من القارِّ في علم النصّ الحديث أنَّ العنوانَ ليس مُجرَّد علامة سيمائية دالَّة عليه ، أو رمز يُوضَع لتعريف ماهية ، أو إشارة فارقة ، إنَّما هو إذْ يُؤدّي تلك المهمات كلّها ، وفي الوقت ذاته يأتي مفتاحاً أولياً لولوج النصّ الكليّ الذي يكون فيه العنون اللبنة الأولى في تلك المعمارية،وعلى هذا؛ فالعنوان يُمهّد للقارىء طريق العبور؛ لأنه العتبة الاستهلالية لدخول بوابة النص، ومما يلفت الانتباه في ديواني الشاعرالعراقي : خالد الحلي أنه يُمهّد للقارىء بعتبتي عنوانين ينزاحان في دلالاتهما، وبذلك يُوجه القارىء إلى ضرورة أن يُبوصِلَ سمت رؤياه باتجاه مختلف قد يكون سهلاً واضحاً في معجمه اللغوي، إنما هو في سياقه التركيبي يكتنز بكثير من جماليات اللغة والصور الفارقة ، ومن هذه الزاوية تتبدّى جماليَّة الشعريَّة في نصّ الشاعر الحلي، وفتنة الغواية الفنيَّة في صياغته العناوين، إنَّها فنيةُ الَّلعب الجماليّ بالكلمات التي تُغوي القارىء بلذَّة السهولة وممانعة الاقتراب إلا من طيف الغواية واستلذاذ الشغف بالمتعة الفكرية .
العنوان الأول : ( لا أحد يعرف اسمي ) تركيب لغوي أُقيمَ على النفي، وهو نفي وجود يمتح من معين الفراغ الذي يكتنف الشاعر بنفي جنس معرفته من الآخر، وهو تعبير عن حالة العزلة والغربة النفسية أو الجسدية الواقعية أو المتخيلة في الوعي الشعري واللاوعي الحسي لحظة الكتابة ، وقد جاء الفعل يعرف مضافاُ إلى خصوصية الذات ليفيد انتفاء المعلوم، وتأكيد النفي لحاصل الذي قدم له بالاسم لتأكيد ثبات التوصيف واستمرار الحالة ، إذ من المعروف أنَّ الاسم دلالة على الشخص الذي يتميز به من الآخرين ، وانتفاء المعرفة للاسم يعني أن الشخص مجرد رقم غير متمايز عمن سواه ، وهو ما يعني في مآله الأخير نفي وجوده البشري ، ولو بقي متمتعاً بمقومات الحياة فكم حي ميت وكم من ميت بقي حياً عبر العصور ، وهو ما أخال الشاعر يعنيه في معاناة الاغتراب التي ربما كانت مفروضة عليه فجاءت لتقتل فيه تلك الشخصية التي أنكرت بجهل الآخرين اسم الشاعر .
بينما يجد القارىء في عنوان مجموعته الثانية : (مدن غائمة) تركيباً وصفياً قام على بنية التنكير, وهو ما يعني المطلق غير المحدد؛ فالمدن غير محددة بمكان ، وهو ما يمنح هذه المدن دلالة اتساع وشمول؛ لتكون المقصودة بهذا التوصيف الذي جاء بانزياح دلالي غير مُتوقَّع ، ولا من مصاحبات اللغة المعهودة للمدن التي يمكن أن توصف بالصناعية أو التجارية أو أية صفة مقاربة لطبيعتها أما أن يقتنص الشاعر صفة حية من الطبيعة غير متوقعة؛ فلذلك إشارة حنكة لغوية ومهارة افتنن الشاعر في التقاطها بذكاء؛ لتكون تلك الصفة ذات أبعاد غير محددة في ضيق فكرة، أو مُؤطَّرة ضمن نسق إيديولوجيا بذاتها .
د. وليد العرفي: العنوان وانزياح الدلالة في مجموعتي الشاعر “خالد الحلي”
تعليقات الفيسبوك