رواية “الإرسي” لسلام إبراهيم تأملات في فضاء الخطاب السردي
د.سرحان چفات (ملفات/115)

إشارة:
مثل قلّة لامعة من الروائيين العالميين كإرنست همنغواي وإريك ريمارك وغيرهما خطّ الروائي العراقي “سلام ابراهيم” نصوصه بدم التجربة الذاتية ولهيبها. وفي اتفاق مع إشارة خطيرة للباحث الأناسي العراقي البارع د. علاء جواد كاظم الذي اعتبر روايات وقصص سلام إبراهيم من مصادر الدراسة الأنثروبولوجية الناجعة في العراق نرى أن نصوص سلام يمكن أن تكون مفاتيح لدراسة الشخصية الوطنية مثلما استُخدمت نصوص ياسانوري كاواباتا لدراسة الشخصية اليابانية ونجيب محفوظ لدراسة الشخصية المصرية مثلا. الفن السردي لسلام ابراهيم هو من عيون السرد العربي الذي يجب الاحتفاء به من خلال الدراسة الأكاديمية والنقدية العميقة. تحية للروائي المبدع سلام ابراهيم.
أسرة موقع الناقد العراقي

إذا كان الفضاء من أظهر وسائل السردية التي يدير الروائيون خطابهم السردي بها ـ بوصفها مكونا خطابياً ـ وعليها ـ بوصفها مكونا موضوعياً ــ فإنَّ النظر النقدي لايمكن أن يخطى المزية المكانية لهذا الخطاب، بآية عنوان الرواية(الإرسي) مروراً بتفاصيلها التي مثلت مغامرة في المكان انتهت باستفهام مكاني ” هل سنبلغ قاعاً ما ؟”1 ،زيادة على ما فلسفة الروائي من عناية بالمكان فحواها إضاءة ” محنة وجوده في المكان”2
ولعلَّ أول الملامح التي يمكن أن تسجل لدينا عن الأداء المكاني في هذا النص هي إن العناية بالشخصية الفاعلة في المكان أكثر من العناية بالمكان ، وهذا ما يفسر غياب وصف المكان ، أو وجازة هذا الوصف ، ويبدو أن مما أدى ـ أيضا إلى انحسار الوصف المكاني إن الرواية تدور في أماكن مكتنزة في ذاكرة المتلقي ، ومن ثم لم يأنس الروائي رغبته في تقديم ما هو معروف. أما ثاني الملامح فتكمن في إن هذه الرواية ، وهي تقدم مواصفات سالبة عن المكان المضاد ، تحاول أن تبين أثر هذه المواصفات في الشخصية على نحو قوله:” اكتشفت ان العديد من طباعه قد تغيرت . أكسبه طول المكوث في الحلكة والصمت طباع حجر الجدار المنخور. سكون وعطن.. خواء وتأكل” 3 او في قوله:” أيكون ذلك الرعب المادي المحسوس في الكتلتين البشريتين المجاورتين لموقعه في زنزانة ضيقة في الأمن العام ، من زرع بنفسه الجبن ورسخه إلى هذا الحد المخزي”4
ولقد انعكست ضدية المكان على فلسفة النظر للكون بوصفه مكاناً ، من هنا نجد بطل هذه الرواية ” يحدق شارداً، يفكر في الكون اللامتناهي ، بأقماره وشموسه ونجومه السابحة في يم الظلام الأبدي هذا الوجود الغامض،” أليس الظلام هو الأصل، وما النور إلا لطخة منسية في غوره العظيم”؟5 أن ظلامية المكان في مواضع كثيرة من الرواية مثلث معادلا موضوعيا لظلامية الرؤية للعالم، أو أنها مثلث مرجعية لهذه الرؤية.
أما الملمح الثالث من ملامح فضاء هذا النص فيتمثل في المكان الأليف ، وهو مكان يمتاز بقلة المساحة التي يحتلها في هذه الرواية إذا ما قيست بالمساحة التي يحتلها المكان المضاد ، وهذا أمر معهود في الخطاب الروائي الذي يسعى عادة ــ إلى إثارة المشكلات التي خارج النص ، أو بعبارة أخرى استفزاز ممكنات الضدية في المكان ، وتحويلها إلى نصوص تضيء تلك المشكلات او الممكنات
إن اتساع مساحة الضدية في رواية”الإرسي” جعل المكان الأليف يبدو ضيقاً وبمواصفات قد لاتتحقق فيها معاني الألفة إلا حينما تسقط الذات رؤاها على ذلك المكان ، الذي سيصبح صورة من الذات الرواية ، وليس صورة للمكان نفسه كما في قوله:” وفي الغرفة المعتمة القذرة نمتلك الدنيا كلها بسمائها وأرضها . نغور في خدرٍ سنتذوق طعمه إلى أخر العمر ” 6 ويمثل المكان المهجور والمنسي واحداً من تجليات ألفة المكان ، وهو مكان تصطنعه الذات حينما يضيق بها عالمها الذي يتحول إلى فضاء مضاد، لذا تحاول الذات الرواية الانتقال بالمكان من الوجود الواقعي إلى وجود (طوباوي ) كما في :” صرت مثل روحي يا حبيبتي…..روح غير مرئية غادرت الجسد الفاني، روح هائمة تدور في العتمات والأمكنة ، روح تتحاشى التجسد للأحياء كي لا تثير فزعهم ..تتأملهم في الزوايا والأركان المنسية”7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين الأقواس مقتطفات من الرواية

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *