إشارة:
ببالغ الاعتزاز والتقدير، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر فصول كتاب الناقد والموثِّق البارع “ثامر الحاج أمين”: “سيرة وجع عراقي: محطات في التجربة الحياتية والابداعية للشاعر علي الشباني” الذي يتناول جوانب من المسيرة الإبداعية الباهرة والثرة للراحل الكبير “علي الشيباني” وكفاحه الحياتي المرير الذي رسم نهايته المؤلمة. يأتي نشر فصول هذا الكتاب ضمن ملف الموقع عن الراحل علي الشيباني الذي تدعو الأحبة الكتاب والقراء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للناقد ثامر الحاج أمين.
أسرة موقع الناقد العراقي
نداء أول
نداء من شاعر في الفرات العراقي الاليف.. والحزين.. وقد صمتت القصيدة في روحه القلقة لتنطلق الكلمة الدامية وهي تقول:
شعبي الصابر..النبيل
شعوب الارض الانسان الطيب في كل مكان
احبتي…
كل من يسمع.. ويقرأ.. ويرى.. وقد يحزن.. ويموت لكل الكائنات.. بمحبة غامرة، لكم جميعا صوتنا الملتهب، المحترق دوما بحروب الصغار الكبيرة، وعذاب المؤسسات المعتمة وجراح الوطن التي لو وزعت بالعدل تماما على البشرية لكفى وظل منها الكثير يبحث عن اجساد بشرية بقية يلوثها العنف والهمجية، ايها الشرفاء في ارض واحدة ضمن كوكبنا القلق هذا.
اصدقاءنا.. نحن التجمع البشري القاطن منذ الأزل بين نهرين صديقين وأرض كالقلب حميمة.. وباذخة بالعطاء.. والحنان.. والمحبة. نحن.. وقد اسمانا الرب (عراق). عراق. ليس سوى العراق وينزف هذا الجسد المقدس الذي اسمه (عراق) منذ عقود بعيدة في الزمان. ولاأقول انكم تتفرجون ببرودة على مرأى الدم الرافديني النبيل.. وهو يهدر يوميا.. لا.. انما كنتم لاترون لقد وضعوا دون عيونكم وابصاركم ارضا اخرى.. متآمرة على ارض الانسان الطيبة افتحوا العيون لنا.. فقد هوت ارض الانذال الى الجحيم في هذه الايام الكونية المشهودة.. افتحوها لمرة واحدة ولاأظنكم سوف تطبقون جفنا بعد ذلك.. يهرب النوم ومن قلوبكم لهول ماترون.
الغش العالمي الخطير، يبدأ من هنا من اقدس ارض.. في الكون.. اسفا.. يبدأ من صبي مغشوش اسموه “صدام حسين” وكان ظهوره القذر محصلة قاتلة للعسف التاريخي الطويل لعراق العالم: لايمكن لأي شرير أزاء جمع من الاخيار ان يفعل كما فعل هذا (الصبي) الذي شاخ، وهو أصغر من ان ينشأ افعالا مهمة، ولكن اكبر في هذا الزمن طغاة كثر، وهو امتياز له، لايشرف حتى المتسخين. للشر قانون كما ارى ايها الاصدقاء، وليس لقاتل ينتسب زيفا لوطني اي قانون، كاد وطني ان يتعب وهو يحاول ان يزيح هذا الشبح المثقوب ظل هذا الوهم الملتاث يزرع اسنانا جديدة لولائمه المتكاثرة، اسنان، اسنان مدماة لوحش لايكف وضحايا يكثرون.
محبي الخير.. محبي الانسان محبي الماء، والقصب، والحتاء والجبل اعزائي عشاق كل الكائنات تحت ازيز الطائرات البيضاء والذكية، طائرات النخوة الكونية المتأخرة وعلى ضفاف الفرح العراقي الغائب والذي امسك بأذيال منه شعبي الطيب هذه الايام، نصرخ بكل انسان له اذنان غير مشتراة، له قلب ينبض في كل الاجساد، له لغة غير مستعارة، له دم، نصرخ ان اسمعوا ولا شيء اخر. نحن الذين سوف نركض كل العمر على مدى صراخنا الدامي، ونموت كشجرة ابناء وطني تراصوا مع الافق مع بعضكم باخاء لم يشهد تاريخ الشعوب مثيلا له، تراصوا كم يسكن شهداء وطني تحت ترابهم المقدس، ويفرحون لقد تعب التراب من قلقهم المرهق عليكم من بكاءوهم الذهب على موتكم المستمر.
نصرخ وبفم عراقي واحد وسعة كوكب ارض هائم من يسمعنا فليسمع ومن يتحاشى صراخنا هذه الايام سوف نغلق في جسده طاقة السمع الى الابد اسمعوا شعبي ايها السامعون لقد قدم الفاتحون، لقد جاءوا على افراس من حديد اليف لقد جاءوا لايحملون لكم دينا جديد، ولارؤيا اكثر من تحملون انتم تعلمون الحضارة للانسان انتم تعلمون العلم علمكم.
انتم تغمرون تراب المعمورة بدماء ودموع الفرع، انتم وقد اسماكم الرب في لحظة عبق ربانية كاسم (عراق) جاءوا بفرح تأخر جاءوا بتوبة من الحضارة المعاصرة لحزنكم الغائب جاءوا كي نجلس معا على تراب السبي المقدس جاءوا ببركة المتغير والسلام، جاءوا لكم وللعالم بنصر جديد.
الاخاء والسلام.. لافتة عراقية مضيئة
(1)
يبدو الأمر لمن هو خارج التراب العراقي المقدس مجرد مطلب وطني سهل، ذلك ان سلام الانسان يبدأ من ترابه الاول حتى يغمره تراب المحبة والسلام الأخير، وفي وطن ذبحت حروب الفاشية العمياء حياته المتضامنة والساكنة وغمرت ترابه المبارك بطوفان الدم البشري الرافديني الجليل وأسلمته للضياع، والصمت الدامي الطويل.. في وطن له نهران أقدم حضورا في التاريخ من كل خرائط البشر اليافعة، حفرت الدكتاتورية البشعة نهراً ثالثاً له، يجري لاهثا بين النهرين.. قاتما.. قاتما مرعبا بالوحشة والجريمة والموت. ويبدو مطلب (حركتنا) المقدس في السلام لمن هو لم يعاين بعمق التجربة العراقية القاسية منذ منتصف الستينيات للقرن الماضي وحتى لحظة سقوط عرش الاله المتخلف الجاثم على الروح العراقية الرحبة مجرد لافتة حميمة.. عابرة بين مئات الأضواء الوطنية الباهرة في شارع الوطن المزدحم بالحرية وحضور الادارة العراقية الباسلة.
نحن تقول بالسلام لكي نكنسح بنبل وثبات كل التراث القذر لحروب النظام البعثي الزائل المتعبة.. ونضيء مسافات الانسان العراقي الغارقة بالعتمة والاحزان.. والعسف، ونسيرمعه بدراية ومعرفة انسانية قادرة على اعادته الى العالم بوجه نبيل.. حضاري.. مشرق لم تكن مجرد حروب عابرة او عدة معارك مع الجيران لحدود مختلف عليها او ازمة حدودية او اقتصادية او.. سرعان ماتزول، انما هو نمط من العسكرتارية المكرس لافتاء وتشويه الذات العراقية منذ الطفولة، انه العداء المغلق لكل كائن خارج الذات المريضة للحاكم وعصابته.. انه الانفتاح خارج الشعب لكل ماتمنحه قيم (القبيلة) واخلاقها المنحرفة من دمار.. وشره.. والغاء لكل صوت خارج جوقة (العوجان) الدامية.
نوع متميز بالكراهية الحيوانية لكل ما يمت للحياة ومشروعها الحضاري بصلة ثم الايغال في غلق كل النوافذ ازاء الصوت الوطني المنبعث من داخل الوطن الذبيح.. وتاريخ الارض العراقية الطيبة. لم يصل شيء لم تكن قادرون على ايصال شيء اغلقنا.. وبدأت العشيرة المجرمة المدنسة بذبحنا تباعا، في حروب مفتعلة قذرة.. مع الجدران المجاورة لبيتنا.. ثم مع انساننا القابع مقهورا في بيته المهدد على الدوام.
(2)
ولأجل ان يستمر جريان النهر الدموي الثالث في العراق كان على المؤسسة القمعية القذرة ان تشتت الابناء وتمزق جلد الوحدة الوطنية القادرة على الوقوف بوجه الطوفان الموحش والكاسح للفاشية لابد (وفق المفهوم الصدامي) للكرد ان يكونوا هناك في الشمال مهددين على الدوام ومقتولين ابد الدهر.. وبالغزو والتشويه والابادة والمحاولة في اقتلاعهم من روح الجبل الكردستاني المتين.. والأزلي، ولكي يغيب الماء سيد العافية عن روح الهور الشاسع ايبسوا الشمس في الاهوار واحرقوا القصب وضيعوا الانهار في جسد الوطن وكرسوا اليباس.. ثم مزقوا العائلة القبضة الانسانية الخالدة بالقتل والوشاية والافساد. وحدة الانسان العراقي المشهودة مهددة على الدوام بوحدة البعث العنصرية الضيقة والدموية والسائدة فوق كل شيء.
الآخاء.. وضمن مشروع الحركة العراقية الرائدة (الاخاء والسلام) لافتة مضيئة ناصعة تركض في شوارع الوطن الحرة والناهضة بقلب مشروع للتغيير والحرية.. والاخاء.
ـــــــــــــ
-جريدة السلام العدد 2 الثلاثاء 27/5/2003.
الديوانية جسر الطفولة الأول
-1-
لها صلة بالعشب، يسورها حزام اخضر ويخترق قلبها العشبي نهر صغير لمساره الرشيق خطى الصبية ونزق المحبين.. في زمن ما جاءت امي تملأ جرتها الفخارية من مائه الطيب، فتعلق بها الفتى(الدغاري) الاسمر.. والذي كان ابي، بعد رحلة مائية نقية تعبق بالهوى.. والغناء امتشق من قلب الفرات اليانع (نهر الديوانية) ساقية حالمة أخذها معه وهو يمشي في الليل دون ان يرى ويعي الساقية تتدفق خلفه الى حيث ضريح الامام الشيعي المذبوح عند اطراف تراب المدينة المالح.. المالح حد الانبات المتوحش عطشا وحرقة.. ثم اغتسل ابي واقفا بماء الساقية النقي عند مذبح الشهادة.. وبكى امام عتبة (ابن الكاظم) المباركة ومن حفنة ساخنة من ماء القداسة المبارك رمى للهواء ماء وجهه لتتناثر نجوم الابوة ملء السماء والتربة والروح لحظتها صرخت بكل مافي الولادة من سحر وبسالة في جسد الامومة الصابر وركضت الى حيث ابي ينبت عشب الفرات تحت خطواتي المرتبكة فرط الرواء المولع بالارض.. والابوة.
هي الديوانية اطلق عليها فارس جنوبي في طفولة الزمن العراقي القاحل والتي للتو بدأت فيه مدن الدخان الريفي تعلو بيوت الطين وجذوع النخيل وسواقي الماء الطيني الفائض.. وغيابات الخبز الجائع اسماه بعد ان احتشدت روحه الغريبة بديوان الكرم والالفة.. واخر كتب عنها تاريخا يقول: ان سفن الحبوب القادمة من بصرة الوطن النائية وهي تصعد بالليالي الكثيفة الى فجر الفرات الاوسط المشع من جسد العراق الناحل محملة بالثمر والحناء وبخور الشرق العابق.. تطامنت الى حيث سور الديوانية الطيني ومن ثقب في السور رأى الفتى (القبطان) وجها خارقا، لم يمهله طويلا قبل ان يهبط في المحبة حد الهيام عاف سفينته رهن الليل والماء والهوى واعتلى سور المدينة بعد ان اتكأ على القمر مأخوذا بالعيون (الخزعلية) القاتلة.. تسلق الفتى النهري نخلة من خزاعة تسكن ضفة الشط المائل باتجاه نهايته الداكنة جوار ضريح الولي المقتول شرق المدينة (الحمزة الشرقي).
ما أدمنت مدينتي سورها الكهل، بدأت تنجب خلف السور فتيانها الجدد ويعمها فرسان حزامها الريفي الملون.. عشائر (الاقرع)الشجاعة على اليسار والخزاعل والجبور وغيرهم يمين الروح ومن دمها وطينها الحري الذي تأكله الامهات الفراتيات في الحمل ابتغاء للبركة وولادة حنونة.
-2-
ذهبت بعد ان ملأت مسافات ابي الخضراء بالعبث والعصافير والمشاكسات اللاذعة (لو حكمت العصافير عالمنا لحكمتني بالاعدام الفوري).. الى مدرستي الاولى.. ابهرتني هيبتها وهي تعتمر تاجها الملكي المذهب يسمونها (الهاشمية) ومع فجر تموز المبارك ابدل المعلمون وطلابهم اسمها الى (الجمهورية) وبعد ان احكم الجلاد سنينها اسماها باسمه الكريه بعد ان خلع عنها وشاحها التموزي الخالد..هي امي الاخرى تماما. لها طعم الامومة في تعالمها والفتها وصدق مسارها، والخشوع المعرفي النبيل لدروب تعليمها الراسخ بالوطنية الخارقة في روحها العراقية الحميمة.. امبراطورها المهيب (حبيب الخزاعي) الاب الروحي والمعلم الاول للمدرسة العراقية الناهضة في عهد بدأ فيه النور تواً يأخذ مساره الرصين والفاعل. ذلك ان فجر الثورة الرائدة فضح لنا انتماءات معلمينا الافذاذ واسرارهم الوطنية البارقة واوحى لنا بذات المسار بعد ان اعتلى منصتها الاستاذ الشاعر (عبد الرحمن الخزاعي) وهو يلوح بخطاب العراق الجديد بشعره التقليدي الرومانسي الخفيف، للحرية والعدالة ويصطف معه استاذنا (حمزه محبوبة) وهو يوعد الخونة بالويل والثبور، لم أر يوما وانا انظر بعيون اساتذتي الا وهي محدقة بالأعالي والآفاق حتى بتنا نصدق ان استاذ الرياضة اليساري الشهير (حسن حاج علي) عندما يركل الكرة بقدمه الخاطف لانكاد نراها ولاتعود الى الارض ثانية.
ومن بين هديرنا الطلابي الصاخب والمندفع لعوالم الاسطورة والفداء خرج الشهيد الشيوعي الثائر (محمود ناصر) والذي حولته الثورة من ميادين الصعلكة ومعارك الشرف الاجتماعي الفردية المعروفة الى عالم القتال الطبقي والصبر الثوري العجيب، ولم يسترح الى ان سجنه لقتاله البطولي وغير المتكافيء ليقتل بغدر عند ضفة النهرالجنوبية الموحشة.. وظل وجهه النبيل مفتوحا للسماء ولم يجرؤا من الاقتراب منه حتى وهو ميت.
هكذا هو وجه المدينة المبلل بالتاريخ والبطولة.. والحزن.. أدمنت مع جيلي نهار الماء.. ومساؤه وسكن فينا الطمى وخدشتنا اسماك الاعماق المخيفة وللأصداف في عيوننا بريق لايوصف، كان ابي عاملا على الماكنة التي تدفع الماء من النهر الى سواقي العشب والثمر وقلوب المحبين، كان الحارس الحاضر دوما بوابة النهر ومواقف العشاق.. غدرني الماء عند لحظة عناقه للشمس مرتين حيث اصبت بالتيفوئيد في الاولى ليوصي الطبيب “شاكر الاطرقجي” أبي بعد ان توخى شفائي بأن لا أعود الى النهر ثانية، لأن المرض لايغادر الجسد في المرة الثانية الا وهو جثة هامدة.. او يوقعه بالجنون، لقد كان الدكتور المخلص صادقا لأني في السنة القادمة اوشكت على الموت تماما، لكنني فضلت ان اصاب بالصفة الثانية ومبكرا كتبت الشعر لأبرهن باللغة عن جنوني الجميل.
نهر الديوانية (ماذا فعلت بحياتي) لك في كل صيف ضحية من ابنائك، يبدو ان هذا الفداء الثمن الطفولي لاستمرار الحياة واللعب وبهجة الماء.. مازلت اتذكر وجوه بعض ضحاياك من صحبتي وابناء مدينتي.. مازلت ارى الامهات، ومنهن امي وهن يتخطين على ضفافك يحف بهن الصبية المذعورون اياما معدودة وينادين عبر الدم والطين وحليب الامومة الساخن والقلق بأن يعود (الغريق).
– مثل ام ولد غركان وابره الشرايع –
وكنت وفيا ومجيبا للنداء اذ سرعان ما يطفو جسد الصبي الغريق عند اقدامك اللآمعة معفرا بالعشب والاصداف وجراح الاسماك المتوحشة، عندها تستكين الام وكأن غريقها عاد حيا.. (لكم ان تقرأوا غركان – قصيدتي عن هذه المرارة-).
-3-
فتح لنا تموز ابوابا ساحرة، سرعان ماتدفقنا منها نركض حفاة وبثياب مصنوعة من ثياب اخرى… واخرى، حتى فقدنا لون ثوبنا الاول، لكن الزعيم الفقير -عبدالكريم قاسم- البسنا ثوب القمر وكتب بيده الكريمة على جبين كل واحد منا كلمات تلهب بالحب والمستقبل، وكساحر قادم من صحراء نائية، لضوء مساره دائرة زاهية بالضوء والمهابة التي تشبه حفيف اقدام الامهات الراكضات فجرا الى ضفة النهر يلبسن كالجنيات ثيابا ملطخة بالطين والحناء في اخر ايام عاشوراء الحسينية الدامية ويرددن بجذل:
– ماكو زعيم الا كريم-
وكان الزعيم يتراى لهن على مرآة الماء وجبين القمر العراقي الباهر وهو يلوّح بيده ووجهه الباسم لشعبه الحزين.. والناهض اما نحن فقد ذهبنا، بعد ان تمكنا من القضية والفعل الى بيت مضيء (للأنصار) وسط المدينة الحاشد، كان باب البيت ينتظرنا مشرعا للشبيبة سرعان ما التحمت كل قبضة شباب منا بجسد متين وباسق لثائر ينضح وجهه بالثقة والأمل، كان البيت يشبه بيت ابي عند الساقية المعشبة، على جدرانه اضاءت صورلثوار الوطن وشهدائه، تعلوها صورة ملونه للامام (علي بن ابي طالب) سيد ثوار الارض، وبعد ان سقت كل واحد منا اناء من اللبن الفراتي البارد وثلاث تمرات ومحبة، غادرت الام الديوانية الحالمة ليهبط لنا من درج ازاء الباب، كأنه النسر رجل دخل بصمت وقدم لكل واحد منا ورقة سمراء صغيرة يعلوها العناق الطبقي للعمال وكادحي الارض وبقلم واحد كتبنا عهد الفرسان الابدي.. ثم وبهمس واثق منح كل ورقة اسما جديدا، وصار لنا عندها اسم للمدرسة الاولى وآخر نعبر به جسر الوطن المحترق الى ضفة الحرية.. والسلام.
-4-
لم تمهلنا الدنيا طويلا كي نهنأ ونسير حثيثا بهذا (الطريق) الوطني الزاخر بالكبرياء والتضحية فقد احتشد الانذال من شتى الألوان لذبح واطفاء شمس الثورة ووشم نهر الديوانية الغنج بالكآبة.. والصمت.. خرجت المدينة غاضبة وكأنها انبتت لهذا اليوم اناسا جددا، لم اصدق ان معي في المشهد الملتهب من الثوار اولئك الصبية من مدرستي “الجمهورية” والاخرى الاكثر نضجا “التهذيب” الهرمة الآن.. ورواد مزارع أبي وماكنته الهادرة من العشاق.. واللاعبين بالدنيا.. والاعشاب.. رفعنا بيرق تموز وهامة قائده الشهم عاليا، كما ولمحت صديقي في الحلم والكلمات “عزيز السماوي” بقامته الزاهية وهو يهدر.. ويشتم المؤامرة، كنا جميعا في حضرة الوطن وهو موشك على السرقة والذبح، لكننا وككل الدعاة في التاريخ بلا نصرة ولا سيوف، بلا فؤوس تفتح ماء الغضب وتحرر الارادة، بلا ما يملأ ايدينا بالفعل وعقولنا باليقين المتقدم وعندما اوشكنا على
اليأس قلت لروحي:
– ماذا يجدي ان نقاتل ونحن عزل؟
بعد ان التأمت قطعان الذئاب البعثية، فتح الحرس القومي القاتل دكاكين الموت والدم والجريمة كنت حينها في (الاعدادية المركزية) في موقعها الحالي، جاء المتوحشون بعد ان انتهت العطلة القصيرة ليعتقلوا كل المدرسين، عدا ثلاثة فقط وعددا غفيرا من الطلبة كنت احدهم.
بعد ليالي العذاب المرعبة نودع جميعا في (معتقل الحي العصري) الشهير والذي حولته جماهير الديوانية بعد سقوط الفاشية في نيسان 2003 الى ارض مستوية.. في زاوية المعتقل المقابلة لبيتنا في الحي العصري تعلمت وعزيز السماوي وآخرون من جديد جدل التجربة والشعر.. والعدالة. تعلمنا بعمق وحكمة مباديء الحرية والقدرة البشرية الخارقة قدرة الجسد الانساني على المجالدة.. والتحول، وقدرة التجربة على ولادة شاعرها من ركام تجارب التاريخ والبشر نظرت (فطومة) الجريحة والشهيرة في محلتها باسم (ام علي) الى فتاها المحترق في ليالي الجريمة والخوف وهو يكاد يتلاشى من الذبول وغياب العافية والوجع ابتسمت عنوة وهي تنوء بالألم للآن لم اشاهد ابتسامة محشودة بالبكاء مثلها اوصتني بالتوبة هذه المرة والصبر.
– لقد فعلتها ياعلاوي واستعجلت عذابك وعذابي وعذاب الديوانية حبيبتك. وكيف تشتم الحكومة الظالمة وانت تأخذ مطبعتها من احدى المدارس.. يالجنونك وهذه مدينتك التي تحب بقيت خالية من محبيها.. المدينة التي احبها كل من مر بها حتى كثر من ادعى الانتساب اليها حتى كذبا، ياخذ كل ذلك شيئا من جدارتها ومجدها.. وقدرتها على صناعة الابداع والاسطورة لقد حزمت حياتنا بالوفاء والشعر والحقيقة وشيء من الغفلة نتركه كمسافة للطيب وعبور الضغينة والفشل.
كم انت زاخرة بالشرفاء من المبدعين والثوار حتى ولو حاول الفاشست صناعة عدد من المرتزقة الصغار وشعراء تحت الطلب، لكن راياتك في الشهادة والابداع تظل عالية.. عالية.. انت التي قال عنها فارس من العشاق ورواد ليل الماء والسفر.. انها لاتستحق سوى ان تكون (ديوانية).
في الطريق الى الحرية
في منتصف عام 1967 نقلت من مديرية الامن العامة القذرة الى معتقل (الفضيلية) بعد ان امضيت اكثر من أربع سنوات متواصلة في سجون عراقية مختلفة اطولها الفترة التي امضيتها في سجن الحلة المركزي لم أكن أعلم بمكان معتقل الفضيلية سوى أنني علمت، بعد ذلك بانه في الاساس كان مدرسة للتلاميذ في ساحة فارغة في طريق بغداد – بعقوبة، ارتأى المجرمون في الأمن العامة ان يكون معتقلا خاصا بحجز المناضلين العراقيين الرافضين لصيغ الاذلال والموالاة البائسة للدكتاتورية العارفية آنذاك، وضعت في غرفة صغيرة مع عدد من رفاقي في القضية، والأمل، وقبل ان نفترش ارض الغرفة أثارني وجود حفرة صغيرة وسط الغرفة مغلقة بالاسمنت، وعلمت بعد ذلك من المحتجزين الأقدم منا (ومنهم الشاعر الراحل حسين الحسيني) ان محاولة شجاعة جرت قبل مدة من الزمن لحفر نفق في هذا المنفى والانطلاق الى حيث الحرية والنضال، قاد الفعالية عدد من المعتقلين الثوار منهم المناضل الفلاحي المعروف كاظم فرهود.. هذا الأمر استدرج ذاكرتي لما حدث في سجن بعقوبة اثناء الخمسينيات من الحكم الملكي البائد حيث أنجز السجناء الشيوعيون عملية شق نفق خطير من داخل السجن الى هواء العراق الطيب وما رافق العملية من مرور النفق بجذر شجرة كبيرة ادى الى تأخير العمل باستدارة النفق حول الشجرة ونجاح التجربة بخروج عدد مهم من قادة الحركة الوطنية الثورية في حينه.. وفشل تجربة نفق معتقل الفضيلية استثمر سجناء سجن الحلة في عملهم القادم.
الحديث عن نفق سجن الحلة يقوده السجين المناضل (عقيل حبش) بجدارة ودقة وجلد يقترب من عمله المضني مع رفيقه الشجاع (فاضل عباس) في الحفر المتعب والمتواصل لأشهر عديدة وبكل مافي هذا الجهد من تفاصيل مهلكة وتحولات وتأثيرات داخلية وخارجية تكتسي باليأس والمرارة احيانا كثيرة. كان المناخ الثوري في البلد والحماسة الوطنية العارمة الهادفة الى ازاحة نظام عبدالرحمن عارف الدكتاتور الهزيل ومعاودة العافية الوطنية والانسانية لشعب مزقته الفاشية البعثية عام 1963، هذا وغيره من العوامل نهضت بالفتية البواسل في انجاز هذا الفعل النضالي الكبير. وكان الحضور الشخصي والمعنوي للشاعر العراقي الكبير مظفر النواب مع القادة السياسيين في ادارة السجن ومؤازرة قوى الثورة الفاعلة في الخارج من العوامل المساعدة في تنشيط الارادة الثورية وتجاوز الكثير من عوامل الضعف والتردد والمباركة الزاخرة بالحرية والحلم من سجناء الوطن الاحرار. الكتاب يحتشد باالجزئيات الانسانية المرافقة لهكذا عمل باذخ بالعطاء والحماسة النقية لكنها لا تنسحب الى حيث الملل والتكرار انما لشد القاريء والدخول به بيسر الى عتمة التاريخ المرعبة عبورا الى فضاء الحرية بانتشالات السرد التفصيلي اليومي الساخن والأليف. علمت بعد ان خرجت من السجن ان تجربة مماثلة لما حصل في سجن الحلة قد تم تنفيذه من قبل ثوار اليسار الماركسي في واحدة من دور امريكا اللاتينية في وقت مقارب لما حدث في العراق وان فيلما سينمائيا قد تم اخراجه عن هذه العملية، لذا ادعوا كل الأصدقاء من الفنانين والسياسيين والادباء والكتاب لادارة هذه العملية ومحاورتها من أجل اضاءة الكثير من تجارب الثوار العراقيين وعذاباتهم المشعة في مقاومة الفاشية والعسف.
ـــــــــــــ
-الصباح 2005
ينعقون كالغربان خيبتهم.. ويشتمون الوطن
ربما يبدو من الامور المثيرة حقا معرفة الموقف الفكري او “الشعري” والأدبي لقبضة معروفة من اتباع النظام الفاشي المنهار واعمدة الامبراطورية “الثقافية” المعروفة لحكم حزب السلطة البائدة وقائده “الضرورة” ومنشدي اشعار المديح الرخيص له.. ذلك بسبب الغموض والعتمة التي تكتنف حياة هذا النفر المهزوم وضياعه البائس على عدة اصعدة. والانطفاء المتواصل للمنابر الكثيرة المكرسة تاريخيا لخدمتهم والنفخ في كياناتهم لانهزامهم الداخلي البشع كونهم ابواق لأبشع دكتاتورية ومروجي بضاعة الصنم الفاسدة عبر سنين سوداء من عمر الألم العراقي الملتهب ولنا ان نلتفت للمطلب الثقافي والشعبي المتواصل بضرورة محاسبة هؤلاء واحضارهم للمحكمة العراقية العادلة كي تقتص منهم على جرائمهم في الثقافة والفكر.. والمال وامور اخرى، اخرها تحريضهم على قتل العراقيين ودعمهم للارهاب والجريمة ومحاربة حكومة الشعب الحرة والمنتخبة، حتى ولو باشعارهم المريضة. لقد وجد عدد من هؤلاء وغيرهم موقعا مفتوحا على الانترنيت ليقذفوا برداءاتهم ونعيقهم الخاوي من خلاله على “القاريء المشاهد” المفترض من قبلهم كي يتأثر كما يتصورون من خلال اوهامهم المزمنة وعاداتهم الفكرية المنخورة والا من يصدق ان شيخهم وهو يبلغ السبعين من العمر واهما، ان لم يكن مستغربا ان الارض في العراق قد تبدلت، فماذا جرى للارض حتى تبدلت، ولايدري للان ماذا جرى، اما في الزمن الذي ولى فان الارض التي يقف عليها هذا الشيخ الفاسد، فقد كانت في نظرة مستقرة، نعم هي مستقرة كما يرى له ولسيده الذليل. اما العراقيين والذي أبى المداح ان يرى عذاباتهم وموتهم الطويل فانها كانت كالبركان.. مستعرة.. ومحزنة، ولم يعد لهذا النفر السيء من (مثقفي الدكتاتورية) الملوثين من مبرر.. وصوت اما الاخر شاعر البداوة العربية كما يحلو له ان يسمى فقد أوغل في تشويه (الاساطير العراقية) وموروث هذه الامة العريقة فيما بين الرافدين وتحريفها باتجاه الاساءة لتجربة العراق الوطنية الحديثة وتعميق المسار التاريخي لهذا الوطن وحريته الجديدة بذريعة الاحتلال وكأننا في عهد سبده النكرة كنا احرارا.. من ان يأتي الخجل من شتم كل العراقيين، وهاهو ينضح بما فيه عندما يحتال على اللغة يهبط عميقا في الرذيلة ويقول هذا الشاعر البدوي خراب
خراب
خرا..
انه كذلك كما اعتقد
اما السيدة السومرية كما تحب ان يسميها احد المرتزقة الصغار فقد كانت خيبتها مخجلة وبكاؤها على اطلال مملكتها المنهارة يثير الكراهية، انها محقة تماما عندما تهذر:
دعوني من الهم اهذي
ومن قسوة الجرح اهذر
لان خسارتها مريرة، وعلى مستويات عدة، فقد كانت مدللة الدكتاتور ومؤسستها الاعلامية الشمولية الملوثة وقد غمرها دلال الكثير من المنتفعين والانتهازيين بقصائدهم التي تتغزل بالقوام الابداعي لهذه “الشاعرة” ورقتها المنسابة، الم يخجل هؤلاء؟ ويكتفي هذا البعض المغرض من سعيره الحاقد وهم يحشرون كياناتهم الضئيلة في المسيرة الديمقراطية الهادرة لشعبنا وثقافتنا الوطنية الزاهرة بعد ان سقطت اوسمة الجلاد تحت اقدام العراقيين وذهبت ادراج الرياح أحلام “شعراء ام المهالك والقادسية” وغيرها من حروبهم الكارثية.
ـــــــــــــ
طريق الشعب 2006