إشارة :
رحل الشاعر العراقي المبدع “وليد جمعة” في المنافي البعيدة من وطنه العراق الذي أحبه وعشقه، وكان قضيته الوحيدة التي التزم بها بخلاف كل الإيحاءات السلوكية “العبثية” التي كوّنها عنه الكثيرون ممن عايشوه. تكريماً لذكراه ولعذاباته ومنجزه الشعري المهم، الذي لم يحظ بالمتابعة النقدية التي يستحقها تطرح أسرة الناقد العراقي هذا الملف عنه، وتدعو الأحبة الكتّأب والقراء إلى رفده بالدراسات والمقالات والصور والوثائق المتوفرة لديهم.
أسرة موقع الناقد العراقي
يصعب القول غالبا، كهذه اللحظة العراقية الطويلة، المريرة، حيث تختلط بقايا سومر بضحايا سبايكر، وشعب أور بمتظاهري ساحة التحرير، وما قاله السيّاب بما أفصح عنه طه باقر، وحنا بطاطو وجبرا إبراهيم جبرا وشاكر حسن آل سعيد، وأجيال من المفتونين بالجمال والانتماء والإبداع. يصعب وصف الشاعر العراقي وليد جمعة الذي توفي في منفاه الدنماركي المثلج، كوصف المغادر. فهو بغدادي صرف، ومنتم لكل نخيل العراق. تجتمع العاصمة وصوب الكرخ، حصراً، بجسده النحيل النافر. ومصير بلاد الرافدين بتشرّده وشتاته، بصلافته وعطفه. بلسانه اللاذع وطفوليته المبتكرة لكل ما هو مختلف في الكلام والتشخيص، والقصائد المختلفة أيضاً.
قارئ حديقة السبكي
وليد المشهداني أو وليد جمعة. كتب عنه كثيرون. لكنهم تجاوزوا العواصم التي كان وليد جمعة مختلفاً بها معهم حد الشتيمة الشعرية والاجتماعية. وفي دمشق شكته أغلب الأحزاب العراقية إلى أجهزة المخابرات السورية، بسبب لسانه المتبرئ منهم. وسخريته من أفعالهم وأقوالهم، فلم يسلم من لسانه أحد، ولا من تعليقاته التي لا تنتهي وهو جالس في مقهى الروضة. وهو يمشي كذلك، تنطلق المفردات من فمه واخزة كالإبر. مشاكسة ولاذعة. لم يرض عن أحد، ولا حتى عن نفسه، فقد كان يعتبر الرضى منقصة وموتاً مبكراً للإبداع والابتكار.
يقرأ في حديقة السبكي، ويسهر وينام في أيّ مكان، حاملا معه “أقراصاً ليزرية” لآخر أفلام السينما العالمية. فقد كان مولعاً بالسينما يغامر من أجل مشاهدتها في بيروت رغم الحرب. مجتازاً بيروت الشرقية والغربية إلى وسط البلد في سينما “تياترو”.
رثى وليد جمعة نفسه مبكرا في قصيدته “ملثم بالموت”، التي سمّاها لاحقاً “العبئريون سيرثونني”، كنحت لغوي محبب ومشاكس أيضاً، بين العبقري والعبري والعبئري “من اللهجة الشامية”.
وليد الملثم بالموت كان مصاباً بالسل منذ طفولته، لكنه ظل غير مكترث بهذا حتى تلف كبده تماماً. وفي منتصف السبعينات، وقت حكم حزب البعث للعراق، حين كانت شرطة وزارة الداخلية تحلق شعر رؤوس الشباب الطويلة، وتقطع قماش البنطلون الواسع، وتصبغ أرجل الفتيات اللواتي يلبسن تنانير قصيرة. صادف وقتئذ انعقاد مهرجان شعري حضره عدد من المسؤولين، كان من بينهم وزير الداخلية في الصف الأول، وظهر وليد جمعة على المنصة ليقرأ قصيدته. كان حليق شعر الرأس على درجة الصفر، يرتدي بنطالا واسعاً، فقال أول ما قال في قصيدته “عفطة ٌ قبل صباح الخير/ لوزير الداخلية”، وبعد بضع كلمات، عطفوا الشاعر إلى المعتقل.
جيل الستينات
ستيني مخلص لتجربته فقط، رغم سيادة الوجودية بين مجايليه حينئذ، لكنه كان معجبا بسلوك حسين مردان الشعري، وبوهيميته وعبثه، إذ قال لي مرة بإعجاب شديد إنه شاهد مردان نائماً في حفرة أساس بيت قيد الإنشاء ليلاً. نشر قصيدة وحيدة في مجلة “مواقف”. كما نشر ثلاث قصائد بالفصحى في جريدة السفير في آخر الثمانينات حين كان إلياس خوري مسؤول الصفحة الثقافية فيها.
لكن حين كانت تبلغ الشتيمة والطرافة مداها عند وليد جمعة، فإنه يكتب باللهجة الشعبية. فقد نسج على منوال قصيدة مظفر النوّاب “حن وآنه أحن” قصيدة لاذعة ينتقد فيها الأحزاب والقيادات، وسمّاها “حل وآنه أحل”، مفتتحاً بحلول الكلمات المتقاطعة في الصحف المحلية. وحين تعاطف مع تظاهرات العراقيين في بغداد لاحقاً، حمل لوحده يافطة في الدنمارك، مكتوب عليها “الشعب يريد الماء والخضراء والكهرباء والوجه الحسن”، وهو حين يخاطب وطنه، يتحدث معه كشخص آخر، مشاكس مثله. فيقول له بحرقة المعاتب “لك يا وطني”:
“أقولُ له في المرآة
تدبّر أمرك يا ولدي
من علّمك الكذبَ لهذا الحد؟
أنت مريضٌ بالدوخة منذ قرون
وتكاد تموت
فتدبّر أمركَ
أو جرجر تاريخك في الطرقات
واستجدِ لكَ عصراً حسن الطالع
سأختارُ علاجاً فعّالاً للوطن الأحمق
في القرن الحادي والعشرين
يتعيّنُ أن يقرأ دستوفسكي قبل النوم
لكي يأرق”.
في نقده لليسار العراقي ولقادته، كتب ونشر الكثير، بالفصحى وبالعامية. فنشر نصا في صحيفة “رصيف81” عنوانه “حين تأتينا الشتيمة من شبابيك اليسار”. كتب وليد جمعة:
وليد جمعة لم تغادر روحه الكرخ وبغداد والحياة الثقافية والسياسية فيها، رغم سفره وترحاله. فمنذ أن كان يجلس في مقهى “إبراهيم” أو “مقهى المعقدين” في بغداد. وبغداد لا تفارقه ولايفارقها.
“صفعة أخرى وتشحبْ
تتهاوى
وتقول الناس خانتْ
ربما أنت التخونْ
لا تقل أن الجنونْ
جبهة كالطير طارتْ
يا ابن آوى، كلنا مثلك ثعلبْ”.
كتب بالعامية عن قائد شيوعي معروف، اشتهر باعترافاته المتلفزة عن رفاقه، وعن تنظيمه السري. إذ غادر العراق بعد تلك الاعترافات، وأقام في لندن، واقتنى قطاً أليفا، يسمونه باللهجة العراقية “عتوي”، فمرض العتوي ومات، ومن شدة تعلق الزعيم السياسي بالعتوي، أرسل رسالة إلى وليد جمعة يطلب فيها منه أن يرثي القط بقصيدة مقابل ألف دولار، سيرسلها إليه حال وصول القصيدة، فكتب وليد جمعة قصيدة يسخر بها منه ومن طلبه ذاك.
السخرية مهارتنا الغائبة
يعد وليد جمعة شاعراً هاماً في مسيرة الشعر العراقي، يستخدم العامية لا محبة في استخدامها، بل كشكل من أشكال الاحتجاج والنقد. فهو حطيئة المرحلة المعاصرة من تاريخ العراق السياسي والشعري والاجتماعي، ولد في العام 1944 وتوفي في العام 2015 بلا مجموعة شعرية مطبوعة، لأنه لم يكن يسعى إلى ذلك. ولم يجمع قصائده أصلاً. يكتبها أو يلقيها مشافهة بين أصدقائه، يجمعها بعضهم وبعضهم يضحك فقط من شدة سخريتها ونقدها اللاذع.
كان وليد يدوّن تلك القصائد على وريقات صغيرة جداً، يرميها بعد تلاوتها، قال في قصيدته “ملثم بالموت”:
” ملثمٌ بالموت
عندي له عدّته الرثة
حبلٌ من القنّب
لا مقصلة
ملثمٌ بالموت
عندي مراسيم لدفني من يد القابلة
أقيس مسرى قدمي بينه
وبين جذب الأرض للسابلة
أنا الـذي لا أحـذق القهـقهـة
أفـقـأ عـين الـفرح المـشبوه إذ يرتقـي
سـطح مناخـاتي ويعتـادهـا
وعـندما تغـشّني غبطتـي
قـد أفرك الأيام من أذنهــا
أخبــرهــا
عن التقـاء الشـمـس بالمـزولـة
كـوني كمـا أنت.. رداء الـشـجن
وخـطـوة تعبـى عـلى مفـرقٍ مرتطـمٍ بالجنـون”.
وكتب عن حياته العراقية التي مرت مثل حلم :
“لقد كان حلما عجيبا
فلا مسلك الضيف كان غريبا
ولا رهبة الموت رهبة”.
منذ أن كان يجلس في مقهى “إبراهيم” أو “مقهى المعقدين” في بغداد. وبغداد لا تفارقه ولا يفارقها، رغم المنافي والتنقلات. بقي في الكرخ يقول:
“في الغروب النحيف وإذ أتذكر رأس الحواش
وعكد النصارى
والتسابيل..
أبجي.
في الغروب النحيف
رغم كل البلايا
أراه من المستحيل تماماً
كراهية «هذا» العراق”.
قصائد لا يمكن نشرها
هاجر وليد جمعة إلى الدنمارك في منتصف الثمانينات، مثل كثير من الأدباء والفنانين العراقيين، وعاش في دار للعجزة. كتب يرى مستقبله :
“سبعة أشـخاصٍ يجرّونني
سبعتهم بالرغم مني.. رفاقْ
لكننـي تـعـوزني حــفرةٌ
في أيّمــا مـقــبرةٍ فـي الـعــراقْ”.
لكن الشعر العامي كان مفتاحه على الجرح. وكان يحفظ الكثير منه. مثل شعر الملا عبود الكرخي. فكان شعر وليد جمعة خليطاً من الزهيريات الحادة ذات المواضيع الراهنة والإشكالية.
ولم ينس العراقيون قصيدته الشهيرة التي انتشرت في أواسط الثمانينات والتي تسخر من سياسي طالب، في مقابلة له مع صحيفة اللوموند الفرنسية، بتقسيم العراق إلى دويلات كردية، شيعية، وسنية. قال وليد جمعة في مطلع قصيدته العامية “عالكومله…عالكوملي/ هالكوم إله… وهالكوم إلي”، ويصعب نشر بقية أبياتها هنا لسلاطة ألفاظها التي رفض فيها تقسيم العراق وفقاً للمذاهب والأعراق.
صدر له عن «دار الجمل» بعد موته بيوم واحد، ديوانه الوحيد واليتيم “غروب نحيف”.
*عن صحيفة العرب اللندنية
يبدو ان الشاعر وليد جمعة هو بطل السخرية والنكتة في المشهد الشعري العراقي الستيني . وأنا أقرأ المقالات المنشورة عنه هنا تذكرتُ ما يُروى عنه حين التقى ذات يوم في مقهى بغدادي عن طريق أصدقاء له مثقفاً عراقياً خبيراً في الأدب وقارئ متمرس للروايات .. سأل وليد هذا المثقفَ الجاد فيما اذا كان قد قرأ رواية ( العقيمة والجراب ) ، فأجاب المثقف بالنفي ، مضيفاً انه لم يسمع بأِسم هذه الرواية من قبل .. كان وليد يلعب على اسم رائعة دوستويفسكي ( الجريمة والعقاب ) وقد بدَّل الحروف في الكلمتين المكونتين للأسم بدهاء ومكر بحيث ضاع الأمر على المثقف ، واكتسب الأسم الجديد الذي نحته وليد طاقة ساخرة كبيرة ، فكلمة الجراب في اللهجة العراقية لها أكثر من معنى ، ومن معانيها شتيمة وتعني النذل أو الرديء أو ماشابه . أعتقد ان في سخرية وليد رفضاً للواقع وثورة عليه وتعبيراً عن حنقٍ مكبوت وتذمّرٍ سُدت أمامه أبواب التعبير الأُخرى .
أحزنني موت وليد في الديار البعيدة الباردة بهذه الطريقة الموحشة ، و الّمتني رؤية صورته الشبحية قرب المستشفى قبل ثلاثة أيام من رحيله .. استوقفتني آخر عبارة ملحقة بالمقال الذي كتبه الأخ الشاعر سمير السعيدي اذْ تقول ( صدر له عن دار الجمل بعد موته بيوم واحد ، ديوانه الوحيد واليتيم ـ غروب نحيف ـ ).
لماذا بعد موته بيوم واحد يصدر ديوانه الوحيد عن دار الجمل ؟! مصادفة ؟! حسابات فلكية أو ايحاءات تنجيم ؟! وكم من السنين أو الأشهر مكث ديوان وليد منتظراً في دار الجمل ، هل أنتطر سنتين أو سنة واحدة أو بضعة أشهر ، أما كان من الممكن الأِسراع في طبعه والشاعر يجابه المرض ويرقد في المستشفى ليرى نتاجه في كتاب فيشد من عزمه و يسانده في مجابهة المرض أو يهديه الشعور بالعزاء والمواساة والأِحساس بخلود منجزه الشعري وقد حضر في كتاب سيبقى ؟!
العبارة تستدعي السؤال منطقياً لذا نتساءل .
تحية كبيرة لموقع الناقد العراقي
وتحايا عاطرة للأستاذ الشاعر سمير السعيدي
وتحايا تليق بتعليق الشاعر الأستاذ “كريم الأسدي” الذي حقيقة استوقفني تعليقه كثيراً، التساؤلات التي نصادفها كثيراً بعد موت أحد الأدباء أو الكتّاب، نعم.. أوافقه واتساءل مثله..
نعم يرحلون لكن تبقى كلماتهم خالدة وعالقة بالتذكر، فالإبداع الحقيقي لن يموت..
محبة واحترام
عزيزتي الاديبة العراقية ذكرى لعيبي ..
شكراً جزيلاً على هذه المتابعة والأِلماحات الرائعة ..
نحن نتساءل ونسأل عمَّن وعمّا يستحق السؤال ، ونحاول ان نقول بصوتٍ عالٍ ما يجب ان يُقال و يصمت عنه الآخرون ، ولا سيما اننا نعيش مسلسل خسران وفقد مستمرين ، والخسارات تتراكم ، واللامبالون كثر للأسف الشديد ..
كنت أتمنى بالفعل لو صدر ديوان الأخ الشاعر وليد جمعة قبل رحيله ولو بفترة قصيرة ، وبما يكفي ليقيم له أصدقاؤه في الدنمارك حفلة بسيطة وان كانت في حديقة المستشفى أو في مكان قريب ، وربما كانوا قد قدموا اليه لزيارته متأملين و طالبين منه التوقيع على نسخهم من ديوانه .. مهما يكن من اهتمام الأخ وليد بهذه الأشياء فالأمر يمكن ان يؤثر ايجاباً في روح شاعر مغترب مريض ، وربما يزيد من عزمه في مواجهة المرض أو يعطيه الاحساس بجدوى حياته وانه ترك أثراً طيباً على هذه الأرض للآخرين . كيف حدثت مثل هذه المصادفة مع شاعر عراقي : ان يصدر ديوانه الوحيد و اليتيم بعد يوم واحد من موته ؟!. فهل كُتب علينا النكد الى أبد الأبد ؟!
تقديري ومودتي لكِ ولمنبر الناقد العراقي والمشرف عليه الأخ د. حسين سرمك واسرة التحرير وكتّاب الموقع .