(1)
لم تدرِ فاطمة أن الرجل الذي تربّتْ على يديه هو عمها وليس والدها إلا اليوم.. دنت منه وفي غفلة من انتباهه سوّرت عنقه من الخلف بحنو يديها، لثمهما بحب وهو يقول:
ــ ماذا تريد أميرتي الصغيرة..؟ ها.. هيا قولي فهذه الحركات ليست عليّ..
دغدغت عنقه بشفتيها المضرجتين بالفرح وهمست في أذنه:
ــ همام يطلب المثول بين يديك يا ملك قلبي..
ــ ومن هو هذا الهمام يا بنت..؟
ــ إنه أستاذي في الجامعة.
ــ وماذا يريد مني أستاذك أيتها العفريتة الصغيرة..؟
ــ احزر يا أبي..
وسحبت كرسياً وضعته مقابل كرسيه وجلست، وهي ترمق وجه أبيها منتظرة جوابه بقلب تعزف خفقاته موسيقى فرح مترقب.
ــ أعطني ثلاثة احتمالات فأنا كما تعلمين فهمي على قدّي..
ضحكت من دعابته وقالت:
ــ الاحتمال الأول: الشاب يريد أن يخطبني منك، أما الثاني فهو سيناقش معك ميزانية الدولة، والاحتمال الثالث: ربما يكون الشاب قد سمع من مصدر ما أن عندنا صنفاً نادراً من الشاي لا يوجد له مثيل في العالم، وهو ربما يتشوّق للتعرّف عليه..
قهقه بغبطة وهو يحضنها ويقول:
ــ يا لئيمة.. أخبرته عن شاينا إذن..
ــ بابا.. كفاك مزاحاً.. متى يستطيع همام أن يزورنا..؟
تلبدت ملامحه بكآبة مفاجئة، فقد أدرك أن الثمرة التي تعهّدها بحسن رعايته قد نضجت، وأن ساعة قطافها قد أزفت.. والثمار الأصيلة تُؤتى من أشجارها وحسب، كي لا تغضّ يدٌ أو عينٌ أو لسانٌ من شأنها..
ــ أبي أين شردت، ولماذا تغير وجهك..؟
ــ اسمعي يا بنتي: سأخبرك بسرّ أخفيته أنا وامرأتي عنك طويلاً.
ضحكت بغنج وهي تقول:
ــ سرّ..؟ أي سرّ هذا.. أهذا وقت الأسرار يا أبي..؟ قل لي أولاً متى يستطيع همام أن يأتي إلينا..؟
ابتلع دموعه وقال بما يشبه النجوى:
ــ نعم هذا هو وقته تماماً، فأنا لست مُخوّلاً بتزويجك دون إذن والدك.
شهق القهر على شفتيها:
ــ والدي..؟ ومن أنت إذن..؟
طفرت الدموع من عينيه، ورن في ذهنه صوت أخيه فواز وهو يصرخ ساخطاً:
(خذ هذه البنت من وجهي، لا أريد أن أراها أبداً..)
ومرّت صورته المرعبة في مخيلته وهو يرفع الطفلة من قماط يُتمها، ويرميها في طرف الغرفة بقسوة لم ير لها مثيلاً من قبل.. وهو يزمجر:
(موتي يا وجه الشؤم.. موتي.. موتي..)
ــ أبييييي.. لماذا لا تجيبني.. لماذا.. أنت تمزح أليس كذلك..؟ ها.. قل إنك تمزح..
ــ اسمعيني فاطمة.. والدك هو أخي فواز، وقد توفيت والدتك ـ رحمها الله ـ لحظة ولادتك، فأقسمتُ على أخي أن يسمح لي بتربيتك، لكنه رفض بشدة، وقال وقلبه ينفطر حزناً عليك:
(كيف تريد لفاطمة أن تعيش بعيدة عن حضني وهي من رائحة الغالية..؟ ثم ألا يكفيها حرمانها من أمها لتُحرم من أبيها أيضاً..؟ يا لقسوتك يا أخي.. يا لقسوتك..)
لكني أقسمت بالله ثلاثاً إن لم يسمح لي بتربيتك بين أولادي فلن أكلمه ثانية.. عندها تراخى موقفه ولان:
( خذها يا أخي.. فكل شيء يهون أمام (زعلك).. ثم أنا مطمئن على فاطمة عندك وعند خالتها فهي في النهاية أخت المرحومة أمها..)
ــ ماذا..؟ أبي هو عمي فواز..؟ لا.. لا.. لا يمكن.. هذا الكلام ليس صحيحاً.. أنت هو أبي .. يا أبي..
وارتمت على صدره تنشج بقهر لم تتذوق طعمه من قبل:
ــ أرجوك يا أبي أنهِ هذه المهزلة، وقل إنك تمزح.. أرجوك..
ثم تصرخ بصوت مقلوب:
ــ أميييييي.. أين أنت يا أمي.. تعالي واسمعي ما يقوله أبي..
تقترب خالتها بخطوات واجفة ودموع الأسى تسبقها، فقد سمعت حديثهما بالكامل، ولم تجرؤ على التدخل حتى نادتها الفتاة التي تستجدي من عينيها ضحكةً ترمي كل ما قيل في خانة المزاح.. أومأت الخالة برأسها مؤكدة كلام زوجها، وهي تغمر الفتاة بصدرها وجوارحها وشهقاتها.
تهاوت فاطمة أرضاً، وهي تقول:
ــ معقول..؟ عمي فواز هو أبي.. لكنه.. لكنه لا يحبني.. أنا أعرف ذلك تماماً.. وذهبتْ في شبه غيبوبة شلحتها على تخوم الماضي في بيت عمها فواز.. إنها تلعب مع أولاده لعبة الغميضة، ويُغرغرون ضاحكين كجوقة عصافير تحتفل بالربيع، يدخل فواز الدار عائداً من عمله، وما أن يرى فاطمة حتى يكلح في وجهها ويصرخ:
( روحي من هون يا بنت.. كم مرة لازم قلك هالكلام.. لا عاد تجي عَ هالبيت.. الأولاد عندهم دراسة.. العمى ما عاد تفهمي)
وتغادر الطفلة الدار تجرّر أذيال البؤس والقهر..
تنتفض على رائحة البصل الوخاذة، وتفتح عينيها، فتبعد خالتها بصلة الإيقاظ عن أنفها، وهي تقول:
ــ لا تحزني يا بنتي فـ ..
لم تدعها تُكمل كلامها فهي تعرف ما ستقوله خالتها وعمها أيضاً.. وليست بحاجة إلى تطمينات أو طبطبات تُسكّن وجعها.. فقلبها الطعين يهتف:
ــ لا .. لا يمكن أن يكون عمي فواز أبي.. حتى أني لا أقبله عمّاً فكيف أقبله أباً..
أنا أعرف تماماً أن القصة التي رويتها لي يا أبي مُختلقة.. أتظن أني لم أشعر بغصتك واختناقك وأنت تشرح لي فضائل أبي، وتُمجّد حنّوه عليّ..؟
اسمع يا أبي: حتى لو كان عمي فواز هو والدي فأنا لن أعترف بذلك ولن يحظى مني بكلمة بابا طيلة حياته.
(2)
ــ ماذا تقول يا أخي..؟ عريس لفاطمة غنيّ وأستاذ في الجامعة..؟ طبعاً موافق.
ــ لكنها ترفض دخول بيتك، وأنا حاولت إقناعها ليكون زواجها بمباركتك طبقاً للأصول.. لكنها..
ــ لا عليك يا أخي أنا أقنعها، فالبنت لا يجوز أن تنتقل إلى بيت زوجها إلا من بيت أبيها.
وأشرقت عيناه وهو يتخيل عريس ابنته يناوله عدة رزم من النقود، فيضمّها إلى صدره بلهفة، ثم يتنشّق رائحتها ويلثمها، وعلى جبينه يضعها قبل إنزالها في مستقرها الأخير.
ــ وكيف ستقنعها ومتى..؟ خبّرني فالوقت يُداهمنا..
ــ اليوم مساء.. لا.. لا.. الآن.. سأذهب معك إلى بيتك ولن أعود إلا وهي معي ففاطمة ابنتي من لحمي ودمي، ولن يأخذها عريسها إلا من بيتي.. بيت أبيها.. هذه هي الأصول..
تأرجح رأس أخيه حسرة، وقال وهو ينهض:
ــ تفضل يا أخي إذا أحببت.
(3 )
لم تعش فاطمة في بيت أبيها سوى شهر واحد، خُطبت خلاله وتزوجت طبق الأصول.. وظل والدها يرفل في النعيم الذي يُتقن استمطاره من صهره حتى ترك الرجل الجمل بما حمل، وهاجر خارج البلد زاهداً في الأصول والفصول.. وعادت عبارة: (وجهها نحس) لتطفو على السطح من جديد، ولتصبح لازمةً لنشيد والدها الذي لا تغيب شمسه ولا يخبو سعيره:
( ألم أقل لك يا أخي إنها شؤم.. ووجهها نحس..؟) حتى الرجل ابن الأصول هرب منها..
ــ حرام عليك يا أخي ما فعلته وما تفعله.. حرام..
ــ حرام..؟ الحرام هو ما فعلته بنا، فقد حرمتنا الخير الذي كان يطمرنا.. أخي من الآخر:( لا أريد رؤية وجهها بعد اليوم..)
ملحق لابد منه:
وتقول الحكاية: إن فاطمة تزوجت مرة ثانية، وحملها زوجها من بيت عمها الذي رباها إلى بيته الذي يشبه القصر.. ومن يومها والبوّاب يحمل لها كل صباح رسالة يجدها مرمية على باب البيت، تفتحها وتقرأ ذات الكلمات:
(لأنك الأغلى يا بنتي أسميتك فاطمة على اسم أمك، فهي الحبيبة الأولى والأخيرة في حياتي..
والدك فواز)
تضحك دمعتين وشهقة، ثم ترمي الرسالة على صدر شقيقاتها داخل صندوق كبير كانت والدة زوجها الراحلة تستخدمه مكبّاً لما انقرضت موضته من المجوهرات الزجاجية.
توفيقة خضور