روايات مترجمة: (4) صاحب الفخامة الديناصور
(من الأدب البرتغالي) خوزيه كاردوسو بيريس
ترجمة: فاضل العزاوي
قراءة: ناطق خلوصي

يتوغل الروائي البرتغالي “خوزيه كاردوسو بيريس ” في عمق الماضي البعيد ويخرج بنسخة من الكائن المنقرض : الديناصور ، ليقدمها نموذجاً لكل طاغية يضطهد شعبه على وجه الأرض . وعلى الرغم من أنه كان يرى في الطاغية “انطونيو سالازار” الذي كان قد جثم على صدر الشعب البرتغالي ستاً وثلاثين سنة ، نموذجا ً للدكتاتور فإن في الرواية ما يوحي بتعميم هذا النموذج ليشمل كل مماثليه في النشأة والسلوك والتفنن في الإيذاء . تتقدم الرواية توطئة جاء فيها ” قال راوي الحكايات لإبنته ريتا : في هذه الأيام يمكن للمرء أن يحرم من كل شيء ، حتى الموت . يُنتزع منه الموت بنفس السهولة التي تُنتزع منه الحياة ، المحيا أو الكلمة ، طبقاً لأمور تمتلك أعلى قيمة ” .وجاء أيضاً” قبل زمن ليس بعيداً جداً كان يوجد يالفعل في مملكة القواقع الدنيا حاكم أصيب بجلطة في الدماغ ، جراء تطرفه الذي جعله ينظف الكلمات. بل يقال أنه لا يزال موجوداً سوى أنه ليس إنساناً أو تمثالاً لأنه قد حرم حتى من الموت ” (ص 7 ) وفي هذا القول اشارة صريحة إلى سالازار الذي عانى من شلل في الدماغ أواخر أيام حكمه . والرائي ، المتبصر ، العليم ،راوي الكلمات ( الروائي نفسه ) عمد إلى التوغل في الدواخل النفسية لشخصية هذا الحاكم / الدكتاتور وشخصيات أتباعه ، وحللها وكشف عن بواطنها وخرج بهذا النص السردي الحافل بالسخرية منهم جميعاً .
الرواية بترجمتها العربية كانت قد صدرت عن دار المدى عام 1994، ترجمها فاضل العزاوي وجاءت في 120 صفحة توزعت على مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة . كتب فاضل العزاوي تحت عنوان ” كلمة في هذه الرواية ” يقول أن : ” هذه الرواية المتألقة بقكاهتها السوداء وعذوبتها وشعريتها التي تجعل منها واحداً من أهم الأعمال المرتبطة بروح عصرنا ، تكاد تكون رواية يعرفها كل واحد عاش الخراب الذي تلحقه الفاشية بالروح الانسانية ” ويضيف أن ” ديناصور خوزيه كاردوسو بيريس مخلوق استثنائي مثل جميع الديناصورات التي مرت بتاريخ البشرية . إنه يقيم مجده الشخصي على الجهل والفقر ، ولكن أيضاً على حاشية من الدجالين المحيطين به ” .
يُستهل محتوى الرواية بالقسم الذي يحمل عنوان ” الرجل الذي جاء من العدم ” ليلقي الروائي الضوء على سيرة بطل الرواية إذ ” تفترض التسجيلات التاريخية القليلة أن هذا الحاكم قد جاء بالفعل من العدم ، وانه كان قد ولد في مكان ما في كوخ لوالدين معدمين أو لصعلوكين فقيرين فلاحين في منطقة ما ” ( ص11)، وهو ما تؤكده السيرة الشخصية لسالازار. وإذا كان تواضع النشأة لا يشكّل مأخذاً فأن ما حصل أن عصبة من المنافقين والدجالين وممتهني التصفيق ، عملوا على تجميل ماضي بطل الرواية حيث كان ، في رأيهم وهو طفل ” يحمل وسم الزعيم الذي لا تخطئه عين “. يضع الروائي في خانة ممتهني التصفيق قسماً ممن يسميهم باالداــ ليين أي ” حَمَلة دال الدكتوراه ” الذين وضعوا أنفسهم في خدمة سالازار (وهو نفسه يحمل شهادة الدكتوراه وكان خبيراً في الشؤون المالية واستاذاً للإقتصاد في الجامعة وبدأ حياته السياسية وزيراً للمالية كما تشير إلى ذلك سيرته الشخصية ، مثلما تشير إلى أنه أصيب بالصمم قي أواخر حياته ) ، واصطف هؤلاء في خانة المطبلين له لكن الرواية لا تعمد إلى التعميم إنما تعني نفراً من هؤلاء وهو ما يحدث في أي زمان ومكان . وأطلقت الرواية تسمية ” القواقع الدنيا ” على الناس العاديين .فالقوقعة الدنيا ” مخلوق على حافة الخلق ، بائس و ضئيل ، حيوان يقتات على الماء والملح، على عصير الأحجار أو على المعجزات ” (ةص 32 ). وتقدم الرواية صوراً للواقع الاجتماعي ولحالة البؤس السائدة في الدولة :” في ذلك العهد اهنزت المملكة بسبب البرد فانتقلت إلى ساحل البحر ، ما من أحد يعرف لماذا ، ولكن يفترض بسبب الجوع . جاء الجوع من أعماق البلاد وكنس كل شيء أمامه إلى المحيط” ( ص 31 ) . وفي إدانة صريحة تومىء الرواية إلى سطوة الكنيسة وتحالفها مع السلطة حيث كان الصليب يسير جنباً إلى جنب مع الراية ( علم الدولة ) اذ يرمز الصليب إلى السلطة الدينية وترمز الراية إلى السلطة المدنية ومن أوجه النفاق نفتق ذهن ذيول الدكتاتور من المستشارين عن أكثر من بدعة فقررواــ مثلا ــ أن ينصبوا مرايا خاصة لتصحيح صورة الدكتاتور فتظهره في صورة حاكم شاب باستمرار على غرار صورته الرسمية ، و” كان الجواسيس على هيأة قطعان يملأون الشوارع مكلفين بالوشاية باللغة “( ص 43 ) . فأمر الديناصور بتنقية اللغة لجعلها تتوافق مع أفكاره وتمتلك القدرة على التعبير عن آرائه ، وفرض سطوته على وسائل الإعلام وأصبح اسمه حاضراً في كل مرفق من مرافق الدولة . وكان هناك يوم للخطبة حيث يلقي خطاباته وسط مقاطعة الناس إذ تخلو وسائط النقل العامة ويكون سكان العاصمة قدهرعوا إلى الريف وسط دهشة الفلاحين الذين يتم تحشيدهم من قبل السلطة للحضور إلى العاصمة للاستماع للخطبة .
ولعل من أغرب ما في دولة الديناصور ذلك التمثال البرنزي الذي يمثله : “ذلك الحاكم البرنزي كان يذكّرهم بالدكتور الفلاح الشاب الذي جاء من العدم ” (ىص 46) . وكان هو يرى في التمثال أخاً له وعلى مستشاريه وأعوانه أن ينظروا إلى ” شقيق الدم ، الأخ التوأم ، الحاضر أبداً مثل صدى بعيد في نصف عتمة قاعة المجد” ( ص 46 ) ويعاملوه مثلما يعاملونه هو ، وتقدم الرواية نماذج من انعكاس سطوة الدكتاتور على تابعيه . فالقاضي الذي كان عليه أن يلقي خطبة مليئة بالمديح ، تراجع منسحباً بعد أن تلعثم بسبب حيرته عندما كان عليه أن يتحدث عن موضوعه الرئيسي المكلف بالحديث عنه . وكان المستشارون ورجال حاشية الدكتاتور يتدربون على القاء خطبهم ، من باب النفاق ،بحضور النسخة البرنزية منه . وكانت نهاية الدكتاتور في الرواية منسحقاً تحت أخيه التمثال البرنزي حين حاول أن يتشبث به وكأنه يستنجد به فانحرف التمثال وانهار الأخ البرنزي على أخيه . (إشارة :تشير سيرة سالازار الشخصية إلى أنه ظل يمارس حكمه الدكتاتوري حتى أواسط ستينات القرن العشرين فاندلعت تظاهرات طلابية وغادر آلاف البرتغاليين البلاد هرباً من الحكم الاسنبدادي . وبدأ هو يعاني من شلل في الدماغ عام 1968 ومات عام 1970.)

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *