1_في باطن الخطاب الشعري :
نص في مستوى البناء واللفظ واللغة يعلو إلى مراتب التفرد
فيه من القوة و”الانضباط ” الشعري ما يجعله منسجما مع كل مكوناته
الشعرية
ولاسيما القافية..فالميم حرف شفوي ،مجهور…فيه شحنة تعبيرية واضحة.
وهذا ليس بالغريب على الشاعر الذي نظمه… و نسج أركانه ركنا ركنا
فتراه يتحول من السؤال الاشكالي في بداية النص وصولا إلى إنتاج الحكمة بين طياته وفي آخره
وكل هذا يدخل في باب هندسة القصيدة عند الشاعر ضياء تريكو
فهو يضع تخطيطا هندسيا “معماريا”
ثم يشكل النص وفق شروطه وقواعده. .
_في فاتحة الخطاب :تساؤل
أغض الطرف عن سوء إلاما؟
وفرط السوء يستجدي اللئام
_الوسط :الحكمة(نصح وارشاد )
فلا تأمل من الأرذال يوما
بناة أو غطارفة كراما
_خاتمة: الحكمة ( نصح وارشاد)
ألا فاعمل بما يحييك دوما
فليس المجد تبلغه كلاما
بروز الإنشاء الطلبي = النهي ( لا تأمل ) + الأمر (اعمل)
وهو ما جعل الخطاب ينحو نحو الخطاب الوعظي/الحكمي
والحكمة لا تتجلى إلا بعد تجربة عميقة في الحياة
فتصبح قاعدة صالحة لكل زمان ومكان ..
والحكمة “تعبير دقيق عن تجربة من التجارب الإنسانية. .تصور وقعها على النفس فتدفع إلى العظة والاعتبار..
وفي الحكمة جانب من جوانب العبقرية “يتجلى في قدرة الحكيم على جمع أطراف التجربة جمعا دقيق المعالم فتظهر كقضية فكرية..
ومن أبرز الشعراء الذين عرفوا بالحكمة في الجاهلية نذكر زهير بن أبي سلمى …ثم في القرن الرابع للهجرة المتنبي الذي أسند له لقب الشاعر الحكيم من طرف النقاد ..
وقد قال هو نفسه حينما سئل عن نفسه وعن أبي تمام والبحتري
“أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري”
فالعملية الشعرية هي عملية مدروسة جداا..وعلمية ودقيقة لاسيما أنها تنتج بعلوم اللغة والبديع
وغيرها من العلوم
لكن هذا لا يسقطها (العملية الشعرية) في التكلف والتصنع الذي يقتل روح النص الإبداعي العمودي خاصة ..
وهذه قدرة فائقة لا تتاح لكثير من الشعراء خاصة في نظم القريض
فأحيانا تقرأ قصيدة لشاعر أبدع في صناعتها وتشكيلها وايقاعها لكن تولد ميتة..!!
بلا روح…بلا شجن..بلا عذوبة..
تفتقر لتلك الشحنة النفسية والطاقة الشعورية الخلاقة..
فلا تبلغ المتلقي …ويهجرها الناقد الحصيف..
أما على مستوى الدلالات الكامنة وراء هذا الخطاب الشعري فهي دلالات اجتماعية ترصد العلاقات بين الأفراد…
الصراعات..الأحقاد. .النفاق ..التزلف. .البغضاء والمنكر..
إلى غير ذلك من هذا اليومي المقيت !!
وإجابة على تلك الأسئلة التي أفتتح بها الخطاب الشعري أرى أن أعرض
هذه الأبيات الشعرية من مدونة الشاعر تريكو صكر
وهو ما يثبت التناغم الكبير بين الشاعرين،الذي أسميه تناغما روحيا..عجيبا ومدهشا. .
واللافت للنظر أن الجواب أنتج قبل السؤال باعتبار أن تجربة الوالد هي الأسبق. .وكأنه يعلم أن نجله سيطرح مثل هذه الأسئلة التي تصور واقعا رديئا وقيما متآكلة في مجتمع مأزوم. .
ألسنا نعيش أزمة قيم بامتياز اليوم…بعد أن كنا رمزا للقيم الاخلاقية الإنسانية والفكرية والفلسفية ؟؟؟
وتصاغ الأبيات الشعرية التي حملت البديل صياغة توجيهية تقوم على النصح والإرشاد ..فيها من الحكم الكثير. ..
فنقدم خطابا اصلاحيا بديلا
ولنا أن نستعرض المثال 1
من قصيدة حملت صدر البيت الأول عنوانا لها وهي:
كن قانعا وتجنب الأوغادا #
واصحب ثقاة سجدا زهادا
وتجنب اللؤماء إن أبدوا قلى #
ليؤججوا بين الورى الأحقادا
من رام عيشا طيبا تبع الهدى #
ورعى الكرام وصاحب الأجوادا
إن الأباة إذا دهتهم نكبة #
ثبتوا على إيمانهم أطوادا
والمثال 2 من قصيدة حملت عنوان ” تفاؤل” وهي التالي :
وما همني أن جاءني متربص #
بشاشته بشر على الوجه طافح
ولا راعني أن جاءني متجهم #
سماجته وجه من السخط كالح
عجبت لمن يبكي وليس به جوى #
ويسلو لطيم فوق مهده نائح
كأنه تمساح يشم فريسة #
فيذرف دمعا وهو في اليم سابح
ورب جبان لاذ بالطود هاربا #
إذا أمه *كلب بأرضه نابح
___________
*إذا أمه :(بفتح الهمزة و تضعيف اللام وفتحها)
____________
ولو دققنا النظر سنرصد ذاك التناغم الذي أشرنا إليه بين المدونتين. .
وهو تناغم يستدعي التوقف والتأمل والاستقراء لبسطه وعرضه وبيانه
وهو ما لا يتسع له المقام
لكن يمكن لكل قارئ أن يستفيد من النصيحة ويتقلدها في واقع بات غريبا …!!
وهنا يتجلى دور الخطاب الشعري
الهادف..فهو ليس مجرد نظم وتركيب بل يضطلع برسالة إنسانية سامية. .
2_ويسألونك عن بيت القصيدة قل:
كما الأجداث نسكنها عظاما
هي الأسفار ترفعنا عظاما
في هذا البيت الشعري يتجسد كل علم البديع من طباق ومقابلة وجناس..
ويتجلى ذلك من خلال التقابل بين الصدر والعجز. ..
الصدر#العجز
مقابلة كبرى تنقسم إلى مقابلات صغرى مرتبة ومنظمة وفق قواعد البديع واللغة في آن..
ويظهر ذلك من خلال :
الأجداث # الأسفار __طباق بين مفردتين …
فالأجداث : مفردها جدث وهو القبر
والأسفار: مفردها سفر وهو الكتاب الكبير
وشتان بين القبر والكتاب ..!!
ثم نعثر في آن على تناغم في الميزان الصرفي بين اللفظين
الأجداث ___الأسفار = الأفعال (أفعال) وفي التعريف بالألف واللام …وهو ما يتفاعل مع الإيقاع العام للنص..ويحدث موسيقى داخلية في القصيدة..
_نسكنها #ترفعنا
التقابل بين الفعلين..مع التوافق في العملية الصرفية فكلاهما مصرف مع “النحن”
نسكنها ___ الأسفل
ترفعنا____الأعلى
وكل فعل مشروط بفاعله..
الأجداث ___نسكنها___ الأسفل
الأسفار ___ ترفعنا___الأعلى
_عظاما # عظاما ____جناس تام
وهو الاتفاق في عدد الحروف ونوعها وترتيبها مع اختلاف في المعنى …
فالعظام الأولى مفردها عظم وهو القصب الذي عليه لحم
والعظام الثانية ومفردها عظيم وهو الجليل القدر..
وداخل هذا الانتظام توجد صورة شعرية تبنى على المجاز
(الأجداث نسكنها عظاما) إحالة على صورة الموت
(الأسفار ترفعها عظاما) إحالة على شرف المنزلة والعظمة والمجد..
وهنا يتجلى علم البيان في هذا التشكيل المجازي الفريد ..
وهذا التمازج بين علمي البديع والبيان ينتج صورة فلسفية كبرى تتمثل في التقابل بين العرضي أي كل ما هو زائل مادي كالجسد مثلا ..والجوهر وهو كل ماهو خالد لا يزول كالقيم منها الاخلاقية والفكرية …
وهذا بيت حكمي صيغ بفكر فنان وشاعر حكيم..
تحية لهذا الإبداع العظيم لشاعر عظيم ..
هذه الميمية تناظر دالية طرفة بن العبد ..
على مستويات مختلفة ..
وهي تفصل وجع طرفة الذي مزج بوجع ضياء ..
وعندما تنخرط المشاعر في حوار شعوري شعري تلتحم الأزمنة عند عتبة القصيدة
وهو ما يؤكد أن الشعر العربي النقي حلقات متناغنة.
وأن القصيدة تطيح بالمسافات الزمنية الشاسعة لتؤسس لمساحات روحية شعورية خصبة
ولنا في قول طرفة البلسم الذي قد يشفي الروح من سم العقارب
وما أكثرهم في هذا الزمن الأغبر …!!
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
ويبقى الشعر العربي النقي الخالص المنبع العذب بلا حدود
والبلسم الذي يراود الجرح فيلملم شظاياه ……!!
الناقدة والأستاذة الباحثة سامية البحري