيوعيون يريدون من مقاتل بسيط في الجبال أن يكون أكثر تحملا ونزاهة من – آدم – عليه السلام!!.

ودائما يكون عند الأحلام بنوعيها: أحلام النوم واستيهامات اليقظة، الخبر النفسي اليقين الذي يكشف المكبوت اللائب الذي انستر في زوايا اللاشعور المظلمة طويلا. فبعد أن يتعرض “سلام” للضربة الكيمياوية الرهيبة ويوشك أن يفقد ذاكرته وبصره، يمر من جديد بحالة استيهام مركبة ومعقدة تمتد على صفحات طويلة من الرواية (من الصفحة 194 الى الصفحة 226) يستعيد فيها مسيرة طويلة من تاريخ حياته الشخصي والعائلي .. خساراته المدمرة وعذاباته في الحياة وفي أقبية الأمن العامة وفي الحروب.

دعونا نقف عند هذا المشهد:
في فلم للمثل المعروف “ميل جبسون” عن حرب فيتنام، يتوقف الجندي المسئول عن الرمي بمدفع الهاون عن الرمي، وحين يسأله الضابط – يقوم بدوره ميل جبسون – عن السبب، يجيبه الجندي بأن المدفع سخن إلى درجة حرارة عالية وأن وضع قنبلة فيه يعني انفجارها عليهم. هنا يقوم الضابط بفك بنطلونه ويبول على المدفع. مشهد طريف .. لكنني شاهدت بأم عينيّ، في شرق البصرة، جنديا خرج من الملجأ ليبول فسقطت قذيفة مدفع بين ساقيه ولم تنفجر .. فبال عليها! وشاهدت أحد أصدقائي المستشهدين في مجنون، يسحل الكلب مصرانه لعدة أمتار .. وفي إحدى المعارك انفجرت دبابة بلغم واحترقت واستشهد من فيها وشاهد سائق دبابة أخرى سائق الدبابة المشتعلة يريد الخروج بلا جدوى، فركض نحوه بالرغم من التحذيرات من تفجّر الدبابة المشتعلة .. قفز فوق الدبابة وسحب السائق المحاصر، فإذا هو نصف إنسان فقط .. عن أي حرب تتحدث هوليود؟ ما شاهده (سلام إبراهيم) هذا الشاهد الشريف الحي والمعذّب، ومعه نحن المقاتلين الأحياء الأموات – أكثر بشاعة ورعبا من كل ما تصوره ماكنة هوليود، أو يستوعبه خيال الإنسان الجامح. يقول سلام واصفا وجها جميلا يطل عليه وهو في دوّامة استيهاماته:

«إنه الجندي “عبد فرج”، الذي لملمت أشلاء جسده الممزقة المقطعة، الملوثة بتراب سهوب شرق البصرة والدماء، ووضعتها جوار بقاياه الملفوفة في بطانية نقعت بصبيب دمه المتدفق، رغم اندماله بجدار الأبدية. جمّعتها باضطراب واضعا كل قطعة بمكانها، وكأنني أريد وصلها من جديد، الكف الصغيرة، الساعدين، وقدم واحدة فقط. ظللت أدور في أنحاء موقع البطرية بحثا عن القدم الضائعة دون جدوى. ترن ضحكته في رأسي. فبالأمس عدنا من الإجازة إلى الجبهة بسيارة تموين الكتيبة القادمة من البصرة. كان يحدثني مرحا عن قدر الإنسان ضاربا مثلا في نفسه:

-الأعمار بيد الله يا أخي. صار لي بالجبهة من أول ما بدت الحرب. يعني قبل خمس سنين .. تدري كم جندي مات بصفي؟ صرت أضحك من واحد يخاف من الموت .. فلا تهتم .. ذبها على الساطور. لم نعثر على القدم الأخرى إلا في اليوم التالي، فدفناها خلف الساتر الترابي وسط نحيب الجنود – ص 209 و210».

.. هكذا هي هوليود العراق .. وتدور السنون .. ويأتي ضيم الاحتلال القذر، ويطلع علينا مصطلح لم تشهده البشرية في تاريخها المديد .. هو مصطلح عراقي بامتياز .. هذا المصطلح هو “طشت الخردة” حيث أخبرني أحد الأطباء أنه شاهد “طشتا” في مستشفى الحلة لجسد آدمي مقطّع فيه ثلاثة أقدام !!.

دعونا نعود إلى فذلكات التحليل النفسي:
وقد قلت أن عند الحلم الخبر اليقين بعد أن تحدّثت عن ميول العاشق المعصوب إلى “تلويث” و“إشباه” موضوع حبّه فتتأجج حيرته فيه، ويزداد تعلقا به. لقد مرّ أمام عيني “سلام”، وهو يسجد على أرض بيت العمّة، شريط طويل من الذكريات المرّة والمريرة، كان أغلبها مرعبا عن خسارات لا تعوّض .. شهداء ومفقودون وجثث وخراب آمال وضياع مستقبل مرة واحدة وإلى الأبد .. وفي ختام لعبة الإستيهام الطويلة الشائكة، تدخل عليه امرأة في الظلام بسروالها الزيتوني الفضفاض .. لا يستطيع القطع بأنها زوجته بالرغم من أنها تشبهها .. تتعرى أمامه .. فيتأكد أنها هي زوجته الحبيبة .. فما الذي يشغل ختام رحلة هذا الإستيهام المرعب من جديد؟ إنه قلق “التلويث” إذا جاز التعبير، ممزوجا بالتبصصية وبمخاوف الإنهجار ومشاعر الإنخصاء:

«في تلك اللحظة انفتح بابي المسدود، ودخل مقاتل يافع وضع بندقيته في الزاوية جوار الباب، واستدار نحوها [= نحو زوجته؛ زوجة سلام]. أخذها بين ذراعيه من الخلف، فافترت بين ذراعيه لتواجهه، وتعانقه عناقا حميما جعلني أنتفض راميا بجسدي الذي تجنن إلى الأسفل صارخا صراخ مذبوح، هابطا نحو النافذة التي راحت تنأى .. وتنأى إلى أن انطفأت في يّم الظلام، وضيّعتني ذرّةً تدور في السديم العظيم – ص 226». يبدو أن “الشريك الثالث”، الفعلي أو المُتخيّل، ضروري لإدامة اشتعال رغبة المحب المعصوب وتأجيجها كما اكتشف ذلك معلم فيينا.

وتشكل التداعيات الذاكراتية التي تنبثق في ذاكرة المحب متصلة بحالة الالتحام بموضوع الحب الراهن في صورة تقترب من التداعي الشرطي – conditioned، دليلا مضافا على هذا النزوع المحارمي المكبوت واللائب وتقييداته النفسية. تلك التداعيات المحارمية تنهض من تحت رماد النسيان الكاذب مرتبطة بحضور المحبوب. لقد ذهب إلى غرفة الرفيقات ليلا – وحسب الاتفاق المسبق – ليواقع زوجته مرصودا بعشرة آذان تلتقط أدنى حركة عند التحامه بها .. ومراقبا بعشرة عيون تجوس ملتهبة جائعة في الظلمة. كانت زوجته تقف متلهفة نافدة الصب، عاتبته على تأخره. وعندما قادته عبر باب الغرفة داهمته رائحة أليفة نفاذة «رائحة انبثقت من سحيق أيام غابرة من سني طفولته البعيدة، رائحة منبعثة من مواسم تلك الغرفة الوحيدة التي جمعته أخا لسبع أخوات جميلات وهو يندس معهن في الفراش المشترك .. جوار سرير أمه وأبيه الخشبي الشفيفة التي تنسدل من جوانبها حاجبة ليل الأبوين؛ رائحة ستنعجن بدمه، وهو يلتصق بلدانة أجساد أخواته المراهقات اللواتي كنّ في غمرة النوم يتحسسن جسده بأصابعهن الناعمة الغافية .. ظل يستطيب تلك الروائح، ويختلس لحظات الخلوة دافنا وجهه في تلافيف ثيابهن المبعثرة في خزانة الملابس المشتركة. يعبّ من أريجهن السرّي المخدّر – ص 138 و139».

عودة إلى الأحلام الكابوسية المفتاح:
والآن .. وبعد هذه المقدمات التحليلية الضرورية نستطيع العودة إلى السير في طريق تحليل الحلم .. السير في الطريق الملوكي الموصل إلى مجاهل اللاشعور وظلماته. إن الحالم كما يثبت من الأحلام الثلاثة، يبدو غير متصالح مع جزءه الأنثوي. وأغلب الرجال لا يستطيعون الإقرار بهذا الجزء لأنه يخدش رجولتهم. لكن هذه الفرضية شديدة الخطورة، لأن الرجل ذكاء وعقلا، هو ثمرة جافة دون جزء مؤنث مرتّب ودون طاقة جزئه المؤنث الخلاقة. «وما الجزء المؤنث من شخصية الرجل؟ إنه الكمون الداخلي. وبوصف هذا الجزء موجودا منذ الطفولة، فكل شيء منوط بما يصبح عليه في أثناء الطريق. والجزء المؤنث من الرجل سيضم شبكة الإحساسات. إنه رادار الرجل. إن إحساس الرجل بالحياة، سلبا أو إيجابا، يتم بواسطة جزئه المؤنث. وهو مع ذلك لا يشعر على الغالب بهذا الموقف الأخير»(7)

فلنر ما يحصل في شخصية رجل ذي جزء مؤنث سلبي. «إذا لاحظنا هذا الرجل شاهدنا أن اعتدال مزاجه منسي منذ زمن طويل. فـ “مرجله” الداخلي في حالة من الفوضى. ونرى أيضا أن هذا الرجل ذو نزوة، شبيه بعض الشبه بطفل سريع الغضب. ويغطي كل شيء لديه سلوك متصلب يتصف مظهره الرجولي بمغالاة أنه يخدعه ويخدع الآخرين. إنه سريع التهيّج، فظ وحقود، ولكن الدموع تعلو عينيه لأتفه الأمور. إنه مستبد عن طيب خاطر تجاه امرأته وأولاده، ولكنه يصبح بسرعة ذا عذوبة تتصف بأنها موضع الظن. إنه يبهر ولكنه غير فتّان. وهو المتردّد بالمعنى الأسوأ للكلمة، في ظل مظاهر من الرجولة الزائفة هنا أيضا. إنه العدو اللدود للنساء مادام يخافهن، ولكنه “يبهرهن” بتقديم آيات الاحترام والتبجيل وضروب من المجاملات الأخرى».(8)

هذه الصورة العملية لشخصية الفرد الذي لا يتصالح مع ظله الأنثوي اللاشعوري. والأحلام الثلاثة تعبر عن الوضع المأساوي لهذا الحالم. فسيلاحظ القارئ كآبة النفس، الكآبة الباردة .. فحياة الحالم “متحجرة” .. صخرية .. كلّها متاهات .. متاهات صخرية .. متاهات مدينة .. متاهات سلالم .. الحيرة العاصفة تمحق وجوده من كل جانب .. يقاد كطفل غرّ حائر وتائه من قبل يد أنثى تسلمه لأنثى أخرى .. وفي كل مرّة تحضر الأم بشخصها المباشر، أو من خلال بدائلها ممثلة بالعمّة أو الجارة “نادية” أو الزوجة، فالأم هي “العجّانة” الأولى لهذا الجزء المؤنث. إنها المرأة الأولى التي تلوّن القطب الملوّن للصبي. فالأم هي الصورة الأنثوية بالتأكيد. وموقف الأم العميق إزاء الحياة سيكون موضع التقاط الطفل. وسيكون الجزء المؤنث، بالمقابل، متأثرا بموقف الصبي إزاء أمه تأثرا قويا. وأم الحالم التي امتنعت عن مواقعة زوجها/ أبيه، تتكاثر من خلال الأجساد العارية التي تلتحم على الدكة .. وهي متناقضة في حياتها العملية .. لقد استدرجته ثم خذلته .. إنها “صخرة” البيت .. آلة للتفريخ الميكانيكي بلا عواطف .. لقد وصلها الحالم بعد رحلة طويلة وشائكة ومرهقة في المتاهات الصخرية والمدينية .. ولكن محاولاته كلها باءت بالفشل .. محاولة تنتهي بأن يستمني على ذاته – أنثويا – .. وأخرى يهوي فيها من الطيران إلى أرض الرخام الصلبة .. وهكذا..

صحيح أنه يبحث عن منفذ وخلاص في الأحلام الثلاثة .. الحالم يتسلق .. و“يصعد” ويريد أن يمضي إلى ما هو أكثر ارتفاعا (جبل، دكة، تلة، سلم .. إلخ) صوب أي شيء؟ إنه يبحث عن السمو والتغيّر. وينجز صعودا عموديا .. أي صعودا ذكريا وقضيبيا ومغامرا. ويبحث عن تحقيق ذاته بوصفه رجلا، وذلك بالرغم من المخاطر المهولة (المنحدرات المسننة .. الشرطة القامعة .. السقوط .. الضياع .. التحجّر والتحول إلى رخام .. الحرق حيا في نار جهنم مستبقا يوم الحساب… إلخ )..

فمن كان هذا الحالم؟

كان في الواقع ضحية أم “ملتهمة” .. ميدوزا بعجزها .. وطاغية بإذعانها .. وغازية بانكسارها .. وخانقة باختناقها .. وكل ذلك تم إسقاطه في الأحلام الثلاثة على الحجر والمتاهات .. كان يريد أن يتحرر وهو يتسلق صخورا وجبالا وسلالم، ويقطع متاهات مدوخة، ولكن لا جدوى .. فخوفه وحاصره هما الأكثر قوة .. والجزء المؤنث من شخصيته مغمور بشخصية الأم التي جاءت بديلتها الطوفانية عاطفيا والنمرة حضورا متمثلة بالزوجة .. والحياة بالنسبة إليه لم تكن غير ضرب من التهديد. وخوفه من الآخرين كان هائلا، فأسقط على هذا النحو أمّه على الغير الذي ينقاد إليه كما ينقاد طفل مذنب..

وليس من الغريب أن ينبري الوعي / الشعور لـ “عقلنة” مظاهر الانكسار والاندحار والتهافت على أساس أنها “طيبة مفرطة”، و “ثقة عمياء”، و “براءة نضالية” .. كانت الزوجة المقاتلة تهمس في إذن زوجها المقاتل عن حقارة رفاقهم وتوحشهم الجنسي فلا يجد إلا ردّ فعله المستكين تجاه أمّه: « – أعطيني أذنك

همست فهبط صوتها الخافت اللاهث في أحشائه، خمرة تفقد العقل والقصة:

-إش بيهم؟

أمعن في استغبائه وكأنه في حضرة أمّه الحنون التي كانت وماتت وهي تعتقد بأنه طيّب حدّ السذاجة، كان يحس أن ذلك الشعور يسعدها، لحظة تصنّعه البلادة وعدم الاهتمام بما يحيط به وسط العائلة الغارقة بمشاكلها العويصة – ص 124». .. ولكن أنموذج هذا السلوك ومثاله تجده في تلك اللحظة الطفلية التي تعقب مأزق احتكاكه الليلي بأجساد أخواته الحميمة وهو يتأرجح على حافة البلوغ، فيستيقظ في الصبيحة غير قادر على مغادرة فراشه رغم إلحاح أمّه .. يتشبث بالغطاء حتى يرتخي وسطه المتوتر (ص 140).

التقسيم والعناوين:
يمكن أن نعدّ القصة القصيرة فنّاً، ولكن الرواية “علم” إذا جاز الوصف، فالروائي يجب أن يتحلى بصبر عالم في مخبره (ألهذا لا يتحمل الكاتب العراقي الرواية – كتاب القصة القصيرة أضعاف الروائيين – هو الذي لا يتحمل الصبر والمطاولة؟!) .. عليه أن يخطط لعمله بصورة كلّية، ويضع تصوّرا لأدق التفاصيل – الرواية فن التفاصيل والجزئيات – .. عليه أن يحدد وظيفة ودور ودلالة أي مكوّن من مكوناتها. ويبدو أن (سلام إبراهيم) قد خطط لكل هذه النواحي بدرجة معقولة كفلت له تقديم نص روائي متماسك ومتفرّد. لقد قسم الكاتب عمله إلى قسمين: الأول أسماه: في برزخ الإرسي، أما الثاني فهو “في برزخ الجبل”.

البرزخ في كلام العرب هو الحاجز بين الشيئيين، والمانع من اختلاطهما وامتزاجهما. قال تعالى ( وجعل بينهما برزخا) أي حاجزا، والبرزخ في الشريعة؛ الدار التي تعقب الموت إلى البعث، فكل من مات من مؤمن أو كافر دخل في البرزخ، وتتكون دار البرزخ من عذاب القبر ونعيمه وعرض أرواح المؤمنين على الجنة، وأرواح الكافرين على النار. وقال ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) وبرزخ (سلام إبراهيم) هو برزخ الخراب والعذاب سواء أكان في علية الإرسي أم على قمم الجبال .. والفارق عن المفهوم الديني الشائع هو أن مكوث سلام في قبره/ برزخه قد طال .. طال كثيرا فأخذ حياته بكاملها .. ثم أنه لم “يُعرض” لتنتهي محنته ويخلص .. استغرق “حسابه” عمرا كاملا. وإذا كان البرزخ لغة واستعمالا قرآنيا يعني ما يحجز بين شيئين ويمنع امتزاجهما، كما يفصل عالم القبر بين موت الإنسان وبعثه يوم القيامة، فإن برزخ “سلام” كان يفصله عن الحياة .. عن الناس .. عمّن يحب .. عن الأمل .. لا هو في عالم الأحياء ولا هو في عالم الأموات .. إنه “في البرزخ” يتقلب على جمر العذاب .. في برزخ الإرسي حُوسِبَ وأدُخِلَ الجحيم وشوي – بعد أن كان رخاما – روحا وجسدا وآمالا على ألسنة لهيب الخيبة والإنخذال والإنهجار والخسران. ولكنها كانت جزءا من أخيلة واستيهامات قبر الإرسي المفزعة التي عاد منها إلى جحيم أكثر بشاعة وهولا. ومن في البرزخ يُحاسب لينتهي به الأمر إما في الجنة وإما في النار .. هكذا ببساطة .. أما “سلام” فقد عاش عمره وهو ينتظر الحساب .. وحساب على ماذا ومن؟ ومتى .. لقد كان يُعاقب .. نعم يُعاقب من دون أدنى ذنب .. عوقب على أفكاره وعلى انتمائه وعلى إخلاصه لرفاقه وحبّه لهم وثقته بهم. ولد “سلام” ليخسر وليُعذب .. والبرزخ عالم آخر كما بين القرآن الكريم بين الموت والحياة .. مرحلة انتقالية .. لكن في حكاية (سلام إبراهيم) .. حكاية جيلنا .. ظهر أن العراق كله .. وطننا بأكمله ما هو إلا برزخ عظيم تشوى فيه الأرواح بلا نتيجة .. وبلا سبب .. وتستغيث بلا رجاء: (ولـﭾ يمّه الحـﮕيلي) .. هذا نداء العراقي الأزلي والأبدي منذ فجر خليقته وحتى قيام ساعته التي لن تقوم ابدا..

ثم نأتي إلى عناوين الأقسام الفرعية، لنمسك أيضا بقصديتها العالية، والمحتويات الدلالية التي تتناغم والزمان والمكان والمناخ النفسي الذي ألقي فيه بطل الرواية وواقعه الانفعالي. فقد تكون القسم الأول من الرواية: “في برزخ الإرسي” من تسعة فصول حملت العناوين التالية: المخبأ، أشواق، العمّة الجميلة، فوهة الخلاص، نافذة المساء، أخيلة الرغبة، رؤيا المدينة، رؤيا الحجر، وصرخة. وكلها عناوين ترتبط بمحدودية المكان وعزلته ومحتوياته (بشرا ومواد) واستجابات المعزول الاستيهامية بفعل العزلة ولإشباع حرماناته.

أما القسم الثاني من الرواية الذي أسماه الكاتب “في برزخ الجبل” فقد أشتمل على خمسة فصول خصص لها العناوين التالية: ذلّ العاشق، التسلل إلى الفردوس ليلا، أحقاد المحبة، جحيم في غروب رائق، وساحة الحشر. وكلّها تنطبق عليها الاستنتاجات السابقة آخذين بالاعتبار دخول الزوجة كموضوع للحب والتمزق، وتحوّل المكان من الإرسي إلى الجبل، وضربة الدمار الأخيرة. وبـ “ساعة الحشر” نعود إلى اللبّ الأسود لموضوعة البرزخ العراقي، لتنغلق دائرة العذاب التاريخية علينا ونحن في برزخنا مرة أخرى وإلى الأبد.

أنموذجان محيّران:
يحضرني هنا أنموذجان محيّران يقفزان إلى ذاكرتي وأنا ألاحق تفصيلات محنة “سلام”. الأول هو أنموذج واقعي يتمثل في صديق مناضل من حزب إسلامي عراقي معارض .. رفض مغادرة العراق على الإطلاق .. ركب زورقا واقترب من الشاطئ الإيراني المقابل للخلاص في عام 1991 لكنه طلب من قائد الزورق العودة إلى البصرة!!. هُدم بيته في عام 1991 على أيدي القوات العراقية .. سُجن في معتقل “الرضوانية” الرهيب وأفلت من الإعدام بقدرة الله وحده .. والمصيبة أنه كان آخر جندي عراقي ينسحب من الكويت في عام 1991 .. وعندما سألته عن السبب وهو معارض للسلطة البعثية وكاره لها، أجاب: في عائلتنا يعدون الانسحاب عاراً!!

أما الأنموذج الثاني فهو أنموذج سردي متخيّل في رواية من أدب الحرب الكبير في أوروبا ويتمثل في بطل رواية “كل شيء هادئ” في الميدان الغربي” لريمارك الروائي الألماني الذي اختص في أدب الحرب الذي يدعو بعض الكتاب العراقيين – وقسم منهم جنود فارون – إلى حرقه. هذا البطل الحقيقي ذاق أبشع العذابات .. الموت .. الحرمان .. الانفصال عن أمه المريضة وأخته .. قتل رفاقه الستة أو بُترت أطرافهم واحدا بعد الآخر .. سيقوا إلى الخدمة العسكرية وهم في ذروة مراهقتهم بفعل غسيل أدمغتهم من قبل مدرسهم الذي ضحكوا عليه لاحقا عندما سيق بدوره إلى الجيش .. تعرضوا لضربة كيمياوية مدمّرة بال على نفسه بسببها جندي مستجد معهم .. لم تكن لدى الجيوش الغربية إجازات دورية وكان الجندي لا يرى أهله إلا بعد انتهاء الحرب .. عاد إلى مدينته بتكليف رسمي لأيام وجيزة لم يستطع فيها التآلف حتى مع كتبه ومحتويات غرفته التي كانت أليفة فصارت غريبة ومقززة .. عاد ليجد عائلته وأهالي مدينته يعيشون الذل والهوان ويعانون المجاعة ويقفون طابورا للحصول على “عظم”!! ومع ذلك كان مدرّسوه يعتقدون أنه بطل وأن النصر قريب (ويردس حيل الما شايفها)، في حين يعرف هو أن الهزيمة مؤكدة .. كانت كل نقاشاتهم الشخصية، هو ورفاقه، تنصب على إدانة الحرب التي “تحصد الشباب وتجعل الشيوخ يثرثرون” .. رفضوا الحرب وجعلوا العريف المستفحل الذي دمرهم في التدريب “يخرى” ويبول على نفسه عندما واجه الموت فعلا لا استعراضا .. لكنهم قاتلوا جميعا .. وقتلوا .. بعد أن أدّوا واجبهم .. فلماذا؟ .. أنا شخصيا محتار .. وأنا أؤيد تساؤلات “سلام” الصاعقة كلها لأنه يمثل جيلنا .. جيل التمزقات والضياع والخراب وأقبية الأمن العامة والبراءات (التي استعيدت بعد الاحتلال) وكيبلات الحارثية(9) والرضوانية(10)وجلاليق التسفيرات(11) وبراغيثها برغم أننا دافعنا عن وطننا .. نحن محطّمون أيها السادة .. ويمثلنا بطل “سلام”، أو “سلام” نفسه .. فهل سترمّمون وجودنا؟

لكن هيهات .. فقد خُتم على أبواب أرواحنا بشمع الخراب الأسود .. “تحجّرنا” .. ونبذنا بلا رحمة في “إرسي” الخراب الأبدي.

تحية لسلام إبراهيم ممثل جيلنا، جيل الخراب العراقي، سلام الذي نطق بالشهادتين: شهادة الخراب، و … شهادة إرسي العذاب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد عراقي صدر له الكثير من الكتب في النقد

هوامش:
(1) الإرسي – سلام إبراهيم – رواية – دار الدار للنشر والتوزيع – القاهرة – الطبعة الأولى – 2008.
(2) و(3) و(4) لمحات من تاريخ العراق الحديث ـ علي الوردي – الجزء السادس
(5) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان – د. عبد الوهاب المسيري – دار الفكر – الطبعة الرابعة – 2006.
(6) المعجم الموسوعي في علم النفس – نوربير سلامي بمشاركة مئة وثلاثة وثلاثين اختصاصيا – ترجمة: وجيه أسعد – ثمانية أجزاء – دمشق – وزارة الثقافة – 2001 م.
(7) و(8) تفسير الأحلام – بيير داكو – ترجمة وجيه اسعد – دار البشائر – دمشق – الطبعة الثانية – 1992
(9) و (10) و (11) أسماء معتقلات وسجون مشهورة زمن الدكتاتور

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *