في مكتبةِ الأستاذ شاكر في الديوانية ، ذات يومٍ كنتُ منهمكًا أفتّش بين أكداسِ الكتبِ غير المنتظمة ، فوقع نظري على أحد الكتبِ الّذي جذبني عنوانه ؛ فلم أره من قبل ورحتُ أمسحُ عنه الغبار ، كان عنوانه (الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر كزار حنتوش) لم أعرف الشاعر من قبل ولم أقرأ عنه شيئًا ، فعدت وقرأتُ أعماله الكاملة ومن خلال بحثي وسؤالي عنه كونتُ تصوّرًا عن حياته المليئة بالأحداث والشِّعر وما دعاني لإيقاد شمعة على قبره إنّ العديد ممن سألتهم عن شاعرنا الكبير لم يعرفوه من قبل وكأن السنين بدّدت ذكراه .
“…فانني سأقول له كما قال أحد الشعراء : كم ستصرفون على هذا التمثال ، وقد يجيب مثلًا بخمسين الف دولار.. عندها سأقول له : اعطني هذا المبلغ ، وسأقف أنا بشحمي ولحمي ودمي مكان التمثال طوال حياتي” !!
كان هذا جواب كزار حنتوش على سؤال الإعلامي (قيصر الوائلي) في حوار أجراه مع الشاعر للمطالبة بوضع تمثال له .
بُعث أوّل ما بُعث (عام 1945 م) في منطقة (الجديدة) : وهي أحدى مناطق محافظة القادسية ، نشأ على ضفاف نهرها الخالد “يتعارك مع صبية أهل الشط حتى سيل الدم”… ؛ فاستهل حياته فيها , وبدأ مغامراته الأولى هناك .
وتغنّى بقضاء (الدغارة) وهي أحدى مدن محافظة الديوانية فآسره جمال بيئتها , وكرم أهلها ؛ كأنه نشأ في روضها الساحر , بين البسطاء ودماثة خلقهم وطيبة قلوبهم ، فلا عجب أن يخرج من شذا وأزهار هذه المدينة كلّ هذا الجمال فحتّى الملك غازي آسرته بيئتها وبنى له قصرًا فيها ؛ ولذلك نسبه أغلب الذين كتبوا عنه إلى هذه المدينة ؛ والحقيقة – كما أخبرتني بها الشاعرة المحترمة (رسمية محيبس) , أرملة الشاعر- هو تولد محلة (الجديدة) في الديوانية .
لا تضجر سيّدي القارئ ليس هذا ما أردتُ قوله ؛ بل أردتُ وضع زهرة على قبر الشاعر الكبير كزار حنتوش . أشار إلى (الدغارة) في أحدى قصائده :
“انشأه الله على عجلٍ من سبغ (الدغارة(
ورماهُ إلى وطنٍ من شمسٍ وكحولٍ ومصائب”
مصائب الفقر والفاقة والمواجع والحرمان كصورة مصغرة للجمع العراقي في ذلك الزمان .
ثم أنتقل بعد ذلك إلى أسواق المحافظة وشوارعها المكتظّة ، وهو يصوّر حالة انتقاله بسخريته المعهودة والألم المبطن حيث يقول :
“جئنا للديوانية
(باللوريات) الخشبية
مكبوسين كتمرٍ في الأخصاص…
نتأمل شرطتها
تخفر شبانًا في السيارات … “
بدأ درسته في مدرسة الديوانية الابتدائية (عام 1953م) ، ومن ثمّ أتمّ دراسته في ثانوية الديوانية للبنين (عام 1968م) ؛ ليلتحق بعدها بمعهد الهندسة في بغداد ويتخرّج منه (عام 1972م) .
أخذ يجوب شوارع الديوانية وهو يفتّش عن آلامها أو عن اللاشيء ، كمبصرٍ يهتدي إلى مقاهيها ونواديها ومواضع أنشطتها الثقافية فهو سيّدٌ للشعر ، حينما سأله الإعلامي قيصر الوائلي عن موقعه في الشعر أجاب :
“- أقف في حقل الشعر كنخلةٍ عيطاء لا كفزاعةٍ كبعض المتشاعرين” .
بدأ بكتابة الشعر الشعبيّ ؛ فتكوّنت لديه الصور الشعرية الذاتية وبِلُغة بسيطة قريبة من العامّة أخذ يطرّز قصائده .
-” متى بدأت أو عرفت أنك تكتب الشعر؟ وهل للشعر علاقة بالهندسة والمسافة ؟
لا استطيع أن أحدد بالضبط ٬ متى عرفت أنني سأكون شاعراً ٬ لقد بدأت كتابة الشعر وأنا في الصف الخامس الابتدائي في غمرة نجاحات ثورة تموز (عام 1959م) ، هذا هو الهاجس الذي دفعني لكتابة الشعر… ربما أعتقد أن للشعر علاقة بالهندسة إلى حد ما ٬ بعض الشعراء كالبركان مثلاً…” ، وهذا الاقتباس من أخر حوار للشاعر أجراه معه (خالد إيما).
عمل في دائرة وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في الديوانية منذ (عام 1973م) ولغاية تقاعده (عام 1992م) .
كورقة الريحان وعبيرها منتشيًا بانتمائه إلى الأمكنة أصدر ديوانه الأوّل ، (الغابة الحمراء) عن وزارة الإعلام – بغداد (عام 1988م) .
شاعرٌ لم يتشبه بأحدٍ ، نحى منحى خاصًا به في كتابة القصيدة ، فجاءت طوع قريحته كما أرادها بسيطة تحاكي الواقع واليومي ، تتسم بالكوميديا السوداء ، بثّ فيها هموم الشارع منتصرًا للفقراء أحيانًا ، وساخرًا ممن كان في قبالتهم أحيانًا أخرى .
كما وكتب المقال والدراسات النقدية ، فنشر العديد من مقالاته في الصحف العراقية .
عمل مديرًا للإعلام في جامعة القادسية ، عام (1992م – 2000م) .
فرغم ألتصاق الصعلكة فيه ، وتناثرها في شعره ؛ ظلّ سعيدًا وأصدر ديوانه الثاني ، (أسعد رجل في العالم) عن وزارة الثقافة – دار الشؤون الثقافية – بغداد ، (عام 2001م( .
كان عضوًا في الاتحاد العام للأدباء والكُتاب ، وشغل منصب رئاسة الاتحاد الفرعي في محافظة القادسية .
كُتِبت عنه الكثير من المقالات وبعض الدراسات ، وأحسب أنّها قليلة بحق شاعرنا الراحل وممن كتب عنه (الأخضر بن يوسف) مقالًا بعنوان (إعدام الشعراء عَرَقاً : كزار حنتوش مثالًا) أستقي منه : “… ، والآن
ماذا عن كزار حنتوش ؟
ماذا عن كزار حنتوش ؟
في أوائل السبعينيات كان كزار في عنفوانه : مناضلاً شيوعيّاً ، وشاعراً .
كان يسابقُ الزمن والفنّ :
مطوّلاتٍ تكاد تأخذ التاريخَ من تلابيبه ، وتَـعُـتًّــهُ عَتّاً .
الراية الحمراءُ خفّاقةٌ في تلك المطوّلاتِ كما لم تخفُقْ أبداً .
والشاعر هو !
نحن لا ننكسرُ .
نحنُ نُكسَرُ …
حتى لو جاء لينين سنجعله بعثيّاً !
هكذا قالوا .
وهكذا فعلوا ، .. .”
وبجهود (مركز تواصل لبحوث التنمية والحوار المدني) و أصدقاء الشاعر : الشاعر عبد الرحيم صالح الرحيم ، والأديب ثامر الحاج أمين ، والأستاذ عبد الكريم السلس في جمع وتدقيق أشعاره بمعونة الشاعرة المحترمة رسمية محيبس – أرملة الشاعر – صدرت بعد وفاته وتحديدًا ، (عام 2007 م) ، كتاب : (الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر كزار حنتوش) ضمّتْ ديوانه الأوّل : (الغابة الحمراء) ، وديوانه الثاني (أسعد رجل في العالم) ، وديوانه الثالث الذي لم يُنشر من قبل (حديقة الأفاقين) .
رحل وكان دائما ما يردّد ، من قصديته (مرحبًا أيُّها البارود) :
“ركبوا عربات البارود
هربوا بالنسيان
تركونا والذكرى
ناراً وحطب
كتبوا زقزقةً في بستان الذكرى
والعصفور كتب
أخذوا أقمار ليالينا
أخذوا ريحان قصائدنا
نشروا في الريح عتب..” .
رحلَ إلى مثواه الأخير في التاسع والعشرين من كانون الأوّل عام (2006 م) ، كان أحد الشعراء العراقيين البارزين ونظرًا لأهمية شاعرنا فقد جرى الاحتفالُ بذكرى رحيله كلّ عام ، رحلَ كزار حنتوش عن هذا العالم وهو يجرُ حسراتِهِ ولواعجَهُ كأن الحياة لم تعجبهُ وراحَ يشدو بشِعرِهِ على رفاةِ الصعاليك .
هادي علي داخل
موفق حبيبي استاذ هادي