إشارة:
ببالغ الاعتزاز والتقدير، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر فصول كتاب الناقد والموثِّق البارع “ثامر الحاج أمين”: “سيرة وجع عراقي: محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني” الذي يتناول جوانب من المسيرة الإبداعية الباهرة والثرة للراحل الكبير “علي الشيباني” وكفاحه الحياتي المرير الذي رسم نهايته المؤلمة. يأتي نشر فصول هذا الكتاب ضمن ملف الموقع عن الراحل علي الشيباني الذي تدعو الأحبة الكتاب والقراء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للناقد ثامر الحاج أمين.
أسرة موقع الناقد العراقي
عبد الكريم قاسم يرتدي المغامرة
(أدب التخيل التاريخي)
هو الآن – عبدالكريم قاسم – يفترش الأرض الشرقية لعاصمة الملكية الهاشمية (بغداد).. يسوره بجدارة اللواء – التاسع عشر – النبيل قبضته الوطنية العارفة بالقرار العسكري الخطير لاقتحام الملكية واشعال المياه الآسنة في (التايمس) اللندني، لقد ارادوه لشأن في العسكرية متطامن لقد ارادوا ان يضعوا راسه الملتهب غرب الوطن الفقير ويحشدوه بالتراب.. والصمت لكنه مع الارادة الساخنة والحميمة المتوافقة ونزوعه الفردي المتألق في الحياة ومنها وحدته العسكرية المحيطة بروحه العراقية الطيبة والشبيهة بقبضة ماكرة توشك ان تجتمع كي تفعل في الايام واجساد الحكام الهامدة فعل الحجر الثقيل والمبارك في فسحة المياه الراكدة.
لم يكن أوحد بعد.. لم يكن قد تسلق سلم القمر.. ولم يكن المرتجى في الملمات والشدائد.. لم يكن بعد.. بينه وبين الفجر سلم يفتح باب القمر يفتح ليل الوطن يفتح مسار الحرية.. وحلم الفقراء هو الان في ليلة واقفة على قدمين من جديد وقلق يتكيء على شمس لم تشرق من قبل، كما تريد ان تشرق اليوم على يمين خيمته المتفردة قمر محايد لم يطرق بابه بعد ويلتقي به رجاله المولعون باكتافهم الذهبية وعزمهم الدفين، لقد خرجوا ليودعوا زوجاتهم المهمومات وابناءهم الصامتين وثمة عدد من الفتية الضباط غادروا ليودعوا حبيباتهم الصابرات وأمهاتهم الموكلات بالأدعية والخوف له معهم جميعا فجر قادم.
اما انت ايها (الزعيم) المتآلف ووحدته العسكرية فقد كنت قد اقترنت بالقرار فمن أين يأتي الظلام لهكذا عقد مقدس، لقد رافقتك المخيلة الرجولية باقتحام الأسوار الكالحة التي يخدر خلفها “الأزواج” هم هكذا دائما حكام المدن المقهورة يقتحم الغرباء والثوار وهم في مستنقعاتهم البيتية الراكدة والمولعات بكثافة الذهب فوق الاكتاف.. والرغبات.. اما انت وفي ليلة 13/14 تموز عام 58 فقد كنت وحيدا ولم تكن أوحد بعد تملأ الدنيا.. والأسماع صامت انت حد الجلد هذه الليلة، لقد خلعت الذهب من على كتفك النحيل وامتشقت القرار والارادة، لقد عانقت كفك الرافديني ولم تنم. ناديت على الفتى العسكري الموكل بيومك كي يحضر لك القهوة وقلما من الرصاص الخفيف.. ورقة.
– مالك والورقة انها وثوق من المغامرة، امتشق سيفك ايها الزعيم الشجاع واذبح الكلمات من على سماء الورقة. ذهب الفتى وأحضر ماء في اناء من حجر تاريخي قديم كان عسكرك قد صادفه عند عودته من فلسطين عام 48 في واحدة من محطاته الباسلة.

– ماهذا ايها الفتى العسكري؟.
– انه اناء من التاريخ ياسيدي.. فاشرب من مائه المقدس وبلل بقداسته القرار وعاين في ماء القدح من تراه من وجوه صحبك سيدي. وتأكد ممن سيغيب في المرآة انها النبؤة ايها الزعيم فاجترحها ولتأخذهم في الغياب والحضور كي تزدهي بصدق قامات الرجال.
لقد بدأ صحبك التواجد قبل ان يفتحوا باب الشمس وبعد ان غادروا زوجاتهم بصداقة الثوار وعزم المغامرة.. وانت لم تكن ترتدي ثوب الثورة بعد حدقت في ماء التاريخ جيدا ورأيت الوجوه الساطعة لكنك صمت لوجه كان يأخذ بالسواد ويلوث فجر الماء بالضغينة.. ظللت الليلة كلها تقرأ في المرآة وجوه صحبك الثوار واشرت بقلمك الرصاص الشفاف على وجه ماكر. دخل عليك الفتى العسكري
– سيدي لقد جاءت الشمس راكضة هذا اليوم ولها فيك ارادة.
– دعها تدخل.
فتح الفتى باب الخيمة ليدخل العراق
ـــــــــــــ
-جريدة الصباح 2006
القصة القصيرة في الديوانية
لون كتابي غريب – كائن ابداعي جديد
اطلعت عن طريق الصدفة المحضة (بداية الستينات) على كتيب صغير حائل اللون يحتوي على مجموعة محدودة من القصص القصيرة لكاتب لم اعدأتذكر اسمه الان ولم يكن الزمن حريصاً معي لنحتفظ بهذا النموذج النادر والفريد الا ان المطلعين على شؤون الحياة العامة يؤكدون ان (القاص) المذكور كان من الشباب المثقف المندفع سياسيا في العهد الملكي المباد حاول بمغامرة ثقافية ونضالية فردية ان يكرس مسعاه الكفاحي والانساني باصدار قبضة من القصص الشعبي ذات الصيغة الانشائية البسيطة والمحتوى الاجتماعي السكن والمتوجه باسلحة ابداعية بسيطة صوب الهموم والاهتمامات الانسانية السائدة للطبقات الشعبية المحرومة والمكافحة.
في الديوانية وفي الخمسينات العراقية المشهودة والمؤشرة بأفق التغير الاجتماعي والتاريخي المرتقب يتقدم احد الشباب الواعي.. باطلاق صوته الاحتجاجي والانساني الجديد من خلال شكل كتابي مستحدث غريب وغير سائد ازاء الطغيان الشعري على الذائقة الادبية، الاّ ان القاص الديواني كان قد اطلع على نماذج الكتابات في القص العربي والعراقي خاصة (ذوالنون ايوب- غائب طعمة فرمان -فؤاد التكرلي- جاسم الجوي) وغيرهم واعجب بها حقا وحاول مغامرة تقليدها الا ان السبب في عدم استمرار وتطور هذا المنحى الكتابي والابداعي الاثير في مدينتنا يعود لأسباب عدة نحاول اضاءة أهمها:
– تحتاج كتابة (قصة قصيرة) فنية وعميقة وذات بعد تغييري وتعبيري جيد الى مجتمع مستقر تاريخيا على المستوى النسبي وذوي انماط حضارية وانسانية كانت قد اخذت مسارها التاريخي الواضح.
– سيادة نمط اقتصادي وانتاجي متميز وواضح الأبعاد بطبقاته الاجتماعية ذات الاسلوب الحياتي والمعيشي العميق الجذور في التراب والذاكرة.
– مستوى ثقافي حديث (نسبيا) لبلد من العالم الثالث يمتلك عددا من المؤسسات التعليمية والثقافية العامة.
– ممارسة كتابية سابقة تاريخيا باشكال تعبيرية كانت قد اخذت ثباتها الادائي وشكلها الفني والأدبي الواضح من جمهرة متحفزة من القراء والمتذوقين لثقافة معاصرة في داخل البلد وخارجه.
– انتشار وسائل النشر والاتصال الاعلامية والصحفية والتشجيع الرسمي ومن مؤسسات وطنية اخرى.
– توفر الكتاب القصصي العربي والعالمي (عبر ترجمات نوعية) في مكتبات المدن وفي المكتبة الحكومية.
– عدم وجود المنظمة الثقافية التي تحتوي الاديب او الفنان وتنهض بمشروعه الانساني والابداعي.
كل ذلك ادى الى مراوحة الانجاز المتواصل لهذا اللون الادبي الحديث والصوت الانساني الباذخ والمتميز في اشاعة الذائقة المتحفزة نحو هموم الانسان العراقي اللاذعة وقضاياه المصيرية المعروفة والعميقة.
استمر هذا السكون طويلا الا في السبعينيات بداية ومابعدها من عقود طورت وانضجت هذا النموذج الابداعي الحي فشهدت مدينتنا نهوض عدد من كتاب القصة الشباب على قلة عددهم كريم الخفاجي – ناظم مزهر – مردان شرماهي وغيرهم وصدور عدد من الكتب القصصية لهم وبعد رسوخ واتساع النشاط الثقافي والفني في المدينة ولعدد من المؤسسات والمنظمات الشبابية والادبية (أخص بالذكر منها فرع اتحاد الادباء والكتاب في القادسية) واصدار جريدة (صوت القادسيتين) قبل سنتين وتوليها مهمة النشر الحروالمتواصل لمختلف الانواع الابداعية في المحافظة ومنها القصة القصيرة، حيث ابدع على مرايا صفحتها الثقافية الكثير من الكتاب الشباب رحيم مجيد موسى – علي كاظم جارالله – قحطان حمزة – كاظم جلاب – ايمان المرعبي وغيرهم.
من ذلك يتأكد لنا استمرار وجدارة النموذج القصصي الحديث لكتاب مدينتنا ومبدعيها وفي المستقبل المضيء سيكون لنا صوت قصصي اكثر ارتفاعا وأصالة.
ـــــــــــــ
جريدة القادسيتين 2002

طارق ياسين.. شاعر مستمر
يلعمرك عجيب إشما تدوم تروح يلعمرك عجيب إشما تروح تدوم يا أول نهر ميّك هني ومسموم
-1-
بأيما شيء يبتدئ الموت، وبصورة اخرى متى يولد شاعر ثم يموت؟ ليس في الامر ايما سهولة والا لما كان للحزن ومواسم الك-آبة والشوق وانهماكات الانسان الغريبة، اي مبرر. في الحياة ثمة نسغ لا يدفع للشمس الا شاعرا فردا. ليس في الامر ايما سهولة والا لكانت الولادات البكر اسهل من الماء، وكان عذاب الشجر الموسمي كفرح الطيور الغبشية، في ليل مر، كالفرح الوحشي يولد شاعر فرد ومن ثم تأخذ به الحياة ضوءا للكشف والعذاب اللاذع والابدي وبه تكون للشجر طاقة التشقق وللماء رغبت العناق مع الحجر..
هكذا يصفن الكون فجأة ويولد شاعر…
وثانية يصفن الكون… ويموت الشاعر… وتستمر الحياة
تستمر بدفق روحي يتجدد.. تتدفق بنظافة وخارقية عميقة وخالدة ولا اقول بموته فذلك يغضب الشجر الشتوي وطيور البحر الساخنة والقادمة من مدن اخرى. للشاعر روح تحل بنا جميعا، نحن الكائنات الواعية، كما يقال، واخرى تحل بنفسها من خلالنا.
هذه مسافة الشاعر القلقة والدامية والواثقة ايضا، وليست ثمة خسارة في المسافات اللانهائية وليس ثمة فرح.
-2-
وهم ان يكتب عن شاعر، تلك مهمته الاولى وفعل الحرية البارق ازاء الموت وتشويه الانسان، ان كائنا يصرخ بالكلمات كل العمر ويحتشد بها ويشقق، لا يبقي لمن يبتغي الكتابة بكلمات مضافة لا طعم لها اية بادرة.
حياة الرجل في الكلمات، تلك الغابة المقدسة لشعراء الانسان.. “يلي محبتج شجرة صنوبر بوحشة غابة”.
تلك هي حالة الشاعر في الدنيا..
“شجرة صنوبر بوحشة غابة”
بالحب الغامر يحمل هذا الانسان، الفرد، الغريب، الشامل بوجود الغابة قنديل الكشف ويعلن الدهشة ازاء غموض الكون وعذابه وعاصرته وجدراناته المتكاثرة.. وبذلك يعتني.. يمتلئ، ويضيء..
“وين رايح بالمحبة.. بروح ما خضر سعفها”
………….
“اشكثر رغباتك، امنين تفوت…
والمدينة اشكصفها”
لابد من هكذا حساسية في الحياة والشعر تنفذ بعيدا لرجل يسكن هذه الغابة -المدينة، الاكثر قسوة واحاسيس من مدن الناس الاولى والاليفة،المدينة التي يسكنها طارق بن ياسين..
المدينة التي (كان) يسكنها طارق بن ياسين.
ما انذل هذه الـ(كان) الناقصة وما اسفل سقوطها في الزمن، وهذا هو طعم الكلمات المضافة والفاقدة لروح الانسان والمستقبل وماذا تفعل بالشعراء والموهوبين والاذكياء هذه المدن الشرسة. ان للشاعر روحا وحسا وحرفا تختلف..
“ييمه وبغداد الشوم ع الدينار مصلوبة”
ليس اسهل عليها من اغتيال شاعر بعد اتعابه حد اليأس والمكابرة
:مدينة هلي يا سرج النوايب”
الا يذكرنا ذلك بكل نقاط الضوء المشعة بالدم والكلمات في مسيرة التاريخ الانساني. قليلون اولئك الذين وقفوا على محور العالم وتحدثوا من ثم لكل البشر. ولأنفسهم بأفق وهموم شاملة وشخصية محضة كذلك وبقدر رؤيتهم للدنيا ولأنفسهم يعتنقون هذا الخلاص المجاني والعنيف: الشعر ولماذا على الشاعر ان يقف وحده ويحمل اوزار العالم ويظل امينا للينابيع وقناعاته التي تبدأ دائما بالخصام الحاد واللا انساني احيانا مع مثل ارضية بائسة وواقع لا يرحم وتأخذ روحه المتخطية الناظرة الى امام، بالقفز المنتشي فوق جدران وحواجز المدن الملتهبة، ولكنها تحترق اخيرا (روح الشاعر/الجسد) تشع.. تتوهج، كما كوكب يركض صوب الارض ويزداد لمعانا قبل الانطفاء، قبل ان تصل كما يحرق بوذي جسده ليكف.. عن ماذا؟ لا ادري، لكن البوذي والشاعر يعرف اكثر من اللازم.
ابدا بها جدب دنيا الشعراء، يوجع الماء ويخجل الشجر الصيفي لذلك:
“امش كل السنين شحاح…
اسكي بهاي ذيج تموت
“اسكت لا تعد الند بسبحة اليسر…
عملات اليسر بسكوت”
هكذا كان طارق في المدينة بصمت يأتي الاشياء (اليسر) ومع روحه يماحكها لقد تعب، ولم يعد مع الناس يجري في شوارعها الكئيبة، وتلك ازمة اعمق في المدن النصف حضارية، الناقصة واللابسة اخلاق البداوة ونمط العشيرة ماذا يفعل معهم.. انهم يريدون ويعيشون بقدر هذه الدنيا الشحيحة وهو يريدهم لا كما يعيشون. ذلك نزوع الرجل/ الشاعر.. الانساني الشامل الذي فجر عند الشاعر طارق وفق الشعر الموغل بالادانة والغضب والمشاركة الموجعة والجمال.
“تتشابج جروح الناس.. وجروحه
وتزود جروح
واشعاري وراي ارماح..
يشيمها النعي وتلوح
والدمعة التريد تطيح يدفعها الصبر للكلب…
وتغير مجاريها”
………..
“تون غير الونين اللي تونه الناس
واسمه ونين
غير اللي مله صور الفرات سنين”
-3-
بالفعل الثوري المتساوق مع الايقاع العميق والشجي للحياة الانسانية المعاشة وعلى اي مستوى كان.. يبدد التغيير، او قل: المساهمة الدؤوبة في تفجير معطيات الواقع نحو اضاءة الدروب الانسانية الذاهبة نحو الافضل.. نحو مدينة جديدة، لامعة مغسولة بالامطار الخضراء والشمس الصديقة.. والانسان المتفتح الواثب وكان طارق ياسين مع الشعر الذي يغني ويعمق الرؤية في الواقع ويشققه وبذلك ارتبط مبكرا بحركة الشعر العراقي الحديث، وكتب بلغة الناس اليومية شعرا تسامى بالذوق السائد صوب الاجود والاجمل وكوجود صادق وذات متجاوزة ومبدعة بحق، لم يمتهن التهويل والاعلانات البراقة عن الذات وفرح الوجه في ايما زاوية مغرقة بالضوء الكاذب والنفع الاني: ان مفهوم طارق عن الشعر الحقيقي الخالد ومهمته جعله يثق تماما بالابداع والاصالة فقط، وجنبه هذا الوعي الثقافي والاجتماعي النزيه ما سقط فيه الكثير.
“واشعاري وراي ارماح، يشيمها النعي وتلوح”
ولم ينفرد طارق الشاعر بطرف واحد من طرفي المعادلة الابداعية. ان للفن مهمة (فنية وشكلية من جهة ومن جهة اخرى له مهمة التوصيل والمشاركة الانسانية والفعل المغير والغضب لجروح الانسان وكبوات الثورة.
والمستقرئ لنتاج طارق الشعري يجد العديد من المواقف الشعرية الحميمة والمكتوبة بحرارة دافقة تغمر الانسان المحروم والمغدور وتنفعل به وله، انه الانسان الحاضر في الشعر الجيد وفي الحياة وليس ذلك (الانسان) الذي يكتب عنه بتجريد وبرودة شعراء الحرفة والمواسم القصيرة النفس، انه هذا الانسان الذي يمتلك ملامح نعرفها تماما ونلمسها له رائحة الحزن والصداقة وطعم المرارة في قلوبنا..
“حلب يا بن غريبة، يا غريب الروح.. يا مصلوب… فوك اثبات كل ردّه
حلب يلي سوادك سفن زنجية
ركص بيها الخليج وما نكص مدّه
ابيض مثل كل ثوره
اسود مثل كل ردّه”
وعن التجارب النضالية الموجعة والشامخة كتب (حلب بن غريبه) رجل اسود مستلب، قاتل في جنوب العراق واقع الذل والاقطاع.. تعذب وعانى الكثير ومن ثم قتلوه واستلهم شاعرنا جانبا من التراث الاسلامي الثوري ذي الامتداد التاريخي والعاطفي الحي والعميق الاثر في وجدان وروح الانسان العراقي، اذ ابدع (زينب) وغيرها من القصائد الرائدة التي لا تعلن صراخا مضامينها الجديدة بانفعال قصير ان فيها الغضب المبرر فنيا وموضوعيا والتقصي المولع بتداعيات الانسان وحالاته المركبة.. والبعيدة. ولم يكن طارق مع البعد السياسي المجرد في التجربة العراقية الغنية. ان البشر الذين تسحقهم الظروف الصعبة والاشكالات المختلفة وامراض التاريخ يتحركون في قصائده بحرية قاتلة وحنين غريب ويتحدثون عن ازماتهم وانكسارهم المرير (قطار الالم) و(وضوح اول) و(الى ابراهيم زاير) وغيرها من القصائد الاسئلة والشوق والعشق والالم النقي..
”ينحب دارنه اللي جان
مضايف للشمس
تنعب عليه بومه
ذلني الدهر، ذل حضني بدين اجناب
لون يا ديره يأخذني..،
قطار البصرة ويردني
لديار النخل والشمس والاحباب”
وظل طارق فيما كتب امينا لمنابعه الاولى وتجاربه الشخصية الصادقة (البيت.. تجارب الناس اليومية.. احزان ومباهج الطفولة، الاسئلة القاتلة عن الحياة، وفوارقها غير المقنعة، وخريفها الكابي.. وعن العشق ينأى ابدا، وحزن لا ينتهي، وأم صابرة دامية الحزن).
تتأكد قيمة الشاعر العراقي النبيل والانسان المتفرد طارق ياسين من خلال المعطيات الابداعية الفنية التي خلفها وبقيت والتي تشير الى موهبة شعرية فذة تمكنت بعد مكابدة وبحث حياتي وثقافي صادقين من استشراف افق الحساسية الشعرية للمرحلة وايقاعها وبذلك نكشف السر الحقيقي والدقيق في كتابة الشاعر للشعر الشعبي انه مع الحياة مع الانسان في هذا الوطن الحبيب، وطن الشعراء المقدس وحزنهم القديم ولا يمكن ان يكون غير ما كان، انه مع لغة الناس هنا، المحشودة بهم وبتاريخهم الأجتماعي والنفسي وبأحلامهم واوجاعهم الطويلة. وقد كتب طارق خيرة نماذجه الشعرية بهذه (اللغة اليومية) الأوسع مداراً والأقرب لروح الشاعر واصابعه، وعندما يجد انه نمطاً من التجربة والحياة، وهو الفنان المثقف الحضاري التطلع والمعاناة، فأنه يستخدم اسلوباً وشكلاً واداة أخرى فيكتب الرواية وقصيدة النثر والمقالة والاغنية وغير ذلك.
ان لطارق شرف المبادرة في الالتحام الحميم بحركة التجديد المعاصرة للشعر الشعبي العراقي وكأنه وجد بهذا التيار الابداعي ما كان ينشره وقد سار مع اصدقائه الشعراء نحو آفاق لم يتوقع العديد ان تصلها القصيدة العراقية الحديثة. لقد كان طارق ينحت على الحجر والأعشاب والكراسي القديمة حياته الخصبة بالشوق والألم وعذابه وصبره الطويل وبأناة وتواضع مبدع انجز ما سيبقى للأجيال الآتية علامة منتصبة في طريق الموهبة الصادقة والحياة العميقة ومصدر اشعاع رائع لرجل مخلص في الفن والحياة والمحبة، سيظل طارق ياسين خالدا وستظل المسيرة الشعرية التي سار بمقدمها متوهجة، مبدعة وسنظل أوفياء.
وبعد.. هل فيكم من يعتقد ان طارق ياسين قد مات !؟
ـــــــــــــ
-كتبت المقاله بعد وفاته مباشرة/ علي الشباني
أشارة – في يوم 8/10/1975 توفي الشاعر طارق ياسين..
مظفر النواب التباس اللغة.. حدود الابداع
مشروع النواب في الكتابة الشعرية بلغة الشعب اليومية المنبثق من نهاية الخمسينيات من القرن الماضي تزامن والنهوض التحرري والديمقراطي عقب ثورة 14 تموز 1958 الوطنية يعد من اهم المنجزات الساطعة في مسيرة الابداع الشعري العراقي المعاصر. وهو امتياز ابداعي منفرد للريادة الكتابية والفنية المتقدمة والباهرة لقصيدة النواب الشعبية، الجديدة في حينه. بالاضافة للموهبة المذهلة لشاعر مندفع في المشهد النضالي التقدمي وبأساليب تعتبر مبتكرة..واكثر غرابة.. ومواجهة للعقلية السلفية السائدة انذاك بمعطياتها المعروفة في الشعر… والحياة.
لمظفر النواب شجاعة المبدع المجدد.. المتفرد على مستويات عدة يفتقدها الكثير ممن كتب الشعر العابر ومحترفي النضال السياسي السهل.. السياسي في مشروع النواب الابداعي متجذر في العمق من العملية الفنية ومرجعياتها الحقيقية (النضال الحزبي والفكري المتواصل، زيارة الاهوار في جنوب العراق، ارتياد الغناء الريفي ومعايشة مبدعيه.. التزود بالذخيرة العميقة من الشعر الشعبي والفلكلور) والكثير من ذلك انه اذ يجتاز مرحلته على جواد مخضب بالدم والصهيل يترك خلفه حوافر السفر فوق تراب المسيرة.. والمغيب القادم دوما، انه التأسيس المتأصل بتجليات الأفق ومحبة الناس، لذا فقد كانت اشعاره الريادية الاولى محكمة البناء، زاهية اللغة، جديدة الموضوع وكأنها محاكة بصبر ودقة الشيوخ وذائقة العشاق النزقة، ولكن وتراكم الفعل السياسي المرحلي الذي وضع مظفركيانه الوجودي والشعري في خضمه وابتعاده عن مسافة الرؤية المعاشة والتي كانت من اوائل ممارساته المعتادة، وما يتركه الركون الاجتماعي الاليف الانغمار بكليات الفكر المتصارعة مع ذات الشاعر الهائمة والغريبة من ضمور حسي.. ومعاينة انسانية تبعد المباشرة عن الكيفية الشعرية الشعبية.
انغمار الشاعر في اليوم السياسي الشامل لابد وان يذهب به الى عموميات التجربة المفترضة، من ذلك نرى ان الانكفاء الابداعي للنواب بعد السبعينيات جاء اثر اغترابه المكاني والفكري ايضا (الاهتمام بالقضية الفلسطينية وكأن العراق لم يذبح يوميا) الا ان لمظفر شعر عن تجربتنا الوطنية المشهودة دون ان ينشره.
هذا الالتباس جعله يصرح بأن افق الشعر الشعبي محدود، ولايمكن الاستمرار بالكتابة (بالمحلية) على حساب اللغة الأم، ولم يقف ازاءالشعر الشعبي الحديث الموقف المطلوب لرائد في هذه الشعرية الرائعة المتواصلة بالاضافة الى انني تواصلت معه منذ البدء وزودته بالكثير من الابداعات المتميزة لهذا اللون الشعري، الجيد (ثم ان مجموعتي الشعرية المخطوطة في حينه “ايام الشمس” كانت معه) ثم ابلغني في رسالة قريبة انه لايستطيع ان يفعل شيئا ازاءها، كل هذا الكم الشعري والتواجد الابداعي الواضح (عزيز السماوي، ابو سرحان، رياض النعماني.. واخرين) لم يحرك فيه شيئا، علما بأن منجز النواب الابداعي يبتدأ بأشعاره الشعبية الأولى: (ريحانه وابن ديرتنه حمد، الحصاد) والكثير من القصائد المهمة. بعدها لايمكن مقارنة اشعاره بالفصحى مع شعراء العربية المتميز كالجواهري والسياب وأدونيس وسعدي يوسف وغيرهم، وكنت التقي بعدد كبير من الادباء والمثقفين العرب ليأكدوا لي جدارة وجودة شعر النواب الشعبي ومن ذلك يتضح الوهم الخطير الذي قاد النواب الى مجاراة البعد القومي القاصر في فهم الابداع الشعري وخسارته الكبيرة في ذلك ونضوبه الشعري المؤسف، وعلى العكس من ذلك تتجلى قدرة الشاعر الشعبي الحديث (خارج الوطن وداخله) في الكتابة الابداعية المتطورة والرائعة والمتواصلة، (العب، العب) من قصائد العشق المترهلة.. والمضطربة فنيا وشعريا لكونها مكتوبة باهمال وتحت ظلال القناعة النوابية المتأخرة.. والا لاين نضعها من شعره الشعبي في مراحله الاولى.. ومن شعرنا الحديث.
ـــــــــــــ
-الراصد 2003
الحصيري… الاشكالية الفارقة بين الحياة الشخصية ومستوى الابداع
يمكن لنا ان نضع حاجزا بين انطباعاتنا المباشرة وتأثير تفاعلات مشاركتنا اليومية الساخنة للراحل “عبد الامير الحصيري” وبين التقييم الابداعي لمنجزه وماقدمه لمشهد الابداع الستيني الشاخص في الثقافة العراقية.
المسار الحياتي الصاخب للشاعر ومنذ بدء طفولته وحتى رحيله المبكر 37 سنة يتسم بالكثير من التلقائية والتمرد الفردي والعنادة الشاخصة بكبرياء شعري وسلوكي متميز في كثير من مجابهات وتحديات الحياة اليومية والشعرية، ومع اننا نعرف جيدا ان نمط الحياة العامة في النجف الاشرف مدينة الشاعر الاثيرة ومستوى التعليم الفردي والعام مرورا بكل المعالم الروحية والسلوكية المعروفة لمدينة هر مركز ديني عالمي تقليدي مهم لامجال فيه لشاعر باستعراض تمظهراته المعرفية المحضة ومشهده الحياتي المولع بالغرابة والافتراق. من هذا نتعرف على السر الفاضح وراء هجرة الحصيري لمدينته الاولى باتجاه بغداد المفتوحة للتجارب المختلفة وللعديد من الثقافات الجديدة مع ان الشاعر يعلل ذلك بالكثير من مبررات التاريخ الزاهرة وامجاد السلف الغابر.
للنجف ماض حافل بشعراء كبار لم تعد تستوعبهم اسوار المؤسسة الدينية وابعادها الحاضرة وكان “لخروجهم” الريادي في الحياة والابداع مبرر للهجرة صوب الافق الأوسع والاكثر قربا من تطلعات شعراء الطريقة الكلاسيكية الجديدة وافاقها في اثارة وتوسيع مديات الشكل الشعري المقدس باتجاه العصر… والوطن القادم توا من ظلام الانكشارية العثمانية وعتمتها الكالحة ولنا في “الجواهري” الكبير.. انموذجا.
دخل بغداد هذا الصبي العارم، مبعثر الروح والحلم يقتحم ابواب العاصمة المضيئة بعنف لم تألفه سابقا مع انها تطامنت سابقا على طروحات الزهاوي الخارقة وغيره من الرواد بما فيهم رصانة الجواهري الهائلة، وضع الحصيري خلفه كل القامات السابقة بأمل راسخ في مجاوزتها وطرح النموذج الجديد الهادر لشعر العرب الاول مغايرة، فعل الحصيري كل ذلك بتحد صارخ واستعراض دراماتيكي مبهر وبمزاج شعري غير مألوف مع ان الكثير من المشتغلين بالوسط الأدبي والمعرفي يعتقدون ان السطوة التاريخية لقامات الشعر العربي الاول كالمتنبي.. والمعاصرة كالجواهري والتي اخذت مسافة من الزمن هائلة لاتجدي معها نفعا صعلكات شعرية ومشاريع رومانسية الهوى.. في بلد الشعر العريق، الا ان الدراية الواعية والمعرفة الرصينة بالمسار الابداعي لاي شكل شعري وتاريخي هو الطريق المجرب نحو الانجاز المغاير والمؤطر بقرارات التاريخ المبررة، سيما في مسرى شعري قديم اصبح من الصعب تحريره من الداخل باتجاه ذائقة متفتحة حديثا على رياح العصر الممثلة نسبيا بشعر التفعيلة الجديد. ليس ثمة خلود شكلي للشعر المهدد دوما بفؤوس الحداثة المتوثبة – كما وان الشاعر خالق الاشكال الشعرية ومغيرها لايرتدي اثواب الزمن المعارة ولا.. لكن للعصر دويا وللحياة اصواتا حتى وان كانت غارقة في الايام فان للشاعر سوامع وهواجس وخيارات تسبق مافي الكون من مظاهر عابرة ومراقب ذات تدرج تاريخي مهلك. هكذا هي رؤى الحصيري ومعاناته الدافقة مع الابداع ولكنه بموقف الحائر والمرتبك لم يستطع تجاوز الاشكال التي وقفت سورا ازاء حياته المرعبة، لقد كان يطمح بتغيير وجه الشعر العربي المعاصر ولكن بذات الادوات المستهلكة واساليب الاجداد الخيرين انها الخبرة الابداعية التي اقضت المضجع الشعري والحياتي للشاعر النجفي الصعلوك، وقذفت به في خيارات الطرق الصوفية والغرائب المدمرة في محاولة لتجسيد الاشكال القاتل في هذه التجربة.
كان على النجفي الشاعر ان يحرق عند ابواب بغداد الاصيلة كل ارديته العتيقة ويدخلها وهو يبذخ بعطاء العصر المفتوح وريحه العتيقة في الثقافة.. والوعي.. والحياة.
اشارات..
1. حاول الحصيري كتابة اشعار حديثة متحررة من قوانين القصيدة التقليدية الا انها لم ترق لأبسط منجزات الشعر الحرفي في العراق.
2. حاول الكثير من اصدقاء الشاعر المثقفين بما فيهم المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم ومن خلال العلاقات الأدبية الحميمة ان يقربوا الرؤيا الشعرية التقليدية للشاعر من ثقافة ومتغيرات العالم الجديد دون جدوى. وقد قال عنه الاستاذ عزيز: “ان في داخله اميرا عليه ان لايترجل لكن حكم الحانة كان طاغيا”.
ـــــــــــــ
-جريدة الصباح 2004

أسعد انسان في العالم..
قصيدة الأيام
-1-
“كزار حنتوش” شاعر شغوف بعفويته، حفر بدأب ودراية على صخور الشعر العراقي الحديث كي يرسخ له اسلوبا تعبيريا متميزا في المسارات الوعرة لشعر العصر وهو الحالم في زمن تزاحمت فيه السبل والاساليب.. واختلطت الاصوات، وليس ما أنجزه الشاعر بالأمر الهين.
منذ البدء قرر بذات الصيغة المنسابة.. والحالمة ان لايكون له غير هذا المسار مضحيا للسبب ذاته بالكثير من المتع الحياتية والملذات الفردية اللاذعة ومن ثم دفء الاستكانة لمعطيات العيش المتطامن، والاحلام السعيدة والساكنة لرجل مولع بالقناعة الفنية والابداعية التي تسوغ لعدد معين من الشعراء المتمردين حرية الانغمار الساخن والدافق في المياه السرية والغامضة للشعر الحديث والارتكاز القلق، احيانا على ماتمنحه هذه القناعة المخيفة من مظاهر ومشاهد تنحي الشاعر وتعفيه من كثير من مسوغات ومواضعات التواصل الاجتماعي والعمل الانساني اليومي ومجانسة النسق التاريخي المتوارث بايقاع الحياة المعتادة على المستوى الفردي الداخلي وسلوك الشاعر الخارجي وعلى العكس من ذلك يبدو التسكع على الحواف الخشنة للحياة اليومية والبطء في المسير الحاذق نوعا من الركون البائس للمنطلقات الفنية واالفكرية التي اشرنا اليها.
ان الركض الخرافي والتحديث المبصر والعميق في العمق الملتبس للحياة الغريبة والعكوف الغامر على المجسات الاكثر حساسية وحذر في الواقع في المهمة الشعرية المتعبة لشعراء العصر الجديد، لقد اختار، وكان الاختيار هو الأقرب لروح الشاعر من قرارات العقل والمعرفة الجاهزة حتى اني اقترح القدر ومصير الشاعر في التاريخ ومماحكات الايام على الكثير من نظريات وممارسة الافتعال الشعري العابر لهذا المدخل يصلح الى حد ما في فهم شاعرية كزار حنتوشوكذلك صف معين من الشعراء العراقيين ذوي النيات الشعرية السليمة والمنحى السلوكي الغريب من كون الشاعر أي شاعر هو محنة قائمة في الترحال الحياتي الصعب في الاقاليم الغامضة للروح الانسانية المبدعة كما لاتشرف احد ادانة أي مسك حياتي او ابداعي من زوايا ورؤى مغايرة كما لاتقف ازاء الشعر المبدع اية قرارات وشرائع حتى لو كانت ادبية محض وحده الصدق والموهبة والدأب في الحياة ومراياها وحده الابداع يقف مثابة لاهثة بالضوء والافاق والمسارات الوعرة ذلك ان (روما)الشعر تظل بعيدة.
-2 –
يكتب الشاعر -كزار حنتوش- اشعاره بلغة اليوم (الشعرية)المفتوحة والمألوفة والمكتنزة بروح الواقع المتوثبة ورائحة الانسان ويمكن لي ان اسميها اللغة (العراقية) الفصحى لقربها الشديد من البشر الغارق بهموم التاريخ وعذابات مراحل قاسية من الصراع والخوف والمحبة.. لقد سبق وان أنهى شعراء القصيدة الشعببية الحديثة منذ الستينات تحديداًهذه الاشكالية بالانتساب الى لغة الحياة اليومية المحكية مع ملاحظة التصعيد والانتخاب الشعري الموحي بطاقة توصيلية وتعبيرية فائقة ذلك بعد ان اخفق الكثير من الادعاءات وبيانات الاعلان الشعري الحديث لقصيدة اسموها (يومية) تارة و(شعبية) تارة اخرى و(عصرية) كذلك واحيانا قصيرة ذات فصاحة تنطق الطير. الخ لكن القصيدة الحق بقيت خارج جلد الانسان العراقي بروحه الشعرية الباذخة والمتواصلة والمتعطشة لاصوات منفردة لها سلطة التعبير الخارق عن هموم واهتمامات المرحلة وافق الوطن الشاسع.
هناك مسافة قلقة بين الهبوط اللغوي والرطانة الريفية الفجة ولغة الاقوام التقليدية الصارمة، عند هذه النقطة الساطعة وقف كزار حنتوش وهو يكتب بهذه اللغة الوسط ذات المنحى الديمقراطي في التناول والاندفاع التعبيري لاتنوء باوزار وقوانين اللغة (الأم) ولاتنتكس بلغة الشعب الحية صوب الفجاجة المسطحة لنمط من القول اللغوي البارد، لغة كزار اداة توصيل عادلة وساخنة يرفدها فيض زاخر من التجربة الاجتماعية والفردية العميقة الموشومة بالامثال والحكم الانسانية والاقاويل الشائعة والتي يفككها الشاعر او يضيء جوانب منها او يعيد صياغتها ويشاكس معطياتها التقليدية المستهلكة وقد يحتال عليها ليفجر منها طاقة ايحائية او ادائية جديدة اكثر تأثيرا واثارة.
ان الجسد اللغوي لاشعار الحنتوش يستاف الكثير من طاقة وغزارة وايحاء اللغة الشعبية المعاصرة ومدارس الشعر العربي (العراقية) السبعينية خاصة وشعراء الجنوب العراقي ذلك من دون النكوص او الميل التأثري في ذات النمط المشار اليه او الانسحاب التابع لهموم فكرية وابداعية عابرة انه لايتشابه مع احد كونه (مختلفا) ضمن الاوركسترا الشعرية العراقية الحديثة.
-3-
لشاعرنا هم اجتماعي وشخصي يتعادل والنمط اللغوي المستلهم في القصيدة ذلك بدقة الميزان الذهب كما وله طريقة تراكمية في الاسلوب الشعري عند تناوله بعض المواضيع الاثيرة لديه ولكنه يلامس وقد تتوحد مع اسلوبه في مواضيع اخرى حركة الحياة اليومية وطريقة الافراد المتميزين في المسار الرجولي لافعالهم الشاخصة (نماذج كفاحية) وقد يضيء الاقدام المتربة لحركة (ابن الشعب المغمور) واللاهث دوما نحو الافتراق الواضح عن السيادات الاجتماعية التالفة وتكرارات العيش المستهلك ومحاولته الدائبة لشحذ واجلاء حركة الفعل الانساني من صيغ الترسب اليومي الممل واتربة الايام الداكنة واضاءة المعدن اللاهث للرجل المعطاء في الحركة التاريخية للوطن الحبيب في مجتمع حنتوشي مثالي مفترض منصور في الذهنية الشعرية لكزار ذلك في اعتقادي عشق غامر للانسان العراقي ومحاولة استشهادية في ملء فجوات الذات السرية الداكنة والموحشة بعناقات اجتماعية باهرة وموغلة بالحنين والمحبة.
-4-
تتراكم الصيغ وتنثال العبارات الذكية ذات المفارقة المبهرة من دون ان تضع لها بناء ارستقراطيا اثيرا ومحكما، ان بناءات كزار الشعرية تشيد البيت العراقي الطيني الأليف والمفتوح على الشمس والناس والحرية واشعاره تمتد وتتسع كما تتحدث عن عذابها وحزنها ام جنوبية كبيرة العمر والهموم متعبة وغزيرة الحديث شاسعة الرداء تفرشه امامها هكذا صحيفة سوداء لتصب عليه كل الحكايات المرة والاحزان وتغرقه بعد ذلك بالدموع.
-5-
القصيدة كما يراها كزار حنتوش فعل سهل وسريع الانجاز ذلك انه على عجل من أمره دائما ليس لديه الوقت ولا المسوغ للمطاولة ومعاينة الأثر الشعري لحاجة نقدية ثقافية جديرة باعادة النظر احيانا، انه مشغول بالارض وتأمل الدنيا وايقاع الزمن المضاد كما وانه لايماحك قصيدته ويخضعها لقوانين العقل النقدي الصارم لقد اصبحت لديه القدرة عبر زمن شعري صاخب ومران في احتراف الكتابة المعادل الروحي لموت الشاعر على مكاتبة الشعر في أي زمان ومكان.
ـــــــــــــ
جريدة الثورة 2002