5 ومضات قصصية عن الموت
عدنان المبارك (ملف/2)

1 – مكان ليس بالصغير للموت

– الحدود التي تفصل الحياة عن الموت هي في أحسن الأحوال ظلال وغموض. لا أحد يعلم أين تنتهي الأولى وأين يبدأ الثاني. أدغار ألان بو

أمي قالت بأنها حزّورة ما الها حلّ . كانت تقصد الموت أولا ثم الحياة . اذا رحل واحد من الأهل قالت بأنه أنتقل الى جوار ربّه . ثم تضيف قائلة لا أحد يعرف بالضبط موعد الرحيل . أما الحياة فهي هبة من الله ولا يجب التفريط بها والا لصار الأمر إهانة موجهة لسبحانه و تعالى. بقيت أفكر بهذه الحزورة لغاية الخامسة والأربعين من العمر ( قبلها كنت مشغولا جدا بأمور الحياة ، وبالضبط تغييري العمل أربع مرات خلال عشرين سنة ). وعندما أصبحت معوّقا ازدادت أمامي فرص التفكير بمثل هذه الأمور التجريدية أي ما هي الحياة وما هو الموت . أقول باستقامة بأني رأيت الموت بعينيّ ثلاث أو أربع مرات ، ولربما أكثر. في عمر العاشرة والنصف نجوت باعجوبة حين سقط الجدار الطيني لجارنا أبو حمود ، وكان بيني والموت أقل من شبر واحد. الحائط كان سميكا وعاليا الا أنه في الأسفل رقيقا. في البدء فكرت بأن هزة أرضية قد حدثت وكدت أروح ضحيتها. خجلت من مثل هذا التفكير. ففي جنوب العراق لا زلازل ولا براكين. وكل ما في الأمر أن البناء كان سيئا للغاية . في اللقاء الثاني مع هذا المكروه كنت في عمر الثانية والعشرين حين شاركت في مظاهرة في شارع الأمين . صفرت رصاصة بالقرب من اذني اليمنى و اخترقت الشاب الذي كان ورائي . تفرقنا بسرعة ونحن نشتم الحكومة والعرش. بقيت ليلتين أفكر بما قد يحصل لو اخترقت الرصاصة رأسي. لم أظلم أحدا ولذلك فسيكون أحتمالا قويا دخولي الجنة. في الواقع لم أصدق حينها بأسطورة الجنة والنار لكن لا ضررهناك اذا كانت تلك الحكايات الجميلة عن الجنة حقيقية. في الثالثة اخترقت سكين رئتى اليسرى حين اردت أن أفض نزاعا بين اثنين لا أعرفهما. رقدت في المستشفى أسبوعين . لم يستطع الأطباء تصفية صديد الرئة وقالوا لأبي أن نسبة الشفاء أخذت تتضاءل.
كانت المرة الأخيرة الأسوأ ، فقد شعرت بان قلبي سيتوقف عن الخفقان بعد قليل . كان الوقت ساعة متأخرة من الليل ، والكل كانوا نياما. في البدء فكرت بأني أحلم أو أمر بكابوس يسبق قدوم عزرائيل. أبدا. كنت يقظا وأشعر بأن قلبي يضعف ويضعف وها أن ساعة الرحيل الى العالم الآخر قد حانت. في اليوم التالي ذهبت الى صديقي الدكتور حميد . فحصني بدقة وقبل ان يقول انه الضغط الجوي الذي أرتفع فجأة . وعندما سألته عن وجوب تغييري بعض العادات أو تناول أدوية معينة أجاب بأن لاشيء يفيد في هذه الحالة عدا الغذاء الصحي والابتعاد عن المنبهات والمسكرات. نظرت اليه معاتبا ، فلأكثر من مرة سكرنا سوية.
بقيت لأمد ليس بالقصير أفكر بموضوع الموت المفاجيء الى أن أقتنعت بان لا شيء يغيّر في الأمر اذا كان هذا الموت يحل فجاة أو يدق الباب أو يدخل خلسة من الشباك.

*

2 – اعترافات غير كاملة

– عندما ظننت بأني تعلمت كيف أحيا كان عليّ تعلم كيف أموت. ليوناردو دا فنشي Leonardo da Vinci ( 1452 – 1519 )

الحياة أقصر ظاهرة في العالم. أيها الأصدقاء ! لكم أن تتصوروا كم شقيت كي أتعلم أكثر فأكثر عن حقيقتها. لكن للأسف كانت جوزة صلبة جدا ولم تفد أيّ كسّارة معها. لا أقول بأنها خذلتني لكنها لم تكشف أمامي الكثير من اسرارها رغم أنها فتحت أمامي أبوابا كثيرة كي أمضي في هذا التيار الحيّ سعيدا الى النهاية. أنتم اليوم تحتفلون بصدور أعمالي الكاملة من روايات و قصص ودراسات وقصائد الخ. اذا أردت أن أكون صريحا و صادقا معكم والنفس أظنه أحتفالا متأخرا قليلا . فاليوم يقف أمامكم شيخ يقترب من العقد التاسع وبدأ يكتب في عقده الثاني . لكن لا عتب على أية جهة فهذا هو الواقع في بلاد الرافدين خاصة. من ناحية أخرى أنا سعيد و ممتن على هذه الالتفانة صوبي . وما يزيد من قيمتها انها جاءت قبل رحيلي. أعطيتموني الميكرفون كي أتكلم. لا أعرف عن أيّ شيء. واذا كان عليّ أن أتكلم عن قصصي ورواياتي وقصائدي فهي قد تكلمت عن نفسها وعني بما فيه الكفاية. ربما عن مطبخ الكتابة ؟ عن علاقاتي الخصوصية ؟ عن رأيي بمن يكتب ؟ ( أرتفع صوت نسائي من الصفوف غير الأمامية : أنا اقترح حلا وسطا : أن نوجه الأسئلة و انت تجيب عليها. ما رأيك ؟ ) أقتراحك يا سيدتي في مكانه ، فأنتم اذا تركتم لي الكلام من دون أسئلة سأبحر في بحار افضلها على الأخرى. أنا أسمع السؤال الأول : ما رأيك بمستقبل الأدب عندنا ؟ سؤال غير دقيق . فعندنا تعني الكلمة أكثر من عشرين أدبا. بالطبع كلها مكتوبة باللغة نفسها لكن التمايز فيها بالنصوص نفسها وليس اللغة. قد أبالغ ، فالنكهات المحلية نلمسها في اللغة أيضا رغم أن أن قواعدها هي هي في كل بلاد .( يتوقف عن الكلام ، فقد تذكر بفضل الساعة الكبيرة على الحائط وراءه أن موعد بلعه الحبوب وملعقة كبيرة من الدواء المضاد للسعال قد حان . لم يجد أيّ ماء على منصته. التفت صوب عريف الحفل راجيا ملعقة و قدح ماء وأخر فارغ فقد يحتاج أليه حين يعمل جرد سريع لأدويته ) هكذا الحال أيها الأصدقاء . الحاضرون الكرام في عمري استثناء صغير، وأمنيتي الصادقة أن لا يعرفوا تعاسة الشيخوخة. أنا سعيد لكوني قادرا على مواصلة الكلام. طيب ، أدبنا وضعوه في اكثر من قفص. من حين الى آخر يتم ابدال القفص ، وهكذا تكون النتيجة أن الكاتب يعمل وراء القضبان ! أما الكتابة بلا أقفاص فهي ليست حلما بل وقاحة صرفة ! اذ كيف في بلد كبلدنا نتصرف مثل وحوش صارت طليقة ؟ فيما يخص الأصدار أنا راض عنه ، وكنت أحلم بمثله – لا يخلو من الأناقة و لأزدادت الاناقة لولا الغلاف الصارخ في الخطوط والألوان. اعطي العذر للناشر ، فهو لابد من أن يراعي الذوق العام. ( سؤال : التأثيرات على أدبك كثيرة لكن قل لنا أين أكبر تأثير ؟ ) سؤال صعب حقا ، فاذا لم أذكر الحقيقة سيفضحني الباحثون في المستقبل . اعترف بأني كنت أتصرف لفترة معينة وفق المثل القائل ( الأعور في بلد العميان ملك ). موقف مخجل حقا أن يقتنع الانسان بأن الجهل خالد وسوف لن يعرف أحد شيئا عن هذه التأثيرات. أكيد أنني غششت أكثر من مرة شأن معظم الكتاب. الكثيرون بارعون جدا في الغش. أرجو المعذرة لا بد من الجلوس ، فدوالي الساق اليمنى منتفخة أكثر من الاعتيادي الآن . يكفي لمسها للتأكد من ذلك. سأجلس وأمسك الميكروفون بيدي وأواصل الكلام. طيّب، نحن الكتاب مضحكون أيضا ، والتأريخ لايغفر حين لم يخضعونا الى الفحص الكلينيكي. أكيد ستكون النتائج تستحق أن تكون موادا لكتابة أكثر من رواية. حب الظهور والشهوة، وغالبما هي مفزعة ، في تكون مشهورا وذا أمتيازات شبيهة بالحصانة البرلمانية. أعترف بأن مثل هذه الاحاسيس سيطرت عليّ بعد نشر روايتي الثانية ( رحلة السيد معتوق الأولى والأخيرة ). كنت في أواخر العقد الثالث ، ومن هنا هذه الطاووسية. لكن هل تعرفون بأن مثل هذه الاحاسيس لم تكن وليست غريبة على الكتّاب ؟ أخطأت اليوم حين شربت مع صديقي عاصم الكمالي تلك القهوة السوداء. عادة أنا اشربها مع اللبن. كان هذا قبل ساعتين الا أن رأسي لا يزال ينبض بها ، وكل ما أخشاه أن قهوة كهذه ليست عونا لي في هذا اللقاء. انسان بعمري ويملك مثل هذا الطيش. كما تعرفون هناك الكثير لانزال اللعنة عليه في هذه الحياة ، وأنا أضع على رأس القائمة الانسان الذي لايزال طائشا وهو في أرذل العمر. الآعتراف في هذا العمر ليست طيشا بل بحثا محمودا عن المغفرة. وكما قلت عيوبي ليست بالقليلة، و ما فعلته في شتى فترات الحياة يكفي لألقائي في جهنم أكثر من مرة. سوف لن أعترض على مثل الحكم رغم عدم ايماني بوجود مثل هذه الخزعبات عن الجحيم والجنة. هكذا أنا و ليغفر لي الحاضرون والقراء عامة مثل هذا الكلام الهرطوقي. لكن من ناحية أخرى أنا لا أثق بكل هذه الواجهة البرّاقة ، وليس منذ اليوم أخذت بحكمة سقراط ( أنا أعرف بأني لا أعرف ) و … عفوا لابد من أن أبحث في حقيبتي اليدوية عن علبة حبوب النتروغليسيرين. أنا أحملها ، عادة ، في أحد جيوبي لكنها غير موجودة . اذن هناك احتمالان : أما أني نسيتها في البيت أو دسستها في الحقيبة اليدوية. المعذرة على فترة التوقف هذه ، وسأواصل الكلام بعد العثور على الحبوب ووضع واحدة تحت لساني مما لن يمنعني عن مواصلة الكلام ( يأخذ بالبحث عن العلبة. يعثر عليها ويفتحها الا ان الحيوب تتناثر على الأرض. يشاهد الجميع كيف ينطرح الكاتب على الأرض ويحاول يائسا استنشاق الهواء. كان منظره منظر جثة هامدة . يقترب منه أحد الحاضرين الذي ذكر بأنه طبيب . يفحصه بالسماعة . بعد بضعة دقائق يقول بأنه فارق الحياة . يقف الجميع لبضع دقائق ثم يأخذون بالانصراف صامتين متجنبين النظر الى جثة الكاتب ).

*

3 – ” عرموطة ” و ياسين

– من كل الأرباب لايريد رب الموت وحده عطايا . ايسخيلوس ( 525/ 524 – 456 / 455 قبل الميلاد)

ياسين صار اضحوكة ( العكد ). قط ّ تحوّل الى طاحونة هواء لكنها اختفت داخل كارتون رماه أحدهم في الباحة التي نلعب فيها. ياسين عقدت لسانه المفاجأة : ماهذا ؟! كارتون يتحرك ويطلق أصواتا شبيهة بمواء القطط ! وما زاد من استغراب ياسين أن الوقت كان مساء ، والليل في شباط يحل مبكرا. ياسين الذي يميل بطبيعته الى الاثنين : الفعل والتفكير ، تصوّر أن في داخل الكارتون قطا وقطة، ومعلوم ماذا تفعله هذه الحيوانات في شباط !
أصبح ياسين يرى الكارتون بالكاد ، فالظلام أسرع في الانتشار، وبعد اقل من عشر دقائق سيطبق تماما. ذهب الى البيت وعاد بسكين طويلة من باب الاحتراز ، فالله وحده يعلم ما في داخل الكارتون : أكيد أنها قطط لكن لا يعرف هل هي وحدها ، فقد يكون هناك ثعبان والا ما معنى هذه الحركات العنيفة الصادرة هناك ؟ ، كما لايعرف هل هذه القطط مصابة بالسعار أم لا ؟
خرج صبية من بيوتهم ، و كانت هناك امرأتان أيضا . جذب الجميع سرّ الكارتون ووقوف ياسين شاهرا السكين. وحين أنتبه الى الحشد المتحلق حوله صاح منبهّا : ابتعدوا شويه ، منو عند لايت ؟
صبي كبير هرع الى بيته وعاد بمصباح أضاء المكان الى حد كاف. حينها كرر ياسين تحذيره وقبل أن يقلب الكارتون . صاح بالصبي كي يوجه الضوء الى الكارتون. وفعل ذلك. سقط الضوء جزئيا على ما في الكارتون الا أن ياسين أنزل سكينه على قطة صغيرة كانت تمسك بمخالبها ( عروسا ) . نفقت القطة سريعا وانبعث نحيب من صبية في الحشد ( عمي شسويت ، عمي شسويت. انت ذبحت ” عرموطة “. أنت ذبحت ” عرموطة ” … ) لا أتذكر كم مرة رددت النحيب.
تبين أن ” عرموطة ” قد ماتت متأثرة بطعنات سكين ياسين الذي لم يتوقف عن الطعن الا حين تدخلت امرأة وأنتزعت السكين من يده التي تلطخت بدماء القطة.
في تلك الليلة فكرت طويلا بالموت وللمرة الأولى. كان منظر ” عرموطة ” مصدما حقا . خيل اليّ أن عينيها الخضراوين الصغيرتين أرادتا أن تغادرا رأس القطة. وكان آخر مواء لها ضعيفا وطويلا بعض الشيء.

*

4 – الحقيقة الموضوعية : لا يقين من مصيري

– منذ يوم ولادتي بدأ موتي سيره صوبي بلا عجلة. جان كوكتو Jean Cocteau ( 1889 – 1963 )

بعد أن شاهدت الموت بضع مرات ( أظنها كانت أكثر من خمس ) قرنت النظرية بالتطبيق العملي . في كثير من القصص أدخلت عليها عنصر الموت عامدا كي أخلق نوعا من التوازن بينه والآخر – الحياة . هذه يصعب وضع تعريف دقيق لها : نصف شرموطة ، نصف جميلة وسعيدة أحيانا والشائع أنها ذات قلب كبير ؟ هكذا صرت أفكر بعد كل المصادفات التعسة التي مرت بي منذ أن خسرت عملي الأخير في تلك الجريدة التي تفخر بأنها ليست على الحياد بل الى جانب الحقيقة الموضوعية. في ذلك النص الذي نشرته باسم مستعار (عزة راحل ) . لا حظوا أني سعيت الى أن يكون مشابها لأسم الملاك عزرائيل . أردت أن أضع تعريفا دقيقا لهذه الظاهرة الأبدية. في الحقيقة لم يكن نصا من صنف المقالات أو الخواطر أو مايسمى بالنص المفتوح بل كان جمعا لشتى السبل السردية وحتى أني منحته في أمكنة معيّنة نفسا روائيا ( كان مجموع النصوص من هذا الصنف والتي نشرتها ثمانية بمختلف الحجوم ). كانت كفة الأعجاب بالنص هي الراجحة. فقد أردته أن يكون تجسيدا آخر لعقيدة جريدتنا : الايمان بالحقيقة الموضوعية. وهكذا كنت رومانتيكيا لا يرجى صلاحه. أن تكون آخر وليس من المفروض أن تكونه في عصرنا الذي يترسخ ايمانه بأن هناك حقيقتين ، واحدة للعرض أو بالأحرى لتجنب السوء ، والثانية قريبة من تلك الموضوعية. وعموما من الذي اخترع هذه الموضوعية ، فكتابنا المقدس كله تحيز للحقيقة التي يمكن تسميتها بالعملية – المهادنة. لا حاجة الى القول بأنه يكرر الكثير من الأساطير.ما أقوله الآن هو نوع من الترف الفكري الذي وفرته لي الاستقالة من جريدتنا التي أفهمت الجميع بأنها تضحي بكل شيء وانسان من أجل تلك الموضوعية. من الناحية الموضوعية لم تحصل مثل هذه التضحية تماما كما لو أن كل واحد يريد دخول الجنة لكن من دون أن يمر بمرحلة الموت الذي هو مصيرنا المشترك. في الجريدة كنت نموذجا باهرا للحميّة والنشاط . أفادتني هنا الحكمة البوذية القائلة بأن الخمول هو أقصر طريق للموت ، وأن تكون مجّدا هو الطريق في الحياة ، فالناس الحمقى هم في حالة استراحة في حين أن المجّدين مثابرون. لكن ليس دائما فكم من مجّد تأرجح على حافة الموت. و لنأخذ تلك الواقعة من قبل خمس سنوات : عثروا على جثة فتاة ملقاة في شارع جانبي في مركز مدينتنا. تبين انها قد اغتصبت ثم أطلق النار على رأسها. الكثير من الأدلة يشير الى أنها كانت من صديقات نجل رئيس الوزراء. لكن المحققين لووا عنق تلك الأدلة وسجلت القضية ضد مجهول. رئيس التحرير نسي شعار جريتنا عن الحقيقة الموضوعية و طرد الصحفي المسكين الذي أصابه هوس اكتشاف الحقيقة الموضوعية التي قادته الى نجل رئيس الورزاء. وعندما صارحت رئيس التحرير برأيي في مهزلة هذه الحقيقة الموضوعية، نهض من وراء مكتبه و طرقت قبضته ، بعنف ، المكتب : ماذا ؟ ألم تسمع بأن كل شيء نسبي وحتى الله هو نسبي وليس هو نفسه لدى اليهود والصابئة والسيك وغيرهم …
رغم كل شيء أخذت أجمع خفية كل الأدلة التي توميء الى القاتل . ساعدني هنا كثيرون مما زعزع ايماني بأن البشر خلقوا لصنع الشروحده. أوه ، الكلام طويل عن متاهات تلك الحقيقة الموضوعية في حياتنا. وكان محقا شيشرو حين قال ان الخوف من الموت ينبع من الخوف من الحياة . لكني لا أتفق تماما معه حين قال بأن الانسان الذي يريد أن يملأ الحياة عليه الاستعداد للموت في أيّ وقت. قد أبدو متناقضا هنا ، فقد سبق أن قلت عن ميلي الى الرومانسية . غير أن الحس العملي هو السائد في عمل الصحفي ولذا يمكنه مواصلة البحث عن الحقيقة الموضوعية واكتشافها أما إعلانها على الملأ فهذا اختصاص آخر. ولأوضح القضية : أنا أكتب لجريدة تدفع لي اتعابي ، أما النشر فهو اختصاص آخر ولا قيمة هنا لرأيي. أنا الآن صاح تماما ، ولو شربت وحتى ليس بالكثير لكان لي رأي آخر. روبرت أوبنهايمر صنع القنبلة النووية لكن بعد القائها على اليابان صاح : (أنا أصبحت الموت ، مدمّر العالم). لست مخطئا تماما اذا قلت بأنه يتحمل جزء ليس بالصغير من المسؤولية عن ذلك التدمير المريع لكن ترومان وغيره من الساسة أولاد القحبة لم يعترفوا بالجريمة ولو بنسبة واحد بالمائة. الموت ، الموت . لا يقين عندي من أني سأواجهه من جديد وقبل أن تحل المرة النهائية. في كل الأحوال ستكون هذه توقيتا آخر للموت تماما كما لو أنك تنهي القصة بمعنى آخر غير السابق. عدا ذلك أنا مغرم بالنهايات غيرالمتوقعة .أنها خير دواء لهذا الضجر المهيمن على العالم ، على حياتي خاصة. بالطبع أنا أسعى الى ملء الفراغ الذي أحدثه طردي من العمل . ووسائلي هنا كثيرة. معظمها من عالم الفنطازيا الذي لا خوف فيه على النفس. النفس … قال صديقي س. ك أن أكبر خطر يهددها يتوجه الينا بهدوء بالغ الى درجة أن الأمر يبدو وكأنه لم يكن. الخسارة هنا تحلّ ، وبكل غدر ، وليس كما تفقد يدك أو ساقك أو ما في جيبك من نقود بل وحتى اذا فقدت زوجتك. اذن كن بالغ الحذر ! نصيحة لا يمكن الاستهانة بها . فيما يخص موتي أنا استثنيت تماما الانتحار. ولأن لا قدرة لي على مواجهة الله الذي يعتبر عملا مثل هذا تحديا كله وقاحة لأرادته الخالقة للحياة. في الحقيقة لا تهمني التخريجات والتبريرات لعملية الانتحار، ولأني لست واثقا من أني سأبقى حيّا ليوم غد. فالحياة كلها مفاجآت.
قبل قليل رن الهاتف. كان من المصورالصحفي حمدي. هذا الشاطر يقترح عليّ أن أعمل ريبورتاجا لمجلة أسبوعية كندية عن اسلاميي الصومال. قال بأنهم في المجلة يعرفون أن الضحايا بين الصحفيين في هذا البلد التعيس كثيرة. لكن رغم كبرالمجازفة سيكون ما يعينني لون البشرة ومعرفتي اللهجة الصومالية بفضل مشاركتي السكن مع صومالي في القسم الداخلي لكلية الآداب آنذاك.
أنا لا أبالغ اذا قلت أن الضجر يدفعك الى أكبر المجازفات وأخطرها. السفر سيكون بعد أسبوعين. البارحة سرح الخيال مع زمكان الموت، موتي. من ناحية أخرى ربما سأبقي حيّا وكما حصل لغاية الآن. ضحكت حين اكتشفت أن الأمل نزق للغاية ، فها هو يستقر في المجازفات الأكثر خطورة.

*

5 – الفيزياء والموت

– لا يموت الانسان بسبب الحب أو الكبد ولا حتى بسبب الشيخوخة ، أنه يموت لكونه انسانا. ميكيل دي أونامونو Miguel de Unamuno ( 1864- 1936)

غريب أمر معلم الفيزياء ذاك.اذا لم تخني الذاكرة كان اسمه قاسم الأمين. طويل القامة ، وسيم ، بشرته بيضاء بشكل ملفت. حركاته تكشف عن طاقة جسمية تكاد تتفجر وأخرى نفسية بدت لي كأنها وجدت كي تتحمل أشد الضربات وجعا. دروسه في المدرسة الإعدادية كانت معروفة في مدينتنا. لغته بسيطة ومتقنة. أوضح الكثير من أسرار النسبية. حين وصلت الى الصف الرابع ثانوي كان لا يزال اعزبا ( خلو الأصبع من خاتم الزواج ). لم يخف اعجابه بالعقلانيين والغيبيين في الوقت نفسه. وجد أن آينشتاين أخطا في بضعة أماكن في نسبيته. لا أتذكر تلك الأخطاء التي كان شرحه لها مقنعا. استدرك في البدء أن كل هذا قام به بضعه علماء من إنكلترا وألمانيا وغيرهما( أعترف بأن الفيزياء لم تجذب اهتمامي حينها رغم اعجابي بالاستاذ قاسم ).
كنت من النوع الطائش ليس كثيرا مما لم يعجب المعلمين وخاصة الأستاذ قاسم. الا أنه كان يملك بعض الود تجاهي ، و صادف ان عدنا الى البيت في الباص نفسه . ذكر مرة لي من باب النصيحة أن الحياة تبدو سهلة مثل جريان مياه النهر لكن هذا مجرد مظهر خدّاع. رحلة الباص كانت تستمر حوالي نصف الساعة . أستاذ قاسم يتكلم في اثنائها عن مختلف الأمور التي لا أعرف كيف يربطها بالفيزياء التي وجدها هي التي تحسم مصير الانسان بالدرجة الرئيسية. بضع حكم قالها لا أزال أتذكرها لغاية اليوم أي بعد أن مرّ أكثر من نصف قرن. كان الأستاذ من اشد المعجبين بآينشتاين والمعري. فوجئت تماما بأنه يعرف كل ما قاله اينشتاين عن الفيزياء والكون والانسان وروحه وزوجته أيضا. صارت عادة لديّ أن أسجل ما كان يقوله حال رجوعي الى البيت. في الحقيقة صارت نوعا من الأحداث الممتعة في حياتي المحادثات مع معلم الفيزياء.
بعد انهائي المدرسة وانتقالي الى بغداد سمعت عن تلك السلسلة من الاخبار المفزعة حقا . الأستاذ قاسم اعتقل بسبب ( ميوله الشيوعية ) وأعلنت الصحف والإذاعة أنه كان عضو بارزا في قيادة الحزب في مدينتنا . سمعت فيما بعد أنهم عذّ بوه طويلا كي يكشف عن تنظيمات الحزب في مدينتنا. لكنه بقي صامدا الى النهاية . صدر الحكم بسجنه سبع سنوات ، وفي السجن هاجمه التيفوئيد الذي مزق امعاءه الدقيقة ، ومات هناك من دون أي عناية حقيقية. سمعت فيما بعد أنه واصل في السجن ( دروسه ) عن الفيزياء والانسان والكون و…الموت كظاهرة فيزيائية – إنسانية صرفة.
من دون فقدان الأستاذ قاسم كنت اعرف بأن للفيزياء علاقة بالموت.

استره بارك – كانون الثاني 2016

*عن موقع الراحل الأستاذ “عدنان المبارك”

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *